الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقيل: يجب منه الوضوء، وهو القول القديم في مذهب الشافعي
(1)
، والمشهور من مذهب أحمد
(2)
، وهو مذهب أهل الحديث
(3)
.
•
دليل الجمهور على ترك الوضوء من لحوم الإبل:
*
الدليل الأول:
(467 - 321) ما رواه أبو داود، من طريق علي بن عياش، قال: حدثنا شعيب ابن أبي حمزة، عن محمد بن المنكدر،
عن جابر قال: كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما غيرت النار
(4)
.
[اختصر الحديث شعيب بن أبي حمزة فأخطأ فيه، قال ذلك أبو داود، وأبو حاتم الرازي وابن حبان وابن تيمية وابن القيم وغيرهم]
(5)
.
(1)
قال النووي في المجموع (2/ 66): وفي لحم الجزور بفتح الجيم وهو لحم الإبل قولان، الجديد المشهور: لا ينتقض، وهو الصحيح عند الأصحاب، والقديم أنه ينتقض. وهو ضعيف عند الأصحاب، ولكنه هو القوي أو الصحيح من حيث الدليل، وهو الذي أعتقد رجحانه، وقد أشار البيهقي إلى ترجيحه واختياره والذب عنه. اهـ
(2)
الفتاوى الكبرى (1/ 296)، إعلام الموقعين (1/ 298)، الفروع (1/ 183)، الإنصاف (1/ 216).
وهناك روايات أخرى في المذهب:
أحدها: عدم النقض مطلقًا. والثاني: إن تطاولت المدة لا يعيد الصلاة، والثالثة: إن كان جاهلًا بالحكم فلا يعيد الوضوء، ولا الصلاة، وإن كان عالمًا أعاد. انظر كتاب الروايتين والوجهين (1/ 86)، المستوعب (1/ 212)، مسائل أحمد برواية أبي داود (ص: 15)، ومسائل أحمد برواية ابنه صالح (1/ 450)، الإنصاف (1/ 216).
(3)
انظر صحيح ابن خزيمة (1/ 21)، صحيح ابن حبان (3/ 432)، سنن الترمذي (1/ 120)، مسائل الكوسج لإسحاق بن راهوية (110)، الخطيب في الفقه والمتفقه (1/ 30).
(4)
سنن أبي داود (192).
(5)
الحديث مداره على محمد بن المنكدر، عن جابر،
وقد أعل هذا الحديث بعلتين: أحدهما: في الإسناد. والثانية: في المتن. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أما العلة في إسناده: فقد قيل: إن محمد بن المنكدر لم يسمع هذا الحديث من جابر، وإنما سمعه من ابن عقيل، وأكثر الأئمة على تضعيف ابن عقيل، فقد ضعفه أحمد، وابن عيينة، ويحيى بن معين، وابن المديني والنسائي، وأبو حاتم الرازي، وابن خزيمة، وابن حبان، ويعقوب بن شيبة، كل هؤلاء تكلموا في حفظ ابن عقيل، ومن رفعه لم يرفعه إلى درجة الضبط، بل قال: مقارب الحديث، والله أعلم.
قال الشافعي رحمه الله كما في كتاب المعرفة للبيهقي (1/ 395): لم يسمع ابن المنكدر هذا الحديث من جابر، وإنما سمعه من عبد الله بن محمد بن عقيل. قال البيهقي: وهذا الذي قاله الشافعي محتمل؛ وذاك لأن صاحبي الصحيح لم يخرجا هذا الحديث من جهة محمد بن المنكدر، عن جابر في الصحيح، مع كون إسناده على شرطهما؛ ولأن عبد الله بن عقيل قد رواه أيضًا عن جابر، ورواه عنه جماعة، ثم قال: إلا أنه قد روي عن حجاج بن محمد وعبد الرزاق ومحمد ان بكر، عن ابن جريج، عن ابن المنكدر، قال: سمعت جابر بن عبد الله .. فذكروا هذا الحديث، فإن لم يكن ذكر السماع فيه وهمًا من ابن جريج فالحديث صحيح على شرط صاحبي الصحيح». اهـ
قلت: ما ساقه البيهقي احتمالًا قد صرح به البخاري في التاريخ الصغير (2/ 250)، قال رحمه الله:«وقال بعضهم: عن ابن المنكدر: سمعت جابرًا، ولا يصح» .اهـ
وهذا ذهاب من البخاري رحمه الله أن ذكر سماع ابن المنكدر عن جابر في هذا الحديث لا يصح، وأن الحديث ليس على شرط البخاري.
