الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لهم، ويدل على ذلك أنَّ جميع الصحابة لم يوجبوا التمتع بعد ذلك العام ما عدا ما حُكي عن ابن عباس، فمنهم من كان يحج مفردًا، ومنهم من يقرن.
قال أبوعبدالله غفر الله له: الذي يظهر لي -والله أعلم- هو جواز الأنساك الثلاثة وأنَّ وجوب فسخ الحج إلى عمرة كان خاصًّا بالصحابة في ذلك العام، والله أعلم.
وأما قوله: «دخلت العمرة في الحج» ، أي: مشروعيتها خلافًا لأمر الجاهلية، والله أعلم.
(1)
مسألة [3]: أفضل الأنساك الثلاثة
.
• اختلف أهل العلم في ذلك على أقوال:
القول الأول: أفضلها التمتع، وهو اختيار ابن عباس، وابن عمر رضي الله عنهم، وهو قول الحسن، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وجابر بن زيد، وسالم، وعكرمة، وهو المشهور عن أحمد، وقولٌ للشافعي.
واستدلوا بأنَّ النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أمر أصحابه بذلك كما في الأحاديث المشهورة المتواترة، وقال لهم:«لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة»
(2)
، فَتَأَسُّفُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- عليه يدلُّ على فضله، ولأنَّ المتمتع
(1)
وانظر: «الشرح الممتع» (7/ 86 - )، «المغني» (5/ 82 - )، «المحلَّى» (833).
(2)
أخرجه البخاري (1651)(7229)، ومسلم (1218)(1211)(130) من حديث جابر بن عبدالله، وعائشة رضي الله عنهم، وجاء عن غيرهما.
يجتمع له الحج والعمرة في أشهر الحج مع كمالهما وكمال أفعالهما على وجه اليسر، والسهولة مع زيادة نسك؛ فكان ذلك أولى.
القول الثاني: أفضلها القِرَان، وهو قول الثوري، وأصحاب الرأي؛ لحديث أنس في «الصحيحين»
(1)
قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: «لبيك عمرةً وحجًّا» ، وحديث الصبي بن معبد أنه أهل بهما، فقال له عمر: هُديت لسنة نبيك -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-؛
(2)
ولأنَّ القِران مبادرة إلى فعل العبادة، وإحرام بالنسكين من الميقات، وفيه زيادة نسك هو الدم؛ فكان أولى.
القول الثالث: أفضلها الإفراد، وهو مذهب مالك، والشافعي، وأبي ثور.
واستدلوا بما جاء عن جابر، وعائشة رضي الله عنهما، أنهم خرجوا مع النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مُهِلِّين بالحج، لا يذكرون إلا الحج. وبحديث ابن عمر: لبَّى بالحج وحده -يعني النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- - وكلها في «الصحيح» .
(3)
واستدلوا بأنه صحَّ عن أبي بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم كما في «مصنف ابن أبي شيبة» (4/ 376)، أنهم جردوا الحج.
وبقول عمر رضي الله عنه كما في «صحيح مسلم» (1217): اِفْصِلُوا حَجَّكُم مِنْ
(1)
أخرجه البخاري (4353)، ومسلم (1232).
(2)
تقدم تخريجه تحت حديث رقم (693).
(3)
حديث جابر رضي الله عنه: أخرجه البخاري (1568)، ومسلم (1213)، وحديث عائشة رضي الله عنها أخرجه البخاري (1562)، ومسلم برقم (1211)(118)، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما أخرجه البخاري (4353)، ومسلم (1232).
عُمْرَتِكم؛ فَإِنَّه أَتَمُّ لِحَجِّكُم، وَأَتَمُّ لِعُمْرَتِكُم.
قال أبو عبد الله غفر الله له: القول الأول هو الصواب؛ لِمَا تقدَّم من الأدلة، وأما كون النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قَرَنَ ولم يتمتع؛ فكان ذلك بسب سوق الهدي، وقد تمنَّى عليه الصلاة والسلام أنه لم يسقه، وأحلَّ كما أحلُّوا، وجعلها عمرة؛ ولذلك فمن ساق الهدي فالأفضل في حقِّه القِرَان، كما قال أحمد رحمه الله، وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وأما ما جاء من أنَّ الخلفاء أفردوا فقد خالفهم غيرهم من الصحابة كما تقدم، وأما الأحاديث التي فيها أنَّ النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أفرد فقد عارضها أحاديث أخرى في «الصحيحين» في أنه قرن، وفي بعضها أنه تمتع.
