الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَقْتَلُ كَعْبِ بنِ الأَشْرَفِ
كَانَ كَعْبُ بنُ الأَشْرَفِ مِنْ أَشَدِّ اليَهُودِ عَدَاوَةً لِلرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ، وَكَانَ أَبُوهُ عَرَبِيًّا مِنْ قَبِيلَةِ طَيِّءٍ، مِنْ بَنِي نَبْهَانَ، وَكَانَ أَصَابَ دَمًا فِي الجَاهِلِيَّةِ، فَأَتَى المَدِينَةَ فَحَالَفَ بَنِي النَّضِيرِ، فَشَرُفَ فِيهِمْ، وَتَزَوَّجَ عَقِيلَةَ بِنْتَ أَبِي الحُقَيْقِ، فَوَلَدَتْ لَهُ كَعْبًا، وَكَانَ طَوِيلًا جَسِيمًا، وَكَانَ شَاعِرًا مُجِيدًا، سَادَ يَهُودَ الحِجَازِ بِكَثْرَةِ مَالِهِ، فَكَانَ يُعْطِي أَحْبَارَ يَهُودٍ وَيَصِلُهُمْ، وَكَانَ حِصْنُهُ شَرْقِيَّ جَنُوبِ المَدِينَةِ فِي خَلْفِيَّاتِ دِيَارِ بَنِي النَّضِيرِ (1).
وَكَانَ مِنْ عَدَاوَتِهِ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ خَبَرُ انْتِصَارِ المُسْلِمِينَ، وَقَتْلُ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ فِي بَدْرٍ، قَالَ: أَحَقٌ هَذَا؟ هَؤُلَاءِ أَشْرَافُ العَرَبِ وَمُلُوكُ النَّاسِ، وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ أَصَابَ هَؤُلَاءَ القَوْمِ لَبَطْنُ الأَرْضِ خَيْرٌ لِي مِنْ ظَهْرِهَا.
فَلَمَّا تَأَكَّدَ لَدَيْهِ الخَبَرُ، انْبَعَثَ عَدُوُّ اللَّهِ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالمُسْلِمِينَ، وَيَمْدَحُ عَدُوَّهُمْ، وَيُحَرِّضُ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَرْضَ بِهَذا القَدْرِ حَتَّى رَكِبَ إِلَى قُرَيْشٍ، فَبَكَى قَتْلَاهُمْ فِي بَدْرٍ، وَحَرَّضَهُمْ عَلَى قِتَالِ المُسْلِمِينَ، فَنَزَلَ بِمَكَّةَ
(1) انظر فتح الباري (8/ 77) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 265) - سيرة ابن هشام (3/ 58) - شرح المواهب (2/ 368).
عَلَى المُطَّلِبِ بنِ أَبِي وَدَاعَةَ السَّهْمِيِّ، فَأَنْزَلَهُ وأَكْرَمَهُ، وَجَعَلَ يُنْشِدُ الأَشْعَارَ، وَيُحَرِّضُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالمُسْلِمِينَ.
أَخْرَجَ ابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا قَدِمَ كَعْبُ بنُ الأَشْرَفِ مَكَّةَ أَتَوْهُ، فَقَالُوا: نَحْنُ أَهْلُ السِّقَايَةِ (1) وَالسِّدَانَةِ (2)، وَأَنْتَ سَيِّدُ أَهْلِ يَثْرِبَ، فَنَحْنُ خَيْرٌ أَمْ هَذَا الصُّنَيْبِيرُ (3) المُنْبَتِرُ (4) مِنْ قَوْمِهِ يَزْعُمُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنَّا؟
فَقَالَ: أَنْتُمْ خَيْرٌ مِنْهُ، فَنَزَلَ عَلَى رَسُول اللَّهِ {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (5)} (6)، وَنَزَلَتْ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ
(1) السِّقَايَة: هي ما كانت قريش تَسْقِيهِ الحُجَّاج من الزَّبِيب المَنْبُوذ في الماء. انظر النهاية (2/ 342).
(2)
سَدَانة الكعبة: هي خِدْمَتها وتوَلِّي أمرها. انظر النهاية (2/ 320).
(3)
الصُّنَيْبِيرُ: تصغيرُ الصُّنْبُورِ، وهو الأبْتَرُ، لا عَقِبَ له، وأصل الصُّنْبُورِ: سعفَةٌ تَنْبُتُ في جِذع النخلة لا في الأرض، وقيل: هي النخلة المنفردة التي يَدِقُّ أسفلها، أراد أنَّه إذا قُلِع انقطع ذكره، كما يذهب أثر الصنبور؛ لأنه لا عقب له. انظر النهاية (3/ 51).
(4)
المنبَتِرُ: الذي لا وَلَدَ له، أرادوا أنَّه صلى الله عليه وسلم لم يكن يَعِشْ له ولد. انظر النهاية (1/ 94).