وقد أخرج أحمد (3/ 307) حدثنا سفيان، سمعت ابن المنكدر غير مرة يقول: عن جابر، وكأني سمعته مرة يقول: أخبرني من سمع جابرًا، ظننته سمعه من ابن عقيل.
ولفظ ابن عقيل على فرض تحسين حديثه ليس فيه: (كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار)، وإنما فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أكل لحمًا، ثم توضأ، فصلى الظهر، ثم رجع إلى فضل طعامه، فأكل منه، ثم قام إلى صلاة العصر، ولم يتوضأ، وهذا اللفظ لا إشكال فيه، ولا حجة فيه على نسخ الوضوء من لحوم الإبل، بل ولا على نسخ الأمر بالوضوء مما مست النار، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وشعيب بن أبي حمزة وإن كان مقدمًا في الزهري، بل ويعتبر ثقة فيما يرويه عن غير الزهري إلا أنه متكلم في روايته عن ابن المنكدر، تكلم في ذلك أبو حاتم الرازي، وذلك أن شعيب أراد أن يسمع من ابن المنكدر، فكتب أحاديثه، ويظهر أنه جمعها من غير تثبت، فعرضها على ابن المنكدر، فعرف بعضها، وأنكر بعضها، ويظهر أن شعيب لم يصحح ذلك، لذلك وقعت المنكرات في رواية شعيب، عن ابن المنكدر، انظر كلام أبي حاتم الرازي في العلل (3/ 203 - 204)، وكلام ابن رجب في شرح علل الترمذي (1/ 166).
هذا فيما يتعلق بعلة الإسناد. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وأما العلة في المتن: فإن الحديث يرويه جماعة: منهم ابن جريج وابن عيينة ومعمر وأيوب وروح بن القاسم وغيرهم عن محمد بن المنكدر، عن جابر بأن الرسول صلى الله عليه وسلم نزل على امرأة من الأنصار، فقربت له لحمًا، فأكل، ثم حان وقت صلاة الظهر، فتوضأ، وصلى، ثم رجع فقربت له فضل طعامه، فأكل، فحانت صلاة العصر، فصلى، ولم يتوضأ.
فأراد شعيب بن أبي حمزة أن يختصر الحديث والقصة، فقال: كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار، فأوقع هذا الاختصار المخل في فهم غير مراد للحديث، وفهم الجمهور أن هذا الحديث بهذا اللفظ ناسخ لأحاديث الأمر بالوضوء مما مست النار، وكان شعيب رحمه الله يقصد من قوله: في آخر الأمرين: المقصود بالأمر: الشأن والقصة، وليس الأمر الشرعي.
قال أبو داود عن رواية شعيب بن أبي حمزة، عن محمد بن المنكدر: هذا اختصار من الحديث الأول: يعني: حديث ابن جريج، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بلفظ: قربت للنبي صلى الله عليه وسلم خبزًا ولحمًا، فأكل، ثم دعا بوضوء، فتوضأ به، ثم صلى الظهر، ثم دعا بفضل طعامه، فأكل، ثم قام إلى الصلاة، ولم يتوضأ.
وقال ابن حبان في صحيحه: «وهذا خبر مختصر من حديث طويل اختصره شعيب بن أبي حمزة متوهمًا لنسخ إيجاب الوضوء مما مست النار مطلقًا وإنما هو نسخ لإيجاب الوضوء مما مست النار خلا لحم الجزور فقط» .
