الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَصَلَّاهَا فِي المَسْجِدِ الذِي فِي بَطْنِ وَادِي رَانُونَاءَ (1) بِمَنْ مَعَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَهُمْ مِئَةٌ، وَاسْتَقْبَلَ بَيْتَ المَقْدِسِ، فَلَمَّا أَبْصَرَتْهُ اليَهُودُ صَلَّى إِلَى قِبْلَتِهِمْ تَذَاكَرُوا بَيْنَهُمْ أَنَّهُ النَّبِيُّ الذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ (2).
قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: فَكَانَتْ هَذِهِ أَوَّلَ جُمُعَةٍ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالمُسْلِمِينَ بِالمَدِينَةِ، أَوْ مُطْلَقًا، لِأَنَّه واللَّه أَعْلَمُ لَمْ يَكنْ صلى الله عليه وسلم يَتَمَكَّنُ هُوَ وَأَصْحَاُبهُ بِمَكَّةَ مِنَ الِاجْتِمَاعِ حَتَّى يُقِيمُوا بِهَا جُمُعَةً ذَاتَ خُطْبةٍ وإعْلَانٍ بِمَوْعِظَةٍ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِشِدَّةِ مُخَالفَةِ المُشْرِكِينَ لَهُ، وَأَذِيَّتِهِمْ إِيَّاهُ، وَسُمِّيَتِ الجُمُعَةُ جُمُعَةً؛ لِأنَّهَا مُشْتَقَّةً مِنَ الجَمْعِ، فَإِنَّ أَهْلَ الإِسْلَامِ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّةً (3).
*
استِقْبَالُ أَهْلِ المَدِينَةِ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم وَفَرَحُهُمْ بِهِ:
ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم نَاقتهُ مِنْ دِيَارِ بَنِي سالِمِ بنِ عَوْفٍ، وَأَرْخَى (4) لَهَا الزِّمَامَ، فَأتاهُ عِتْبَانُ بنُ مَالِكٍ، وَعَبَّاسُ بنُ عُبَادَةَ بنِ نَضْلَةَ فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي سالِمِ بنِ عَوْفٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه! أَقِمْ عِنْدَنَا فِي العَدَدِ وَالعُدَّةِ (5)
(1) رَانُوناء: بوزن عاشوراء وادٍ بين قباء والمدينة. انظر معجم البلدان (4/ 384).
(2)
انظر سيرة ابن هشام (2/ 108)، دلائل النبوة للبيهقي (2/ 500)
(3)
انظر تفسير ابن كثير (8/ 119) - البداية والنهاية (3/ 226).
(4)
يُقال: أرْخِ له الحبل: أي وسِّع عليه الأمر في تصرُّفه حتى يذهب حيث شاء. انظر لسان العرب (5/ 181).
(5)
العُدَّة: بضم العين ما أعددته لحوَادِث الدهر من المال والسلاح. انظر لسان العرب (9/ 79).
وَالمَنَعَةِ (1)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"خَلُّوا سَبِيلَهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ"، فَخَلُّوا سَبِيلَهَا، فَانْطَلَقَتْ، حَتَّى إِذَا وَازَنَتْ دَارَ بَنِي بَيَاضَةَ، تَلَقَّاهُ زِيَادُ بنُ لَبِيدٍ رضي الله عنه، وَفَرْوَةُ بنُ عَمْرٍو رضي الله عنه، فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي بَيَاضَةَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه! هَلُمَّ إِلَيْنَا، إِلَى الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ وَالْمَنَعَةِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:"خَلُّوا سَبِيلَهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ" فَخَلُّوا سَبِيلَهَا، فَانْطَلَقَتْ، حَتَّى إِذَا مَرَّتْ بِدَارِ بَنِي سَاعِدَةَ، اعْترَضَهُ سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ رضي الله عنه، وَالْمُنْذِرُ بنُ عَمْرٍو رضي الله عنه، فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي سَاعِدَةَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه، هَلُمَّ إِلَيْنَا إِلَى الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ وَالْمَنَعَةِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:"خَلُّوا سَبِيلَهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ"، فَانْطَلَقَتْ، حَتَّى دَخَلَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم المَدِينَةَ (2) بَعْدَ الجُمُعَةِ، فِي جَوٍّ مَشْحُونٍ بِالفَرَحِ وَالبَهْجَةِ وَالسُّرُورِ، وَكَانَ يَوْمًا تَارِيخِيًّا مَشْهُودًا، فَقَدْ كَانَتِ البُيُوتُ وَالسِّكَكُ تَرْتَجُّ (3) بِأَصْوَاتِ التَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ.