(5)
الأبتر: الذي لا ولد له. انظر النهاية (1/ 94).
قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في تفسيره (8/ 505): فتوهموا -أي هؤلاء الكفار- لجهلهم أنه صلى الله عليه وسلم إذا ماتَ بنوه ينقَطِعُ ذِكْرُه، وحاشا وكَلَّا، بل قد أبقى اللَّهُ ذكره على رؤوس الأشهاد، وأوجب شرعه على رِقَاب العباد، مستَمِرًّا على دوام الآباد، إلى يوم الحشرِ والمعاد، صلوات اللَّه وسلامه عليه دائمًا إلى يوم التناد.
(6)
سورة الكوثر آية (3).
بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} (1).
ثُمَّ رَجَعَ كَعْبٌ إِلَى المَدِينَةِ عَلَى تِلْكَ الحَالِ، وَأَخَذَ يُشَبِّبُ (2) فِي أَشْعَارِهِ بِنِسَاءِ الصَّحَابَةِ، وَيُؤْذِيهِمْ بِسَلَاطَةِ (3) لِسَانِهِ أَشَدَّ الإِيذَاءِ.
فَحِينَئِذٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لِكَعْبِ بنِ الأَشْرَفِ (4)؟ فَإِنَّهُ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ"، فَانْتَدَبَ لَهُ: مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ، وَعَبَّادُ بنُ بِشْرٍ، وَأَبُو نَائِلَةَ سِلْكَانُ بنُ سَلَامَةَ، وَهُوَ أَخُو كَعْبِ بنِ الأَشْرَفِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَالحَارِثُ بنُ أَوْسٍ، وَأَبُو عَبْسِ بنِ جَبْرٍ، وَكَانَ قَائِدَ هَذِهِ المَجْمُوعَةِ مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ رضي الله عنه.
وَفِي رِوَايَةِ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَالَ: "مَنْ لِكَعْبِ بنِ الأَشْرَفِ؟ فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ"، فَقَامَ مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ قَالَ: "نَعَمْ"(5).
(1) سورة النساء آية (51) - والحديث أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب ذكر تسمية المشركين صَفِيَّ اللَّه صلى الله عليه وسلم الصُنيبير والمنبتر - رقم الحديث (6572) - وأخرجه البراز في مسنده - رقم الحديث (2293) - وَقَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في تفسيره (8/ 504): إسناده صحيح.
(2)
شَبَّبَ بالمرأة: قال فيها الغَزَل. انظر لسان العرب (7/ 12).
(3)
السلِيطُ: الطويلُ اللِّسَان. انظر لسان العرب (6/ 326).
(4)
قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 77): أي مَنِ الذي ينتَدِبُ إلى قتله.
(5)
في رواية ابن إسحاق (3/ 61)، قال صلى الله عليه وسلم:"فافعل إن قَدِرْتَ على ذلك".
فَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ رضي الله عنه: فَائْذَنْ لِي أَنْ أَقُولَ (1) شَيْئًا، قَالَ:"قُلْ" فَذَهَبَ مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ إِلَى كَعْبِ بنِ الأَشْرَفِ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ -أَيْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ سَأَلَنَا صَدَقَةً، وَإِنَّهُ قَدْ عَنَّانَا (2) وَإِنِّي قَدْ أَتَيْتُكَ أَسْتَسْلِفُكَ، قَالَ: وَأَيْضًا (3) وَاللَّهِ لَتَمُلَّنَّهُ (4).
فَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ: إِنَّا قَدِ اتَّبَعْنَاهُ، فَلَا نُحِبُّ أَنْ نَدَعَهُ حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ يَصِيرُ شَأْنُهُ، وَقَدْ أَرَدْنَا أَنْ تُسْلِفَنَا وَسْقًا (5) أَوْ وَسْقَيْنِ.
قَالَ كَعْبٌ: نَعَمْ أَرْهِنُونِي (6).
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ: أَيَّ شَيْءٍ تُرِيدُ؟ .
قَالَ كَعْبٌ: أَرْهِنُونِي نِسَاءَكُمْ؟
فَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ: كَيْفَ نَرْهَنُكَ نِسَاءَنَا وَأَنْتَ أَجْمَلُ العَرَبِ؟
(1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 78): كأنه استأذنه أن يفتَعِلَ شيئًا يَحْتَال به، ومن ثمَّ بوب عليه البخاري في صحيحه: باب الكذب في الحرب، وقد ظهر من سياق ابن سعد في طبقاته (2/ 265) للقصة أنهم استأذنوا أن يشكُوا منه ويعيِّبُوا رأيه.
(2)
قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 78): عَنَّانَا: بتشديدِ النون الأولى: من العَنَاءِ وهو التَّعَب.