وقال ابن أبي حاتم في العلل (1/ 64): «سمعت أبي يقول: هذا حديث مضطرب المتن، إنما هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل كتفًا، ولم يتوضأ، كذا رواه الثقات، عن ابن المنكدر، عن جابر، ويحتمل أن يكون شعيب حدث به من حفظه، فوهم فيه» . اهـ
وقال ابن القيم عن في زاد المعاد (4/ 377): «ليس فيه حكاية لفظ عام عن صاحب الشرع، وإنما هو إخبار عن واقعة فعل في أمرين: أحدهما متقدم على الآخر، كما جاء ذلك مبينًا في نفس الحديث: أنهم قربوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لحمًا، فأكل، ثم حضرت الصلاة، فتوضأ، فصلى، ثم قربوا إليه، فأكل، ثم صلى، ولم يتوضأ، فكان آخر الأمرين منه ترك الوضوء مما مست النار، هكذا جاء الحديث، فاختصره الراوي لمكان الاستدلال» .
وقال ابن القيم أيضًا في تهذيب السنن (1/ 138): «الحديث قد جاء مثبتًا من حديث جابر نفسه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعي إلى طعام، فأكل، ثم حضرت الظهر، فقام وتوضأ وصلى، ثم أكل، فحضرت صلاة العصر، فقام فصلى، ولم يتوضأ، فكان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار، فالحديث له قصة، فبعض الرواة اقتصر على موضع الحجة، فحذف القصة، وبعضهم ذكرها، وجابر روى الحديث بقصته» .
وقال ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (21/ 263): «ليس في حديث جابر ما يدل على ذلك - يعني ما يدل على الترك العام من الوضوء مما مست النار - بل المنقول عنه الترك في قضية معينة» . =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وهذا الاختصار من شعيب رحمه الله لم يكن اختصارًا موفقًا حتى ولو حملناه على أن المقصود بالأمر الشأن، والقصة. لسببين:
الأول: أنه يوهم أن الوضوء مما مست النار منسوخ، وليس كذلك؛ لأننا لا نستطيع أن نقطع أن الوضوء من رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة الظهر كان بسبب أكل اللحم، فقد يكون محدثًا، ولم يكن عندنا دليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين أكل من اللحم قبل صلاة الظهر كان على وضوء، ثم فعل الوضوء بسبب اللحم، بل إن ابن عقيل رحمه الله والحديث كما بينا إنما هو حديثه، سمعه منه ابن المنكدر، ولم يسمعه من جابر، قد روى الحديث عن جابر، وذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان وضوءه الأول عن حدث، وليس بسبب أكل اللحم، وسوف نسوق لفظها إن شاء الله تعالى حين تخريج الحديث.
الثاني: أن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينسخ قوله، فالأمر بالوضوء مما مست النار ثبت في أحاديث قولية في الصحيحين وفي غيرهما، وكون الرسول صلى الله عليه وسلم أكل لحمًا ثم صلى، ولم يتوضأ يجعل الأمر بالوضوء للاستحباب، وليس للوجوب، ولا يصح أن نقول: إن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم دليل على نسخ الأحاديث القولية، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا نهى عن شيء كان نهيه دليلًا على التحريم، فإذا ارتكب هذا النهي حملنا النهي على الكراهة ولا نقول: إن ارتكابه لهذا النهي دليل على نسخ النهي، إلا أن يقوم دليل على أن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم خاص به فنبقي الأمر والنهي على ظاهرهما.
وقد ذهب ابن تيمية رحمه الله إلى أن الوضوء مما مست النار ليس منسوخًا، قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (21/ 263):«لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث عام ينسخ الوضوء من كل ما مسته النار، وإنما ثبت في الصحيح أنه أكل كتف شاة، ثم صلى، ولم يتوضأ، وكذلك أتي بالسويق فأكل منه، ثم لم يتوضأ. وهذا فعل لا عموم له، فإن التوضؤ من لحوم الغنم لا يجب باتفاق الأئمة المتبوعين» .