قَالَ القَسْطَلَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَشْرَقَتِ المَدِينَةُ بِحُلُولهِ فِيهَا صلى الله عليه وسلم، وَسَرَى السُّرُورُ إِلَى القُلُوبِ (4).
(1) المَنَعَة: القوة التي تَمنع من يُريدهم بسُوءٍ. انظر النهاية (4/ 310).
(2)
قال الشيخ علي الطنطاوي في كتابه رجال من التاريخ ص 29: . . . دخل صلى الله عليه وسلم المدينة لا يُرَفْرِف على رأسهِ علم، ولا يمشي وراءَهُ موكِبٌ، ولا يُقرع له طبل، ولكن تُرَفرف على رأسه رايةُ القُرآن، وتمشِي وراءه العُصُور القَوَادِمُ، ويخفِقُ له قلبُ التاريخِ ما بقي في الدنيا تَارِيخ.
(3)
الرَّجُّ: هو الحركة الشديدة. انظر النهاية (2/ 181).
(4)
انظر شرح المواهب (2/ 165).
قُلْتُ: وَكَيْفَ لَا تَفْرَحُ القُلُوبُ بِحُلُولهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الحَبِيبُ المَحْبُوبُ بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي صلى الله عليه وسلم.
رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: إِنِّي لَأَسْعَى فِي الغِلْمَانِ يَقُولُونَ: جَاءَ مُحَمَّدٌ، فَأَسْعَى فَلَا أَرَى شَيْئًا، ثُمَّ يَقُولُونَ: جَاءَ مُحَمَّدٌ، فَأَسْعَى فَلَا أَرَى شَيْئًا، قَالَ: حَتَّى جَاءَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبُهُ أَبُو بَكْرٍ، فكَمَنَّا (1) فِي بَعْضِ حِرَارِ (2) المَدِينَةِ، ثُمَّ بَعَثَا رَجُلًا مِنْ أَهْلِ البَادِيَةِ لِيُؤْذِنَ بِهِمَا الأَنْصَارَ، فَاسْتَقْبَلَهُمَا زُهَاءَ (3) خَمْسِ مِئَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ حَتَّى انتهَوا إِلَيْهِمَا، فَقَالَ الأَنْصَارُ: انْطَلِقَا آمِنَيْنِ مُطَاعَيْنِ، فَأَقْبلَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبُهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فَخَرَجَ أَهْلُ المَدِينَةِ حَتَّى إِنَّ العَوَاتِقَ (4) لفَوْقَ البُيُوتِ يَترَاءَيْنَهُ، يَقُلْنَ: أَيّهُمْ هُوَ؟ أَيُّهُمْ هُوَ؟
فَمَا رَأَيْنَا مَنْظَرًا شَبِيهًا بِهِ يَوْمَئِذٍ (5).
وَأَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ: . . . فَمَا رَأَيْتُ أَهْلَ المَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيءٍ فَرَحَهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى جَعَلَ
(1) كمن: اختفى. انظر لسان العرب (12/ 160).
(2)
حرار المدينة: هي أرض بظاهر المدينة بها حجارة سود كثيرة. انظر النهاية (1/ 351).
(3)
زُهاء: أي قَدْر، يقال: هم زُهاء مائة: أي قدرها. انظر لسان العرب (6/ 106).
