الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قُلْتُ: وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ضَعْفَ هَذَا الخَبَرَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه رُغْمَ قُوَّتِهِ، وَشِدَّتِهِ لَا يَسْتَطِيعُ وَحْدَهُ أَنْ يُقَاتِلَ كُلَّ قُرَيْشٍ، وَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: بَيْنَمَا هُوَ فِي الدَّارِ -أَيْ عُمَرُ رضي الله عنه (1) خَائِفًا، إِذْ جَاءَهُ العَاصُ بنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ، وَهُمْ حُلَفَاؤُنَا فِي الجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ لَهُ: مَا بَالُكَ؟ قَالَ: زَعَمَ قَوْمُكَ أَنَّهُمْ سَيَقْتُلُونَنِي أَنْ أَسْلَمْتُ، قَالَ: لَا سَبِيلَ إِلَيْكَ، فَخَرَجَ العَاصُ، فَلَقَى النَّاسَ قَدْ سَالَ بِهِمُ الوَادِي، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: نُرِيدُ هَذَا ابنَ الخَطَّابِ الذِي صَبَأَ، قَالَ: فَأَنَا لَهُ جَارٌ، لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، فكَرَّ (2) النَّاسُ (3).
وَكَانَتْ قُرَيْشٌ كُلَّمَا عَلِمَتْ بِأَحَدٍ يُرِيدُ الهِجْرَةَ آذَتْهُ، وَحَاوَلَتْ فِتْنَتَهُ أَوْ حَبْسَهُ، وَلذَلِكَ لَمْ يَكُنْ أَحَد يَجْرُؤُ عَلَى الخُرُوجِ إِلَّا خُفْيَةً.
*
قِصَّةُ أَبِي جَهْلٍ مَعَ عَيَّاشٍ رضي الله عنه
-:
وَلَمَّا قَدِمُوا المَدِينَةَ خَرَجَ أَبُو جَهْلٍ بنُ هِشَامٍ وَأَخُوهُ الحَارِثُ (4) إِلَى عَيَّاشِ بنِ أَبِي رَبِيعَةَ رضي الله عنه، وَكَانَ ابنَ عَمِّهِمَا وَأَخَاهُمَا لِأُمِّهِمَا، حَتَّى قَدِمَا المَدِينَةَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَزَالُ بِمَكَّةَ، فَكَلَّمَ أَبُو جَهْلٍ عَيَّاشًا، وَقَالَ لَهُ:
(1) وهذا الحادث حدث عندما أسلم عمر رضي الله عنه.
(2)
الكَرُّ: الرجوع. انظر لسان العرب (12/ 64).
(3)
أخرجه الإمام البخاري في صحيحه فِي قصة إسلام عمر رضي الله عنه كتاب مناقب الأنصار - باب إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه رقم الحديث (3864).
(4)
الحارث بن هشام أخو أبو جهل، أسلم رضي الله عنه في فتح مكة وحسن إسلامه.
إِنَّ أُمَّكَ نَذَرَتْ أَنْ لَا يَمَسَّ رَأْسَهَا مِشْطٌ حَتَّى تَرَاكَ، وَلَا تَسْتَظِلَّ عَنْ شَمْسٍ حَتَّى تَرَاكَ، فَرَقَّ لَهَا، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رضي الله عنه: يَا عَيَّاشُ، إِنَّه وَاللَّهِ مَا يُرِيدُكَ القَوْمُ إِلَّا لِيَفْتِنُوكَ عَنْ دِينِكَ فَاحْذَرْهُمْ، فَوَاللَّهِ لَوْ آذَى أُمَّكَ القَمْلُ لَامْتَشَطَتْ، وَلَوْ قَدِ اشْتَدَّ عَلَيْهَا حَرُّ مَكَّةَ لَاسْتَظَلَّتْ، فَقَالَ لَهُ عَيَّاشٌ: أَبَرُّ قَسَمَ أُمِّي، وَلِي هُنَاكَ مَالٌ فَآخُذُهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنِّي لَمِنْ أَكْثَرِ قُرَيْشٍ مَالًا، فَلَكَ نِصْفُ مَالِي، وَلَا تَذْهَبْ مَعَهُمَا، وَلَكِنَّهُ أَبَى عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُمَا، فَقَالَ لَهُ رضي الله عنه: أَمَا إِذْ قَدْ فَعَلْتَ مَا فَعَلْتَ، فَخُذْ نَاقَتِي هَذِهِ، فَإِنَّهَا نَاقَةٌ نَجِيبَةٌ (1) ذَلُولُ (2)، فَالزَم (3) ظهْرَهَا، فَإِنْ رَابَكَ (4) مِنَ القَوْم رَيْبٌ، فَانْجُ عَلَيْهَا.