فتفرد شعيب بن أبي حمزة بهذا اللفظ عن ابن المنكدر ومخالفته لأصحاب ابن المنكدر، بل ومخالفته لمن رواه عن جابر يجعل الحديث غير محفوظ، والله أعلم.
وفي تاريخ أبي زرعة الدمشقي (ص: 434): «حدثني علي بن عياش، قال: حدثني شعيب بن أبي حمزة، قال: مشيت بين الزهري ومحمد بن المنكدر في الوضوء مما مست النار، وكان الزهري يراه، فاحتج الزهري بأحاديث، قال: فلم أزل أختلف بينهما حتى رجع ابن المنكدر» .
[تخريج الحديث].
الحديث كما سبق مداره على محمد بن المنكدر، عن جابر، ويرويه جماعة عن محمد بن المنكدر،
الأول: شعيب بن أبي حمزة، عنه. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أخرجه أبو داود كما في إسناد الباب، والنسائي (185)، وفي الكبرى (188)، وابن الجارود في المنتقى (24)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 67) وابن خزيمة (1/ 28)، والطبراني في المعجم الصغير (2/ 3)، وابن حبان (1134)، والبيهقي في السنن (1/ 155) من طريق علي ابن عياش، عن شعيب بن أبي حمزة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، بلفظ: كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار.
الطريق الثاني: ابن جريج، عن محمد بن المنكدر به.
أخرجه عبد الرزاق (639) في المصنف، ومن طريق عبد الرزاق أخرجه أحمد في المسند (3/ 322)، وابن حبان (1130).
وأخرجه أحمد (3/ 322) عن محمد بن بكر، وأبو داود (191) من طريق حجاج بن محمد، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 42) والبيهقي (1/ 156) من طريق ابن وهب، كلاهما عن ابن جريج به.
وذكروا من لفظه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قرب له خبز ولحم، فأكل منه، ثم توضأ لصلاة الظهر، ثم رجع فأكل من فضل طعامه، ثم صلى العصر ولم يتوضأ. وبعضهم يزيد على بعض.
الطريق الثالث: سفيان بن عيينة، عن محمد بن المنكدر به.
أخرجه أحمد (3/ 307) حدثنا سفيان، سمعت ابن المنكدر غير مرة يقول: عن جابر، وكأني سمعته يقول: أخبرني من سمع جابرًا، فظننته سمعه من ابن عقيل. ابن المنكدر وعبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل لحمًا، ثم صلى ولم يتوضأ، وأن أبا بكر أكل لبأ ثم صلى ولم يتوضأ، وأن عمر أكل لحمًا ثم صلى، ولم يتوضأ.
وأخرجه ابن ماجه (489) من طريق سفيان بن عيينة، عن محمد بن المنكدر وعمرو بن دينار وعبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بنحوه.
وأخرجه الحميدي في مسنده (1266) والترمذي في السنن (80) عن سفيان بن عيينة، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، ومحمد بن المنكدر به، بذكر قصة في الحديث.
وأخرجه أبو يعلى في مسنده (2017) من طريق سفيان عن عبد الله بن محمد بن عقيل، ومحمد ابن المنكدر به، مختصرًا.
كما أخرجه البيهقي (1/ 154) من طريق سفيان عن ابن المنكدر وحده، بلفظ مختصر أيضًا.
وسيأتي إن شاء الله مزيد تخريج لطريق ابن عقيل وحده عن جابر في نهاية البحث.
الطريق الرابع: معمر، عن محمد بن المنكدر به.
أخرجه عبد الرزاق (639، 640) وابن حبان (1132). =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الطريق الخامس: أيوب عن محمد بن المنكدر، أخرجه ابن حبان (1137) من طريق محمد بن عبد الرحمن الطفاوي، قال: حدثنا أيوب به.