(4)
العاتق: الشابة أول ما تدرك. انظر النهاية (3/ 162).
(5)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (13205)، (13318).
الإِمَاءُ (1) يَقُلْنَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (2).
وَأَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنِ البَرَاءِ بنِ عازِبٍ رضي الله عنه قَالَ: . . . فَصَعَدَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فَوْقَ البُيُوتِ، وَتَفَرَّقَ الغِلْمَانُ وَالخَدَمُ فِي الطُّرُقِ، ينَادُونَ: يَا مُحَمَّدُ! يَا رَسُولَ اللَّه! يَا مُحَمَّدُ! يَا رَسُولَ اللَّهِ (3).
وَأَخْرَجَ ابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ البُخَارِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه قَالَ: . . . فَخَرَجَ النَّاسُ حِينَ قَدِمْنَا المَدِينَةَ فِي الطُّرُقِ، وَعَلَى البُيُوتِ مِنَ الغِلْمَانِ وَالخَدَمِ يَقُولُونَ: جَاءَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ (4).
وَرَوَى البَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عِنْ أَنسٍ رضي الله عنه قَالَ: فَخَرَجَتْ جَوَارٍ مِنْ بَنِي النَّجَارِ يَضْرِبْنَ بِالدُّفِ وَهُنَّ يَقُلْنَ:
نَحْنُ جَوَارٍ مِنْ بَنِي النَّجَارِ
…
يَا حَبَّذَا مُحَمَّدٌ مِنْ جَارِ (5)
وَأَخْرَجَ ابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالإِمَامُ أَحْمَدُ فِي المُسْنَدِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا كَانَ اليَوْمُ الذِي دَخَلَ رَسُولُ
(1) الإماءُ: جمع أمَةٍ وهي المملوكَةُ، عكسُ الحرة. انظر القاموس المحيط ص 1260.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة - رقم الحديث (3925).
(3)
أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الزهد والرقائق - باب في حديث الهجرة - رقم الحديث (3009).
(4)
أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب وصف قدوم المصطفى صلى الله عليه وسلم المدينة - رقم الحديث (6281).
(5)
أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (2/ 508).
اللَّه صلى الله عليه وسلم فِيهِ المَدِينَةَ، أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ (1).
وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: . . . فَمَا رَأَيْتُ يَوْمًا قَطُّ أَنْوَرَ وَلَا أَحْسَنَ مِنْ يَوْمِ دَخَلَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ المَدِينَةَ (2).
وَكَانَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم لَا يَمُرُّ بِدَارٍ مِنْ دُورِ الأَنْصَارِ إِلَّا أَخَذُوا خِطَامَ (3) رَاحِلَتِهِ قَائِلِينَ: هَلُمَّ يَا رَسُولَ اللَّه إِلَى العَدَدَ وَالعُدَّةِ وَالمَنَعَةِ، فَكَانَ يَقُولُ لَهُمْ صلى الله عليه وسلم:"خَلُّوا سَبِيلَهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ"(4)، وَلَمْ تَزَلْ نَاقَتُهُ صلى الله عليه وسلم سَائِرَةً بِه حَتَّى إِذَا أَتَتْ دَارَ بَنِي مَالِكِ ابنِ النَّجَارِ -وَهُوَ مَوْضِعُ المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ اليَوْمَ- بَرَكَتْ فَلَمْ يَنْزِلْ عَنْهَا صلى الله عليه وسلم، حَتَّى نَهَضَتْ وَسَارَتْ قَلِيلًا، ثُمَّ الْتَفَتَتْ، وَرَجَعَتْ وَبَرَكَتْ فِي مَوْضِعِهَا الأَوَّلِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مَرْبِدٌ (5) لِلتَّمْرِ لِسَهْلٍ وَسُهَيْلٍ ابْنَيْ عَمْرٍو غُلَامَيْنِ
(1) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب ذكر إنكار الصحابة قلوبهم عند دفن الرسول صلى الله عليه وسلم رقم الحديث (6634) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (13830).