فَخَرَجَ عَلَيْهَا مَعَهُمَا، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا ابْنَ أَخِي، وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَغْلَظْتُ بَعِيرِي هَذَا، أَفَلَا تُعْقِبَنِي (5) عَلَى نَاقَتِكَ هَذِهِ؟
قَالَ عَيَّاشٌ: بَلَى، فَأَنَاخَ عَيَّاشٌ، وَأَنَاخَا لِيَتَحَوَّلَ عَلَيْهَا، فَلَمَّا اسْتَوَوْا
(1) النَّجِيبُ: الفاضِلُ من كلِّ حيَوَان، إذا كان فَاضِلًا نَفِيسًا في نوعه. انظر النهاية (5/ 15).
(2)
دَابَّةٌ ذَلُولٌ: أي لَيِّنَةٌ سَهْلة. انظر لسان العرب (5/ 55).
(3)
اللِّزَامُ: هو المُلازَمَةُ للشَّيْءِ والدَّوَامُ عليه. انظر النهاية (4/ 214).
(4)
الرَّيْبُ: بمعنى الشَّكّ. انظر لسان العرب (5/ 385) - ومنه قوله تعالى في سورة البقرة آية (2): {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} .
(5)
اعتَقَبْتُ فُلانَا مِنَ الرُّكوب: أي نَزلْتُ فَرَكِبَ، والعقبةُ: النَّوبةُ: هذا مَرَّة، والآخر مَرَّة. انظر لسان العرب (9/ 304).
بِالأَرْضِ عَدَوا عَلَيْهِ، فَأَوْثَقَاهُ، وَرَبَطَاهُ، ثُمَّ دَخَلَا بِهِ مَكَّةَ، وَفَتَنَاهُ، فَافْتَتَنَ، وَكَانَ دُخُولُهُمَا بِهِ مَكَّة نَهَارًا مُوثَقًا، فَصَارَا يَقُولَانِ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ، هَكَذَا فَافْعَلُوا بِسُفَهَائِكُمْ، كَمَا فَعَلْنَا بِسَفِيهِنَا هَذَا (1).
رَوَى ابنُ إِسْحَاقَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: فَكُنَّا نَقُولُ: مَا اللَّهُ بِقَابِلٍ مِمَّنِ افْتُتَنَ صَرْفًا (2) وَلَا عَدْلًا (3) وَلَا تَوْبَةً، قَوْمٌ عَرَفُوا اللَّهَ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى الكُفْرِ لِبَلَاءَ أَصَابَهُمْ، وَكَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم المَدِينَةَ، أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ، وَفِي قَوْلنَا، وَقَوْلهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} (4).
فَكتَبَهَا عُمَرُ رضي الله عنه بِيَدِهِ فِي صَحِيفَةٍ، وَبَعَثَ بِهَا إِلَى هِشَامِ بنِ العَاصِ، قَالَ هِشَامٌ: فَلَمَّا أَتَتْنِي جَعَلْتُ أَقْرَؤُهَا بِذِي طُوَى (5)، أُصَعِّدُ بِهَا فِيهِ وَأُصَوِّبُ، وَلَا أَفْهَمُهَا، حَتَّى قُلْتُ: اللَّهُمَّ فَهِّمْنِيهَا، قَالَ: فَأْلقى اللَّهُ فِي قَلْبِي أَنَّهَا إِنَّمَا أُنْزِلَتْ
(1) انظر سيرة ابن هشام (2/ 88).
(2)
الصَّرْف: التَّوبة. انظر النهاية (3/ 23).
(3)
العَدْلُ: الفِدْيَة. انظر النهاية (3/ 23).
(4)
سورة الزمر آية (53 - 55).
(5)
ذِي طُوى: بضم الطاء وفتح الواو المخفَّفة، موضعٌ بأسفلِ مَكة. انظر النهاية (3/ 133).