الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والدَّمُ من أعظم المفطِّرات فإنه حرام في نفسه لما فيه من طغيان الشهوة والخروج عن العدل، والصائم أمر بحسم مادّته فالدَّمُ يزيد الدَّمَ فهو من جنس المحظور فيفطر الحاجم لهذا، كما ينتقض وضوء النائم وإن لم يستيقن خروج الرّيح منه لأنه يخرج ولا يدري وكذلك الحاجم قد يدخل الدم في حلقه وهو لا يدري.
وأمّا الشارط فليس بحاجم، وهذا المعنى منتفي فلا يفطر الشارط وكذلك لو قدر حاجمٌ لا يمص القارورة بل يمتص غيرها، أو يأخذ الدَّم بطريق أخرى لم يفطر. والنَبيُّ صلى الله عليه وسلم كلامه خرج على الحاجم المعروف المعتاد" انتهى كلامه.
11 - باب ما جاء من الرّخصة في ذلك
• عن ابن عباس، قال: احتجم النبيُّ صلى الله عليه وسلم وهو صائم.
صحيح: رواه البخاري في الصوم (1939) عن أبي معمر، حدّثنا عبد الوارث، حدّثنا أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، فذكره.
وكذلك رواه أيضًا أبو داود (2372)، والترمذي (775) كلاهما من حديث عبد الوارث، عن أيوب، به، مثله.
قال أبو داود: "ورواه وهيب بن خالد، عن أيوب، بإسناده، مثله. وجعفر بن ربيعة وهشام بن حسان، عن عكرمة، عن ابن عباس، مثله".
وحديث وهيب بن خالد هو ما رواه البخاري (1938) عن معلى بن أسد، عنه إلا أنه قال فيه:"احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم".
وقد قيل: "واحتجم وهو صائم". فيه نكارة، والصحيح:"واحتجم وهو محرم".
والذي يظهر لي أنه فعل ذلك في أوقات مختلفة، فإنه صلى الله عليه وسلم أحتجم وهو محرم مسافر؛ لأنّ المحرم لا يكون في بلده، وأخرى احتجم وهو صائم مقيم في بلده، والدليل على ذلك أن عبد الوارث لم يذكر في حديثه:"احتجم وهو محرم".
وأكد أبو داود أنّ رواية وهيب بن خالد، مثله. ومعنى هذا أنّ وهيبًا يروي الحديث في وقتين مختلفين مرة احتجامه صلى الله عليه وسلم وهو محرم مسافر، وأخرى احتجامه صلى الله عليه وسلم وهو صائم مقيم، فجمع الراوي عنه بين الحديثين في حديث واحد. وكلاهما صحيح، فإني لم أقف على من طعن في رواية عبد الوارث، ووهيب بن خالد كلاهما عن أيوب، وإنما ذكروا طرقًا أخرى وطعنوا فيها، ومن هذه الطرق:
ما رواه محمد بن عبد الله الأنصاريّ، عن حبيب بن الشهيد، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس، قال:"احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم".
رواه الترمذي (776) عن أبي موسى، عن محمد بن عبد الله الأنصاريّ، وقال:"حسن غريب من هذا الوجه".
ورواه النسائي في "الكبري"(3231) من هذ الوجه، وزاد فيه:"وهو محرم".
وقال: هذا منكر، ولا أعلم أحدًا رواه عن حبيب غير الأنصاريّ، ولعله أراد أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم تزوّج ميمونة.
قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله ردّ هذا الحديث وضعفه وقال: كانت كتب الأنصاري ذهبت في أيام المنتصر، فكان بعد يحدِّث من كتب غلامه وكان هذا من تلك.
ومن هذه الطرق ما رواه شعبة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس:"أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم احتجم بالقاحة وهو صائم".
رواه الإمام أحمد (2186)، والطبراني في الكير (12053)، والنسائي في الكبرى (3224) كلّهم من هذا الوجه.
قال يحيى بن سعيد: قال شعبة: لم يسمع الحكم حديث مقسم في الحجامة للصائم.
ومن هذه الطرق ما رواه يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس:"أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم احتجم بين مكّة والمدينة وهو صائم".
رواه أبو داود (2373)، والترمذي (777)، وابن ماجه (1682)، وأحمد (1848)، والبيهقي (4/ 263) كلّهم من هذا الوجه، ومنهم من لم يذكر:"وهو محرم صائم".
وفيه متابعة للحكم إلا أنّ يزيد بن أبي زياد وهو الهاشمي ضعيف باتفاق أهل العلم، وبه أعله أيضًا النسائي.
ومن هذه الطرق ما رواه قبيصة، قال: حدّثنا الثوري، عن حماد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم".
قال النسائي: هذا خطأ لا نعلم أحدًا رواه عن سفيان غير قبيصة، وقبيصة كثير الخطأ. وقد رواه أبو هاشم عن حماد مرسلًا.
ولحديث ابن عباس أسانيد أخرى فما جاء من وجه صحيح لا يُعلّ بما رُوي من وجه ضعيف.