قال النووي رحمه الله في «شرح مسلم» (8/ 135): وَالصَّحِيح أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَوَّلًا مُفْرِدًا ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ بَعْد ذَلِكَ، وَأَدْخَلَهَا عَلَى الْحَجّ؛ فَصَارَ قَارِنًا.
ثم قال: فَمَنْ رَوَى الْإِفْرَاد هُوَ الْأَصْل، وَمَنْ رَوَى الْقِرَان اِعْتَمَدَ آخِر الْأَمْر، وَمَنْ رَوَى التَّمَتُّع أَرَادَ التَّمَتُّع اللُّغَوِيّ، وَهُوَ: الِانْتِفَاع وَالِارْتِفَاق، وَقَدْ اِرْتَفَقَ بِالْقِرَانِ كَارْتِفَاقِ الْمُتَمَتِّع، وَزِيَادَة فِي الِاقْتِصَار عَلَى فِعْل وَاحِد، وَبِهَذَا الْجمْع تَنْتَظِم الْأَحَادِيث كُلّهَا. اهـ
وهناك جمعٌ آخر:
قال ابن قدامة رحمه الله في «المغني» (5/ 87): يُمْكِنُ الجمْعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، بِأَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ لَمْ يَحِلَّ مِنْهَا لِأَجْلِ هَدْيِهِ، حَتَّى أَحْرَمَ بِالْحَجِّ،
فَصَارَ قَارِنًا، وَسَمَّاهُ مَنْ سَمَّاهُ مُفْرِدًا؛ لِأَنَّهُ اشْتَغَلَ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ وَحْدَهَا، بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ. اهـ
وأحسن من الجمع المتقدم ببيانٍ هو كلام شيخ الإسلام الذي نقله عنه ابن القيم في «الزاد» (2/ 118 - ).
قال رحمه الله: وَالصّوَابُ أَنّ الْأَحَادِيثَ فِي هَذَا الْبَابِ مُتّفِقَةٌ لَيْسَتْ بِمُخْتَلِفَةٍ إلّا اخْتِلَافًا يَسِيرًا يَقَعُ مِثْلُهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ؛ فَإِنّ الصّحَابَةَ ثَبَتَ عَنْهُمْ أَنّهُ تَمَتّعَ، وَالتّمَتّعُ عِنْدَهُمْ يَتَنَاوَلُ الْقِرَانَ، وَاَلّذِينَ رُوِيَ عَنْهُمْ أَنّهُ أَفْرَدَ رُوِيَ عَنْهُمْ أَنّهُ تَمَتّعَ.
ثم ذكر عن عثمان، وعلي، وعمران بن حصين، وعمر رضي الله عنهم أنَّ النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- تمتع.
قَالَ: فَهَؤُلَاءِ الْخُلَفَاءُ الرّاشِدُونَ عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيّ، وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رُوِيَ عَنْهُمْ بِأَصَحّ الْأَسَانِيدِ أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَرَنَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجّ، وَكَانُوا يُسَمّونَ ذَلِكَ تَمَتّعًا، وَهَذَا أَنَسٌ يَذْكُرُ أَنّهُ سَمِعَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم يُلَبّي بِالْحَجّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا.
(1)
وَمَا ذَكَرَهُ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْمُزَنِيّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنّهُ لَبّى بِالْحَجّ وَحْدَه
(2)
؛ فَجَوَابُهُ: أَنّ الثّقَاتِ الّذِينَ هُمْ أَثْبَتُ فِي ابْنِ عُمَرَ مِنْ بَكْرٍ، مِثْلَ سَالِمٍ ابْنِهِ، وَنَافِعٍ، رَوَوْا عَنْهُ أَنّهُ قَالَ: تَمَتّعَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجّ.