الطريق السادس: جرير بن حازم، عن محمد بن المنكدر، أخرجه ابن حبان (1138) من طريق وهب بن جرير بن حازم، عن أبيه به.
الطريق السابع: أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 65) وابن حبان (1139) من طريق روح بن القاسم، عن محمد بن المنكدر به.
الطريق الثامن: أخرجه ابن حبان (1135) من طريق محمد بن عبد الله بن أبي فروة، قال: حدثني محمد بن المنكدر به.
الطريق التاسع: رواه الطبراني في المعجم الأوسط (4974) من طريق يونس بن عبيد، عن محمد ابن المنكدر به.
قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن يونس إلا زهير بن إسحاق، تفرد به بشر بن معاذ.
الطريق العاشر: رواه الحارث في مسنده كما في زوائد مسند الحارث (1/ 99) من طريق عبد الوارث، عن محمد بن المنكدر.
هذا ما وقفت عليه من طرق إلى محمد بن المنكدر، ولم يتفق أحد من الرواة ممن روى هذا الحديث مع ما ذكره شعيب بن أبي حمزة من اختصاره لهذا الحديث بقوله: كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار، فكان هذا اختصارًا منه رحمه الله للقصة التي حكاها بعض الرواة من كون الرسول صلى الله عليه وسلم أكل لحمًا، ثم حان وقت الظهر، فتوضأ فصلى، ثم عاد فأكل بقية الطعام، ثم صلى العصر، ولم يتوضأ. فهل في هذه القصة ما يدل على ترك الوضوء مما مست النار بالكلية حتى يقال: إن الحكم الشرعي بالوضوء مما مست النار قد نسخ، وأصبح غير مشروع، أو يقال: إن هذا الفعل دليل على أن الأمر بالوضوء مما مست النار ليس للوجوب، وإنما هو للاستحباب، الثاني هو المتعين، والله أعلم.
انظر إتحاف المهرة (3688، 3702)، تحفة الأشراف (3047).
وكنا قد ذكرنا في بداية البحث أن حديث محمد بن المنكدر، إنما سمعه من ابن عقيل، عن جابر، ووعدنا أن نخرج طريق عبد الله بن عقيل في نهاية البحث، فهذا أوان تخريجنا لطريق عبد الله بن عقيل رحمه الله:
الحديث أخرجه أحمد في المسند (3/ 374) من طريق ابن إسحاق، حدثني عبد الله بن محمد بن عقيل، قال:
دخلت على جابر بن عبد الله الأنصاري ومعي محمد بن عمرو بن حسن ابن علي وأبو الأسباط مولى لعبد الله بن جعفر، كان يتتبع العلم، قال: فسألناه عن الوضوء مما مست النار من الطعام، فقال: وذكر قصة في الحديث، وفيها: وجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في صور من نخل قد رش له فهو =
ورد ابن حزم وابن التركماني القول باختصار الحديث، وقالا: إنما هما حديثان، وأيدهما أحمد شاكر رحمه الله تعالى.
قال ابن حزم: القطع بأن ذلك الحديث مختصر من هذا قول بالظن، وهو أكذب الحديث، بل هما حديثان كما ورد
(1)
.
وقال ابن التركماني: ودعوى الاختصار في غاية البعد
(2)
.
وقال أحمد شاكر: ومن الواضح أن هذا تأويل بعيد جدًّا، يخرج به الحديث عن ظاهره، بل يحيل معناه عما يدل عليه لفظه وسياقه، ورمي الرواة الثقات الحفاظ بالوهم بهذه الصفة ونسبة التصرف الباطل في ألفاظ الحديث إليهم حتى يحيلوها عن معناها قد يرفع من نفوس ضعفاء العلم الثقة بالروايات الصحيحة جملة
…
إلخ كلامه رحمه الله
(3)
.