(3)
قال الحافظ في الفتح (8/ 78): أي وزيادة على ذلك.
(4)
قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 78): لَتَمُلَّنَّه: بفتح اللام الأولى وتشديد اللام الثانية والنون: من المَلَالِ.
وقال الإمام النووي في شرح مسلم (12/ 136): أي: يتضجَّرُون منه أكثر من هذا الضَّجَرِ.
(5)
الوَسْق: بفتح الواو وسكون السين: سِتُّون صاعًا. انظر النهاية (5/ 161).
(6)
قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 78): أرهِنُوني: أي ادفعوا لي شيئًا يكون رَهْنًا على التَّمْرِ الذي تريدونه.
قَالَ كَعْبٌ: فَأَرْهِنُونِي أَبْنَاءَكُمْ.
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ: كَيْفَ نَرْهَنُكَ أَبْنَاءَنَا، فيسَبُّ أَحَدُهُمْ؟ فيقَالُ: رُهِنَ بِوَسْقٍ أَوْ وَسْقَيْنِ هَذَا عَارٌ عَلَيْنَا، وَلَكِنَّا نَرْهَنُكَ اللَّأَمَةَ، يَعْنِي السِّلَاحَ.
فَوَاعَدَهُ مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ أَنْ يَأْتِيَهُ بِالسَّلَاحِ.
وَصَنَعَ أَبُو نَائِلَةَ مِثْلَ مَا صَنَعَ مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ، فَقَدْ جَاءَ كَعْبًا فتَنَاشَدَ مَعَهُ أَطْرَافَ الأَشْعَارِ سُوَيْعَةً، ثُمَّ قَالَ لَهُ: وَيْحَكَ يَا ابْنَ الأَشْرَفِ، إِنِّي قَدْ جِئْتُكَ لِحَاجَةٍ أُرِيدُ ذِكْرَهَا لَكَ، فَاكْتُمْ عَنِّي. قَالَ كَعْبٌ: أَفْعَلُ.
قَالَ أَبُو نَائِلَةَ: كَانَ قُدُومُ هَذَا الرَّجُلِ -أَي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَلَاءً، عَادَتْنَا العَرَبُ، ورَمَتْنَا عَنْ قَوْس وَاحِدَةٍ، وَقَطَعَتْ عَنَّا السُّبُلَ، حَتَّى ضَاعَ العِيَالُ، وَجَهِدَتِ الأَنْفُسُ، وَأَصْبَحْنَا قَدْ جَهِدْنَا وَجَهِدَ عِيَالُنَا.
ثُمَّ قَالَ أَبُو نَائِلَةَ: إِنَّ مَعِيَ أَصْحَابًا لِي عَلَى مِثْلَ رَأْيِي، وَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ آتِيَكَ بِهِمْ، فتَبِيعَهُمْ وَتُحْسِنَ في ذَلِكَ.
وَهَكَذَا نَجَحَ مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ، وَأَبُو نَائِلَةَ في هَذَا الحِوَارِ إلى مَا قَصَدَا، فَإِنَّ كَعْبًا لَنْ يُنْكِرَ مَعَهُمَا السِّلَاحَ، وَالأَصْحَابَ بَعْدَ هَذَا الحِوَارِ.
وَفِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ -لَيْلَةِ الرَّابع عَشَرَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ مِنَ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ لِلْهِجْرَةِ- اجْتَمَعَتْ هَذِهِ المَجْمُوعَةُ إلى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَشَى مَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلى بَقِيعِ الغَرْقَدِ، ثُمَّ وَجَّهَهُمْ قَائِلًا:"انْطَلِقُوا عَلَى اسمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ أَعِنْهُمْ"،
ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلى بَيْتِهِ، وَطَفِقَ يُصَلِّي، وَيَدْعُو رَبَّهُ.
وَأَقْبَلُوا حَتَّى انْتَهَوْا إلى حِصْنِ كَعْبِ بنِ الأَشْرَفِ، فَهَتَفَ بِهِ أَبُو نَائِلَةَ، فَقَامَ لِيَنْزِلَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأتهُ -وَكَانَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِعُرْسٍ- أَيْنَ تَخْرُجُ هَذِهِ السَّاعَةَ؟ .
فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ أَخِي مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ وَرَضِيعِي أَبُو نَائِلَةَ، قَالَتْ: أَسْمَعُ صَوْتًا كَأَنَّهُ يَقْطُرُ مِنْهُ الدَّمُ.
قَالَ: إِنَّمَا هُوَ أَخِي مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ وَرَضِيعِي أَبُو نَائِلَةَ، إِنَّ الكَرِيمَ لَوْ دُعِيَ إلى طَعْنَةٍ بِلَيْلٍ لَأَجَابَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ مُتَطَيِّب يَنْفُحُ رَأْسُهُ.