ثم قال: وَيُشْبِهُ أَنّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ لَهُ: (أَفْرَدَ الْحَج)؛ فَظَنّ أَنّهُ قَالَ: (لَبَّى بِالْحَجّ)؛ فَإِنّ إفْرَادَ الْحَجّ كَانُوا يُطْلِقُونَهُ وَيُرِيدُونَ بِهِ إفْرَادَ أَعْمَالِ الْحَجّ وَذَلِكَ رَدّ مِنْهُمْ عَلَى
(1)
أخرجه البخاري (4353)، ومسلم (1232).
(2)
أخرجه البخاري (4353)، ومسلم (1232).
مَنْ قَالَ: إنّهُ قَرَنَ قِرَانًا طَافَ فِيهِ طَوَافَيْنِ وَسَعَى فِيهِ سَعْيَيْنِ، وَعَلَى مَنْ يَقُولُ: إنّهُ حَلّ مِنْ إحْرَامِهِ
…
.
ثم قال: وَمَنْ تَأَمّلَ أَلْفَاظَ الصّحَابَةِ، وَجَمَعَ الْأَحَادِيثَ بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ، وَاعْتَبَرَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، وَفَهِمَ لُغَةَ الصّحَابَةِ؛ أَسْفَرَ لَهُ صُبْحُ الصّوَابِ، وَانْقَشَعَتْ عَنْهُ ظُلْمَةُ الِاخْتِلَافِ وَالِاضْطِرَابِ، وَاَللهُ الْهَادِي لِسَبِيلِ الرّشَادِ، وَالْمُوَفّقُ لِطَرِيقِ السّدَادِ.
فَمَنْ قَالَ: إنّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ. وَأَرَادَ بِهِ أَنّهُ أَتَى بِالْحَجّ مُفْرِدًا، ثُمّ فَرَغَ مِنْهُ وَأَتَى بِالْعُمْرَةِ بَعْدَهُ مِنْ التّنْعِيمِ أَوْ غَيْرِهِ، كَمَا يَظُنّ كَثِيرٌ مِنْ النّاسِ؛ فَهَذَا غَلَطٌ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ الصّحَابَةِ، وَلَا التّابِعِينَ، وَلَا الْأَئِمّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمّةِ الْحَدِيثِ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنّهُ حَجّ حَجًّا مُفْرَدًا لَمْ يَعْتَمِرْ مَعَهُ، كَمَا قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ السّلَفِ وَالْخَلَفِ؛ فَوَهْمٌ أَيْضًا، وَالْأَحَادِيثُ الصّحِيحَةُ الصّرِيحَةُ تَرُدّهُ كَمَا تَبَيّنَ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنّهُ اقْتَصَرَ عَلَى أَعْمَالِ الْحَجّ وَحْدَهُ، وَلَمْ يُفْرِدْ لِلْعُمْرَةِ أَعْمَالًا؛ فَقَدْ أَصَابَ، وَعَلَى قَوْلِهِ تَدُلّ جَمِيعُ الْأَحَادِيثِ. وَمَنْ قَالَ: إنّهُ قَرَنَ. فَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنّهُ طَافَ لِلْحَجّ طَوَافًا عَلَى حِدَةٍ، وَلِلْعُمْرَةِ طَوَافًا عَلَى حِدَةٍ، وَسَعَى لِلْحَجّ سَعْيًا، وَلِلْعُمْرَةِ سَعْيًا؛ فَالْأَحَادِيثُ الثّابِتَةُ تَرُدّ قَوْلَهُ. وَإِنْ أَرَادَ أَنّهُ قَرَنَ بَيْنَ النّسُكَيْنِ، وَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا، وَسَعَى لَهُمَا سَعْيًا وَاحِدًا؛ فَالْأَحَادِيثُ الصّحِيحَةُ تَشْهَدُ لِقَوْلِهِ، وَقَوْلُهُ هُوَ الصّوَابُ.
وَمَنْ قَالَ: إنّهُ تَمَتّعَ. فَإِنْ أَرَادَ أَنّهُ تَمَتّعَ تَمَتّعًا حَلّ مِنْهُ، ثُمّ أَحْرَمَ بِالْحَجّ إِحْرَامًا مُسْتَأْنَفًا؛ فَالْأَحَادِيْثُ تَرُدُّ قَوْلَهُ، وَهُوَ غَلَطٌ مِنْهُ، وَإِنْ أَرَادَ أَنّهُ تَمَتّعَ تَمَتّعًا لَمْ يَحِلّ