= فيه، قال: فأتي بغداء من خبز ولحم قد صنع له، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكل القوم معه، قال: ثم بال، ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للظهر، وتوضأ القوم معه، قال: ثم صلى بهم الظهر، قال: ثم قعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض ما بقي من قسمته لهن حتى حضرت الصلاة، وفرغ من أمره منهن، قال: فردوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل غذائه من الخبز واللحم، فأكل وأكل القوم معه، قال: ثم نهض فصلى بنا العصر، وما مس ماء ولا أحد من القوم.
فهذا الحديث هو حديث محمد بن المنكدر، وقد ذكر البخاري والشافعي وسفيان بن عيينة أن محمد بن المنكدر سمعه من ابن عقيل، فلا يقال: إن هذا قد انفرد به ابن عقيل بذكر البول قبل صلاة الظهر، لأن حديث ابن المنكدر إنما سمعه منه، وهو نص على أن الوضوء قبل صلاة الظهر لم يكن سببه أكل اللحم، وإنما سببه الحدث، حتى ولو لم ينص ابن عقيل على هذا، فليس عندنا نص على أن الوضوء الأول كان بسبب أكل اللحم، وليس عندنا ما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان على طهارة حين أكل اللحم قبل صلاة الظهر، والأصل عدم الطهارة، وأن الوضوء قبل صلاة الظهر كان بسبب الحدث لا غير.
(1)
المحلى (1/ 243).
(2)
الجوهر النقي (1/ 156).
(3)
سنن الترمذي تحقيق أحمد شاكر (1/ 122).
وكلام أهل العلل كأبي داود وأبي حاتم الرازي وابن حبان ومعهم ابن تيمية وابن القيم لا يمكن أن يعارض بكلام ابن حزم وابن التركماني، وذلك أن ابن حزم رحمه الله لم يكن من أهل العلل أصلًا، وليست له عناية في هذا الفن، ومن قرأ كتابه المحلى قطع بذلك، وإن كان هذا لا يقدح في إمامته في الفقه، فالمرد عند الكلام على العلل إنما هو إلى أهله وصيارفته، وما ساقه الشيخ أحمد شاكر رحمه الله إنما هو من قبيل حسن الظن بالراوي، وهذا لا يمنع من الوقوع بالخطأ، والثقة بل الأئمة قد يقع لهم بعض الأوهام، فهذا مالك وسفيان والزهري وشعبة قد يحصي أئمة الحديث أوهامًا لهم وقعوا فيها، إما في المتن وإما في الإسناد، وليس ذلك بقادح في الثقة حتى يكثر ذلك منه، فإذا كثرت مخالفته قدح ذلك في ضبطه، والقول بأنه مختصر ليس قولًا بالظن، فإن مخرج الحديثين واحد إذ مدارهما على ابن المنكدر، ومعناهما واحد، والله أعلم.
وبناء عليه فالوضوء مما مست النار محفوظ غير منسوخ، وإن كان الأمر بالوضوء مما مست النار ليس للوجوب، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء، ثم أكل لحمًا وصلى ولم يتوضأ، فدل على أن الأمر بالوضوء منه ليس للوجوب.
وأن لحوم الإبل ليست العلة في الأمر بالوضوء منه كونه مما مسته النار، وإلا لم يكن هناك فرق بين لحوم الغنم ولحوم الإبل، لأن الجميع قد مسته النار، ومع ذلك فرق بينهما في الحكم في الحديث، كما في حديث جابر والبراء بن عازب، وسوف نأتي على ذكرهما إن شاء الله تعالى.
وقد يقال أيضًا: إن ترك الوضوء مما مست النار عام، والأمر بالوضوء من لحوم الإبل خاص، والخاص مقدم على العام، خاصة إذا علمنا أن الحديث قد جمع بين نوعين من اللحوم وكلاهما قد مسته النار، فعلق الوضوء من لحوم الغنم بالمشيئة، وأمر بالوضوء من لحوم الإبل، ولم يعلقه على المشيئة، والله أعلم.