وَكَانَ أَبُو نَائِلَةَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِذَا مَا جَاءَنِي فَإِنِّي آخُذُ بِشَعْرِهِ فَأَشُمُّهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمُونِي اسْتَمْكَنْتُ مِنْ رَأْسِهِ، فَدُونَكُمْ فَاضْرِبُوهُ.
فَلَمَّا نَزَلَ كَعْبٌ إِلَيْهِمْ تَحَدَّثَ مَعَهُمْ سَاعَةً، وَتَحَدَّثُوا مَعَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ أَبُو نَائِلَةَ: هَلْ لَكَ يَا ابْنَ الأَشْرَفِ أَنْ نَتَمَاشَى إلى شِعْبِ العَجُوزِ، فنَتَحَدَّثَ بَقِيَّةَ لَيْلَتِنَا؟ .
قَالَ: إِنْ شِئْتُمْ، فَخَرَجُوا يَتَمَاشَوْنَ، فَقَالَ أَبُو نَائِلَةَ وَهُوَ في الطَّرِيقِ: مَا رَأَيْتُ كَاللَّيْلَةِ طِيبًا أَعْطَرَ قَطُّ.
فَقَالَ كَعْبٌ: عِنْدِي أَعْطَرُ نِسَاءِ العَرَبِ، فَقَالَ أَبُو نَائِلَةَ: أتأْذَنُ لِي أَنْ أَشُمَّ رَأْسَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ فَأَدْخَلَ يَدَهُ في رَأْسِهِ فَشَمَّهُ.
ثُمَّ مَشَى سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ أَبُو نَائِلَةَ: أَعُودُ -أَيْ لِشَمِّ رَأْسِهِ- قَالَ كَعْبٌ: نَعَمْ، فَعَادَ لِمِثْلِهَا حَتَّى اطْمَأَنَّ: ثُمَّ مَشَى سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ أَبُو نَائِلَةَ: أَعُودُ -أَيْ لِشَمِّ رَأْسِهِ- قَالَ كَعْبٌ: نَعَمْ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ في رَأْسِهِ، فَلَمَّا اسْتَمْكَنَ مِنْهُ، قَالَ أَبُو نَائِلَةَ لِأَصْحَابِهِ: دُونَكُمْ عَدُوَّ اللَّهِ، فَاخْتَلفتْ عَلَيْهِ أَسْيَافُهُمْ، لَكِنَّهَا لَمْ تُغْنِ شَيْئًا، فَأَخَذَ مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ مِعْوَلًا، فَوَضَعَهُ في ثُنَّتِهِ (1)، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ حَتَّى بَلَغَ عَانَتَهُ، فَوَقَعَ عَدُوُّ اللَّهِ قَتِيلًا، وَكَانَ قَدْ صَاحَ صَيْحَةً شَدِيدَةً أَفْزَعَتْ مَنْ حَوْله، فَلَمْ يبقَ حِصْنٌ إِلَّا أُوقِدَتْ عَلَيْهِ النِّيرَانُ.
وَرَجَعَتْ هَذِه المَجْمُوعَةُ، وَقَدْ أُصِيبَ الحَارِثُ بنُ أَوْسٍ بِذُبَابِ (2) بَعْضِ سُيُوفِ أَصْحَابِهِ، فَجُرِحَ وَنَزَفَ الدَّمَ، فَلَمَّا بَلَغَتْ هَذِهِ المَجْمُوعَةُ حَرَّةَ العَرِيضِ، رَأَتْ أَنَّ الحَارِثَ لَيْسَ مَعَهُمْ، فَوَقَفُوا سَاعَةً حَتَّى أَتاهُمْ يتبَعُ آثارَهُمْ، فَاحْتَمَلُوهُ، حَتَّى إِذَا بَلَغُوا بَقِيعَ الغَرْقَدِ كَبّروا، فَسَمعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَكْبِيرَهُمْ، فَعَرَفَ أَنَّهُمْ قَدْ قَتَلُوهُ، فَكَبَّرَ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إلى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَذَلِكَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ صلى الله عليه وسلم:"أَفْلَحَتِ الوُجُوهُ"، قَالُوا: وَوَجْهُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَحَمِدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اللَّهَ تَعَالَى عَلَى قَتْلِهِ، وَتَفَلَ عَلَى جُرْحِ الحَارِثِ فَبَرِئ (3).
(1) الثُنَّةُ: بضم الثاء وتشديد النون: ما بين السرة والعانة من أسفل البطن. انظر النهاية (1/ 218).
(2)
ذُبابُ السيف: طرفه الذي يضرب به. نظر النهاية (2/ 141).
(3)
أخرج قصة مقتل كعب بن الأشرف: البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب قتل كعب بن الأشرف - رقم الحديث (4037) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب =