الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مِنَ
الهِجْرَةِ
إِلَى دُخُولِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ
* الإِذْنُ بالهجْرَةِ (1) إِلَى المَدِينَةِ
قَالَ الشَّيْخُ عَلِي الطَّنْطَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهَاجَرَ المُسْلِمُونَ مَرَّةً ثَانِيَةَ وَلَكِنَّهَا هِجْرَةٌ إِلَى دِيَارٍ عَرَبِيَّةٍ، إِلَى قَرْيَةٍ قُدِّرَ لَهَا أَنْ تَبْقَى الدَّهْرَ كُلَّهُ خَامِلَةً (2) ضَائِعَةً وَرَاءَ الرِّمَالِ، حَتَّى تَتَشَرَّفَ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا هِيَ أُمُّ المَدَائِنِ، وَعَاصِمَةُ العَوَاصِمِ، مِنْهَا تَنْبَعُ عُيُونُ الخَيْرِ وَالهُدَى لِتَسِيحَ في الأَرْضِ، فتَسْقِيهَا وَتَعُمُّهَا بِالخَيْرَاتِ، وَإِلَيْهَا تَنْصَبُّ أَنْهَارُ المُلْكِ وَالغِنَى وَالسُّلْطَانِ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ (3).
رَوَى ابنُ سَعْدٍ في طَبَقَاتِهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَمَّا صَدَرَ (4) رِجَالُ العَقَبَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، طَابَتْ نَفْسُهُ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ
(1) قال الحافظ في الفتح (1/ 24 - 25): الهجرةُ: أي التَّرك، والهجرةُ إلى الشيء الانتقالُ إليه عن غيره، وفي الشَّرع: تركُ ما نَهَى اللَّه عنه، وقد وقَعَت في الإسلام على وَجْهَين: الأول: الانتِقالُ من دار الخَوْفِ إلى دار الأمْنِ كما في هِجْرَتَي الحبَشَة وابتداءِ الهِجْرَةِ من مَكَّة إلى المدينةِ، والثاني: الهِجْرَة من دارِ الكُفْرِ إلى دارِ الإيمانِ، وذلك بعدَ أن استَقَرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينةِ، وهاجَرَ إليه مَنْ أمكَنَهُ ذلك من المسلمين، وكانت الهجرةُ إذ ذاك تختَصُّ بالانتقال إلى المدينةِ، إلى أن فُتحت مكة فانقَطَع الاختِصَاص، وبقي عُمُوم الانتقالِ من دارِ الكفر لمن قَدِرَ عليه بَاقيًا.
(2)
الخَامِلُ: الخَفِيُّ السَّاقط الَّذي لا نَبَاهة له. انظر لسان العرب (4/ 221).
(3)
انظر كتاب رجال من التاريخ للشيخ علي الطنطاوي رحمه اللَّه تعالى ص 15.
(4)
الصَّدَرُ: بالتحريك رُجُوع المُسَافِرِ من مَقْصِدِهِ. انظر النهاية (3/ 15).
مَنَعَةً وَقَوْمًا أَهْلَ حَرْبٍ وَعُدَّةٍ وَنَجْدَةٍ، وَجَعَلَ البَلَاءَ يَشْتَدُّ عَلَى المُسْلِمِينَ مِنَ المُشْرِكِينَ لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ خُرُوجِهِمْ إِلَى المَدِينَةِ، فَضَيَّقُوا عَلَيْهِمْ، وَنَالُوا مِنْهُمْ مَا لَمْ يَكُوُنوا يَنَالُونَ مِنَ الشَّتْمِ وَالأَذَى، فَشَكَا ذَلِكَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاسْتَأْذَنُوهُ في الهِجْرَةِ (1).
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ، ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ، وَهُمَا الحَرَّتَانِ"(2)، ثُمَّ مَكَثَ أَيَّامًا ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ مَسْرُورًا، فَقَالَ:"قَدْ أُخْبِرْتُ بِدَارِ هِجْرَتِكُمْ وَهِيَ يَثْرِبُ، فَقنْ أَرَادَ الخُرُوجَ فَلْيَخْرُجْ إِلَيْهَا"(3).
وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "رَأَيْتُ فِي المَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ، فَذَهَبَ وَهَلِي (4) إِلَى أنَّهَا اليَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ، فَإِذَا هِيَ المَدِينَةُ يَثْرِبُ"(5).
وَرَوَى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ (6). . . .
(1) انظر الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 108).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، رقم الحديث (3905).
(3)
أخرج هذا الحديث ابن سعد في طبقاته (1/ 109).
(4)
قال النووي في شرح مسلم (15/ 25): الوهل: بفتح الهاء ومعناه وهمي واعتقادي.
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المناقب - باب علامات النبوة - رقم الحديث (3622) - ومسلم في صحيحه - كتاب الرؤيا - باب رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم رقم الحديث (2272).
(6)
قال الحافظُ في الفتح (4/ 572): أي أمَرَني ربِّي بالهجرَةِ إليها.
تَأْكُلُ القُرَى (1)، يَقُولُونَ: يَثْرِبُ (2)، وَهِيَ المَدِينَةُ، تَنْفِي النَّاسَ كَمَا يَنْفِي الكِيرُ (3) خَبَثَ (4) الحَدِيدِ" (5).
ثُمَّ إِنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ جَمِيعَ المُسْلِمِينَ بِالهِجْرَةِ إِلَى المَدِينَةِ، وَاللُّحُوقِ بِإِخْوَانِهِمْ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ لَهُمْ:"إِنَّ اللَّهَ عز وجل قَدْ جَعَلَ لَكُمْ إِخْوَانًا وَدَارًا تَأْمَنُونَ بِهَا"(6). فَخَرَجُوا أَرْسَالًا (7)، مُتَخَفِّينَ، مُشَاةً، وَرُكْبَانًا.
(1) قال الحافظ في الفتح (4/ 572): أي تغلبهم، وكنى بالأكلِ عن الغَلَبة، لأن الآكل غالِبُ على المَأْكول.
وقال ابن بطالٍ فيما نقله عنه الحافظ في الفتح (4/ 572): معناهُ يفتَحُ أهلها القُرى فيأكلون أموالهم ويَسْبُون ذَرَارِيهم، قال: وهذا من فَصِيح الكلام، تقول العرب: أكلنَا بلَدَ كذا إِذَا ظَهَرُوا عَلَيْهَا.
(2)
قال الحافظ في الفتح (4/ 572): أي أَنَّ بعضَ المنافقِين يُسَمِّيها يثرب، واسمُها الَّذي يَلِيقُ بها المدينة، وفَهِمَ بعض العلماء من هذا كرَاهة تسمية المدينةِ يَثْرِب، وقالوا: ما وَقع في القرآن وهو قوله تعالى في سورة الأحزاب آية (13): {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} . إنما هو حِكَايَةٌ عن قول غَيْر المؤمنين.
(3)
الكِيرُ: هو الزِّقُّ الَّذي يُنْفَخُ بهِ النار. انظر فتح الباري (4/ 573) - والنهاية (4/ 188).
(4)
الخَبَثُ: هو الوَسَخُ الَّذي تُخرجه النار. انظر فتح الباري (4/ 573).
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب فضائل المدينة - باب فضل المدينة وأنها تنفي الناس - رقم الحديث (1871) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب المدينة تنفي شِرَارها - رقم الحديث (1382).
(6)
انظر سيرة ابن هشام (2/ 81).
(7)
أرسالًا: أي جماعات وفِرَقًا متقطعة بعضهم يتلو بعضًا. انظر لسان العرب (5/ 212).