(2)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12234).
(3)
الخِطَام: هو الحَبْلُ الذي يُقَادُ به البعير. انظر النهاية (2/ 49).
(4)
قال الشيخ علي الطنطاوي في كتابه رجال من التاريخ ص 18: وأقبل الأنصار يدعونه صلى الله عليه وسلم لينزِلَ فيهم يتسابقُونَ على هذا الشَّرَف الخالد، فماذا صَنَع صلى الله عليه وسلم؟
انظروا إلى لُطفه ولَبَاقته صلى الله عليه وسلم، إنه لا يريد أن يُؤْذِي أحدًا بالرَّفض، فقال: اتركوا الناقة فإنها مأمُورَة.
(5)
المِرْبَد: بكسر الميم وسكون الراء وفتح الباء، هو الموضع الذي يُجعل فيه التَّمر ليَنْشَف. انظر النهاية (2/ 168).
يَتِيمَيْنِ مِنْ بَنِي مَالِكِ بنِ النَّجَارِ، وَهُمَا فِي حِجْرِ أَسْعَدِ بنِ زُرَارَةَ رضي الله عنه.
فَلَمَّا بَرَكَتْ وَضَعَتْ جِرَانَهَا (1)، فنَزَلَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وَذَلِكَ فِي بَنِي النَّجَارِ (2) أَمَامَ دَارِ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:"هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ المَنْزِلُ"، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ تَوْفِيقِ اللَّه تَعَالَى لِلنَّاقَةِ، فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَحَبَّ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى أَخْوَالِهِ مِنْ بَنِي النَّجَارِ (3).
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أَنْزِلُ عَلَى بَنِي النَّجَّارِ، أَخْوَالِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، أُكْرِمُهُمْ بِذَلِكَ"(4).
(1) الجِرَان: بكسر الجيم، وهو باطن العُنُق. انظر النهاية (1/ 255).
(2)
قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 216): وفي نزوله صلى الله عليه وسلم في دارِ بني النجار، واختيارِ اللَّه له ذلك مَنْقبةٌ عظيمةُ، وقد كان في المدينة دُورُ كثيرة تبلغ تِسْعًا كل دار محلة مستَقِلة بمساكِنِها ونخِيلها وزروعها وأهلها، كل قبيلةِ من قبائلهم قد اجتمعوا في مَحلتهم، وهي كالقرى المتلاصقة، فاختار اللَّه لرسوله صلى الله عليه وسلم دار بني مَالك بن النجار، وقد أخرج الإمام البخاري في صحيحه - رقم الحديث (3789) - ومسلم في صحيحه - رقم الحديث (2511) عن أبي أُسيد رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "خيرُ دور الأنصار بنو النجار، ثم بنُو عبد الأشهَل، ثم بنُو الحارث بن الخَزْرج، ثم بنو سَاعِدة، وفي كل دور الأنصار خير".
(3)
أخرج ذلك كله: البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة - رقم الحديث (3906) - ومسلم في صحيحه - كتاب المساجد ومواضع الصلاة - باب ابتناء مسجد النبي صلى الله عليه وسلم رقم الحديث (524) - والبيهقي في دلائل النبوة (2/ 504) - وابن إسحاق في السيرة (2/ 109).
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الزهد والرقائق - باب حديث الهجرة - رقم الحديث (3009) - وابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب فصل في هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة - رقم الحديث (6281).
ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّ بُيُوتِ أَهْلِنَا (1) أَقْرَبُ؟ ".
فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ: أَنَا يَا نَبِيَّ اللَّه، هَذِهِ دَارِي، وَهَذَا بَابِي، فَقَالَ لَهُ صلى الله عليه وسلم:"فَانْطَلِقْ فَهَيِّئْ لَنَا مَقِيلًا"(2)، فَاحْتَمَلَ أَبُو أَيُّوبَ رضي الله عنه، رَحْلَ (3) النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَوَضَعَهُ فِي بَيْتهِ، فَأَتَى رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه! أَيْنَ تَحِلُّ؟
قَالَ صلى الله عليه وسلم: "المَرْءُ مَعَ رَحْلِهِ"، وَجَاءَ أَسْعَدُ بنُ زُرَارَةَ فَأَخَذَ بِزِمَامِ رَاحِلَتِهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَتْ عِنْدَهُ (4).
وَنَزَلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه عَلَى خَارِجَةَ بنِ زَيْدٍ رضي الله عنه بِالسُّنْحِ (5)، كما تقدم (6).
(1) قال الحافظ في الفتح (7/ 666): أطلَقَ عليهم صلى الله عليه وسلم أهلَه لقرابةِ ما بينهم من النِّسَاء؛ لأن منهم -أي بني النجار- والدةُ عبد المطلب جدّه، وهي سلمى بنتِ عَوف من بَنِي مالك بن النجار.
(2)
قال الحافظ في الفتح (7/ 666): أي مكانًا تقع فيه القيلُولَة، والقيلولة هي: الاستِرَاحة نصف النهار، وإن لم يكن معها نَوْم.
وأخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة - رقم الحديث (3911).
(3)
الرَّحْلُ: هو للبعيرِ كالسَّرج للفرس. انظر النهاية (2/ 192).
(4)
أخرج ذلك ابن سعد في طبقاته (1/ 114) - وقال بعد إيراده هذه الرواية: وهذا الثبت.
(5)
السُّنْحُ: بضم السين، موضعٌ بعوالي المدينة فيه منازِلِ بني الحارث بن الخزرج. انظر النهاية (2/ 366).
(6)
انظر تفاصيل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم في: صحيح البخاري - كتاب مناقب الأنصار - باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة - رقم الحديث (3906) - (3911) - (3932) - صحيح مسلم - كتاب الزهد والرقائق - باب في حديث الهجرة - رقم الحديث (2009) -=
* هَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِيهَا نَظَرٌ:
طَلَعَ البَدْرُ عَلَيْنَا
…
مِنْ ثَنِيَّاتِ الوَدَاع
وَجَبَ الشُّكْرُ عَلَيْنَا
…
مَا دَعَا للَّهِ دَاع (1)
= ومسند الإمام أحمد - رقم الحديث (31205) - (13318) - وصحيح ابن حبان - باب التاريخ - فصل في هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة - رقم الحديث (6281) - سيرة ابن هشام (2/ 108 - 109) - دلائل النبوة للبيهقي (2/ 508 - 509) - زاد المعاد (3/ 53) - الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 114).
(1)
روى ذلك البيهقي في دلائل النبوة (5/ 266) بإسنادٍ ضعيف، وأورده الإمام أبو حامد الغزالي في "الإحياء"(2/ 386)، وأعلَّه الحافظ العراقي في تخريجه على الإحياء بقوله: إسناده معضل. [الحديث المعضل: ما سقط من إسناده إثنان فأكثر على التوالي].
قال ابن القيم في زاد المعاد (3/ 482): وبعض الرواة يَهم في هذا ويقول: إنما كان ذلك -أي إنشادُ هذه الأبيات- عند مقدمِهِ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من مكةَ، وهو وَهْمٌ ظاهر؛ لأن ثنيَّات الوداع إنما هي من ناحيةِ الشام، لا يراها القادم من مكة إلى المدينة، ولا يمُرُّ بها إلا إذا توجَّه إلى الشام.
وقال الحافظ في الفتح (8/ 473): وقد روينا بسند منقطع في "الحلبيَّات" قول النِّسْوة لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة: طلعَ البدرُ علينا من ثنيَّات الوداع.
تنبيه: أورد الغزالي هذه الأبيات بزيادة "بالدف والألحان"، وتعقَّبه الحافظ العراقي بقوله: وليس فيه ذكر للدُّفّ والألحان.