والبخاري والترمذي وغيرهما ذهبا إلى تصحيح حديث ابن عباس: "احتجم وهو محرم، احتجم وهو صائم" على أنهما حديثان. وذهب الإمام أحمد ويحيى بن سعيد القطان إلى تضعيفه.
ولكن كما قلت: إني لم أقف على تضعيفهم لرواية أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس. وإنّما ضعّفوا هذه الروايات التي ذكرت بعضا منها.
• عن ثابت البُنانيّ، قال: سُئل أنس بن مالك صلى الله عليه وسلم: أكنتم تكرهون الحجامة للصّائم؟ قال: لا، إلا من أجل الضّعف.
وزاد شبابة: حدّثنا شعبة: على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم.
صحيح: رواه البخاري في الصوم (1940) عن آدم بن أبي إياس، حدّثنا شعبة، قال: سمعتُ ثابتًا البناني، قال (فذكره).
ورواه البيهقي (4/ 263) من طريق آدم شيخ البخاري، ثنا شعبة، عن حميد، قال: سمعت ثابتًا البناني وهو يسأل أنس بن مالك، فذكر الحديث.
قال البيهقي: والصحيح ما روينا عن آدم، فقد رواه أبو النّضر عن شعبة، عن حميد كما روينا. فأدخل بين شعبة وثابت "حميدًا".
وقال ابن التركماني في الرد على البيهقي: "صرَّح البخاريّ في روايته بسماع شعبة من ثابت.
وفي الصحيحين من روايته عن ثابت عدّة أحاديث فيحمل على أنه سمع هذا الحديث من ثابت بلا واسطة، ومرة أخرى بواسطة. وهذا أولي من تخطئة البخاري".
ولكن نصَّ غير واحد من أهل العلم على أنه وقع سقط في إسناد البخاري، كما ذكره الحافظ ابن حجر في "الفتح"(4/ 178) فراجعه.
قال الحافظ: قوله: "وزاد شبابة حدّثنا شعبة: على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم. هذا يشعر بأن رواية شابة موافقة لرواية آدم في الإسناد والمتن، إلا أن شبابة زاد فيه ما يؤكّد رفعه. وقد أخرج ابن منده في "غرائب شعبة" طريق شبابه، فقال: حدّثنا محمد بن أحمد بن حاتم، حدّثنا عبد الله بن روح، حدّثنا شبابة، حدّثنا شعبة، عن قتادة، عن أبي المتوكل، عن أبي سعيد.
وبه عن شبابة، عن شعبة، عن حميد، عن أنس، نحوه.
وهذا يؤكّد صحة ما اعترض به الإسماعيلي ومن تبعه، ويشعر بأن الخلل فيه من غير البخاريّ؛ إذ لو كان إسناد شبابة عنده مخالفًا لإسناد آدم لبيّنه وهو واضح لا خفاء به، "والله أعلم بالصواب" انتهى.
• عن أبي سعيد، قال: أرخص النبيّ صلى الله عليه وسلم في القبلة للصائم والحجامة للصائم.
صحيح: رواه النسائي في "الكبرى"(3241)، وابن خزيمة في "صحيحه"(1967)، والدارقطني (2268) وعنه البيهقي (4/ 264) كلهم من طريق المعتمر بن سليمان، عن حميد، عن أبي المتوكل، عن أبي سعيد الخدريّ، فذكره.
قال الدارقطني: "كلهم ثقات، وغير معتمر يرويه موقوفًا".
وكذلك قال ابن خزيمة: بأن لفظ الحجامة للصائم إنما هو من قول أبي سعيد الخدري، لا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أدرج في الخبر وأطال القول في ذلك.
ولكن لم ينفرد المعتمر بن سليمان في رفعه، فقد رواه النسائي (3241)، والدارقطني (2262)، والبزار. - كما في كشف الأستار (1012) - من أوجه أخرى عن إسحاق الأزرق، حدثنا سفيان، عن خالد الحذّاء، عن أبي المتوكل، عن أبي سعيد الخدري، قال: رخّص رسول الله صلى الله عليه وسلم -
في الحجامة للصائم.
وقال الدارقطني: "كلهم ثقات. ورواه الأشجعي أيضًا وهو من الثقات". ثم رواه من طريق الأشجعي عن سفيان، به. مع ذكر القُبلة.
وأشار البيهقي إلى هذه المتابعات، فقال:"وقد رُوي من وجه آخر عن أبي المتوكل مرفوعًا".
ثم رواه من طريق الدارقطني كما ذكرت.
ثم وقفت على كلام الدارقطني في العلل (2330)، فقال:"والذين رفعوه ثقات، وقد زادوا، وزيادة الثقة مقبولة".
إلّا أن أبا حاتم رجّح أن يكون موقوفًا، وخطَّأ كلَّ من رفعه حتى قال:"وهم فيه أيضًا معتمر وهو قد تُوبع". انظر: العلل (1/ 232).
قلت: على فرض صحة أنه موقوف على أبي سعيد، وأنه من قوله فحكمه الرفع؛ لأن الرخصة لا تكون من عنده، ولا من عند أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنما تكون من الشارع.
ولحديث أبي سعيد الخدري أسانيد أخرى إلا أنها كلَّها ضعيفة.
منها ما رُوي "لا يُفطر من قاء ولا من احتجم، ولا من احتلم".
رواه الترمذي (719)، والبيهقي من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عطاء، عن أبي سعيد، فذكره.
قال الترمذي: "حديث أبي سعيد حديث غير محفوظ".
وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ليس بالقوي كما قال البيهقي: "والصحيح رواية سفيان الثوريّ وغيره عن زيد بن أسلم، عن رجل من أصحابه، عن رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم".
قلت: وهو كما قال. فقد رواه أبو داود (2376)، وابن خزيمة (1975) من حديث سفيان الثوريّ، عن زيد بن أسلم، بإسناده، مثله.
ورواه عبد الرزاق (7538) من وجهين عن الثوريّ، بإسناده ولم يرفعه، وعن معمر، عن زيد بن أسلم، ورفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وفي الجميع رجل مجهول، لم يسم مع اضطراب في إسناده فمرة رفعه، وأخرى وقفه.
وضعّفه أيضًا المنذريّ، وهذه الأسانيد الضعيفة لا عل الأسانيد الصحيحة.
وأمّا ما رواه ابن خزيمة بإسناد صحيح (1971) من قول أبي سعيد: "إنما كرهتُ الحجامة للصائم مخافة الضّعف".
فهذا التعليل من أبي سعيد. وكذلك قول أبي سعيد: إنما كانوا يكرهون. قال: أو قال: يخافون الضعف، ليس فيه شيء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى يعارض قوله المطلق:"رُخص للصّائم" أو "أرخص النبيّ صلى الله عليه وسلم للصائم" مع بقاء الكراهة؛ لأنَّ النهي إذا رفع يكون مباحًا مطلقًا للجميع بدون
قيد الكراهة.
• عن أنس بن مالك، قال: أولُ ما كُرهت الحجامة للصّائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم، فمرَّ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال:"أفطر هذان". ثم رخص النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصّائم، وكان أنس يحتجم وهو صائم.
حسن: رواه الدارقطني (2260) وعنه البيهقي (4/ 268) عن أبي القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، حدّثنا عثمان بن أبي شيبة، حدّثنا خالد بن مخلد، حدّثنا عبد الله بن المثنى، عن ثابت البناني، عن أنس، فذكره.
قال الدارقطني: "كلّهم ثقات، ولا أعلم له علّة".
وقال البيهقي بعد أن نقل كلام الدارقطني: "وحديث أبي سعيد الخدري بلفظ الترخيص بدل على هذا، فإن الترخيص يكون بعد النّهي".
قلت: خالد بن مخلد وهو القطواني وشيخه عبد الله المثني هو ابن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاريّ البصريّ متكلَّم فيهما غير أنهما حسنا الحديث إذا لم يكن في حديثهما ما ينكر عليهما، وهما من رجال الصحيح، وقد شهد لهما ما سبق من حديث أبي سعيد الخدري كما قال البيهقي.
وليس في حديث أنس ما يدل على أن جعفر بن أبي طالب كان قد احتجم زمن الفتح. وجعفر قتل في غزوة مؤتة، وكانت مؤتة قبل الفتح، وبناء عليه قال بعض أهل العلم: إنه حديث خطأ. بل فيه ما يدل على أن احتجامه كان قبل غزوة مؤتة، والله تعالى أعلم.
قال البيهقي: "وروينا في الرخصة في ذلك عن سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو، والحسين بن علي، وزيد بن أرقم، وعائشة بنت الصديق، وأم سلمة رضي الله عنهم أجمعين".
وإلى القول بالنسخ ذهب الشافعي كما في "الأم"(2/ 108 - 109)، وعنه البيهقي (4/ 268)
بعد أن أخرج حديث شداد بن أوس زمن الفتح: "أفطر الحاجم والمحجوم".
وحديث سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس:"أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم احتجم محرمًا". قال: ولم يصحب ابن عباس النبيّ صلى الله عليه وسلم محرمًا قبل حجّة الإسلام، فيكون ذكر ابن عباس حجامة النبي صلى الله عليه وسلم عام حجة الإسلام سنة عشر، وحديث أفطر الحاجم والمحجوم سنة ثمان قبل حجة الإسلام بسنتين، فإن كانا ثابتين حديث ابن عباس ناسخ، وحديث "أفطر الحاجم والمحجوم" منسوخ".
وقال: "وإسناد الحديثين معًا مشتبه، وحديث ابن عباس أمثلهما إسنادًا، فإن توقي رجل الحجامة كان أحب إلي احتياطًا لئلا يعرض صومه أن يضعف فيفطر، فإن احتجم فلا تفطره الحجامة، ومع حديث ابن عباس القياس الذي أحفظ عن بعض أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم والتابعين وعامة