الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَكْثَرِ أُولَئِكَ الأَسْرَى، وَلخُرُوجِ مَنْ خَرَجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَلحُصُولِ القُوَّةِ التِي حَصلَتْ لِلْمُسْلِمِينَ بِالفِدَاءَ، وَلمُوَافَقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي بَكْرٍ أَوَّلًا، وَلمُوَافَقَةِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ آخِرًا حَيْثُ اسْتَقَرَّ الأَمْرُ عَلَى رَأْيِهِ، وَلكَمَالِ نَظَرِ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه، فَإِنَّهُ رَأَى مَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ حُكْمُ اللَّهِ آخِرًا، وَغَلَّبَ جَانِبَ الرَّحْمَةِ عَلَى جَانِبِ العُقُوبَةِ.
قَالُوا: وَأَمَّا بُكَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّمَا كَانَ رَحْمَةً لِنُزُولِ العَذَابِ لِمَنْ أَرَادَ بِذَلِكَ عَرَضَ الدُّنْيَا، وَلَمْ يُرِدْ ذَلِكَ صلى الله عليه وسلم، وَلَا أَبُو بَكْرٍ، وَإِنْ أَرَادَهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ، فَالفِتْنَةُ كَانَتْ تَعُمُّ، وَلَا تُصِيبُ مَنْ أَرَادَ ذَلِكَ خَاصَّةً، كَمَا هُزِمَ العَسْكَرُ يَوْمَ حُنَيْنٍ بِقَوْلِ أَحَدِهِمْ: لَنْ نُغْلَبَ اليَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ، وَبِإْعَجاِب كَثْرَتِهِمْ لِمَنْ أَعْجَبتْهُ مِنْهُمْ، فَهُزِمَ الجَيْشُ بِذَلِكَ فِتْنَةً وَمِحْنَةً، ثُمَّ اسْتَقَرَّ الأَمْرُ عَلَى النَّصْرِ وَالظَّفَرِ وَاللَّه أَعْلَمُ (1).
*
نسْخُ حُكْمِ الفِدَاءِ وَجَعْله لِلْإِمَامِ:
كَانَ أَخْذُ الفِدَاءِ فِي أَوَّلِ الإِسْلَامِ، ثُمَّ جُعِلَ فِيمَا بَعْدُ الخِيَارُ لِلْإِمَامِ بَيْنَ القَتْلِ أَوِ الفِدَاءِ أَوِ المَنِّ مَا عَدَا الأَطْفَالِ وَالنِّسَاءِ، إِذْ لَا يَجُوزُ قتلُهُمْ، مَا دَامُوا
= مسعود رضي الله عنه قال: قال رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ". . . وإن مَثَلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه السلام، قال: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، ومثلك يا أبا بكر كمثل عيسى عليه السلام، قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، وإن مثلك يا عمر كمثل نوح عليه السلام، قال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا}، وإن مثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام، قال: {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} ".
(1)
انظر زاد المعاد (3/ 101).
غَيْرَ مُحَارِبِينَ (1)، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} (2).
قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: وَقَدِ اسْتَقَرَّ فِي الأَسْرَى عِنْدَ جُمْهُورِ العُلَمَاءِ: أَنَّ الإِمَامَ مُخَيَّرٌ فِيهِمْ: إِنْ شَاءَ قتلَ -كَمَا فَعَلَ صلى الله عليه وسلم ببَنِي قُرَيْظَةَ- وَإِنْ شَاءَ فَادَى بِمَالٍ -كَمَا فَعَلَ صلى الله عليه وسلم بِأَسْرَى بَدْرٍ- أَوْ بِمَنْ أُسِرَ مِنَ المُسْلِمِينَ -كَمَا فَعَلَ صلى الله عليه وسلم فِي تِلْكَ الجَارِيَةِ وَابْنَتِهَا اللَّتَيْنِ كَانتا فِي سَبْيِ سَلَمَةَ بنِ الأَكْوَعِ، حَيْثُ رَدَّهُمَا وَأَخَذَ فِي مُقَابِلِتِهِمَا مِنَ المُسْلِمِينَ الذِينَ كَانُوا عِنْدَ المُشْرِكِينَ (3)، وَإِنْ شَاءَ اسْتَرَقَّ (4) مَنْ أَسَرَ (5).
وَقَالَ الإِمَامُ ابنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: وَالصَّوَابُ مِنَ القَوْلِ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} (6) مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَذَلِكَ أَنَّ صِفَةَ النَّاسِخِ وَالمَنْسُوخِ مَا قَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فِي كِتَابِنَا أَنَّهُ مَا لَمْ يَجُزِ اجْتِمَاعُ حُكْمَيْهِمَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ مَا قَامَتِ الحُجَّةُ بِأَنَّ أحَدَهُمَا نَاسِخٌ لِلآخَرِ، وَغَيْرُ
(1) انظر المغني لابن قدامة (8/ 372).
(2)
سورة محمد آية (4).
(3)
أخرج خبر الجارية وابنتها: الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب التنفيل وفداء المسلمين بالأسارى - رقم الحديث (1755).
(4)
اسْتَرَقّ: أي صار مملوكًا. انظر النهاية (2/ 228).
(5)
انظر تفسير ابن كثير (4/ 91).
(6)
سورة محمد آية (4).
مُسْتَنْكَرٍ أَنْ يَكُونَ جَعْلُ الخِيَارِ فِي المَنِّ (1) وَالفِدَاءِ وَالقَتْلِ إِلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَإِلَى القَائِمِينَ بَعْدَهُ بِأَمْرِ الأُمَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ القَتْلُ مَذْكُورًا فِي هَذِهِ الآيَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَذِنَ بِقَتْلِهِمْ فِي آيَةٍ أُخْرَى، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} الآية (2)، بَلْ ذَلِكَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ فِيمَنْ صَارَ أَسِيرًا فِي يَدِهِ مِنْ أَهْلِ الحَرْبِ، فَيَقْتُلُ بَعْضًا، وَيُفَادِي بِبَعْضٍ، وَيَمُنُّ عَلَى بعْضٍ، مِثْلَ يَوْمِ بَدْرٍ قتلَ عُقْبَةَ بنَ أَبِي مُعَيْطٍ، وَقَدْ أُتِيَ بِهِ أَسِيرًا، وَقَتَلَ بَنِي قرَيْظَةَ (3)، وَقدْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ رضي الله عنه، وَصَارُوا فِي يَدِهِ سِلْمًا، وَهُوَ عَلَى فِدَائِهِمْ وَالمَنِّ عَلَيْهِمْ قَادِرٌ، وَفَادَى بِجَمَاعَةٍ أُسَارَى المُشْرِكِينَ الذِينَ أُسِرُوا بِبَدْرٍ، وَمَنَّ عَلَى ثُمَامَةَ بنِ أُثَالٍ الحَنَفِيِّ، وَهُوَ أَسِيرٌ فِي يَدِهِ (4)، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ ثَابِتًا مِنْ سَيْرِهِ فِي أَهْلِ الحَرْبِ مِنْ لَدُنْ أَذِنَ اللَّهُ لَهُ بِحَرْبِهِمْ، إِلَى أَنْ قبضَهُ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم، دَائِمًا ذَلِكَ فِيهِمْ (5).
(1) مَنَّ عليه: أحسَنَ وأنْعَم. انظر لسان العرب (13/ 197).
(2)
سورة التوبة آية (5).
(3)
أخرج قتل الرسول صلى الله عليه وسلم بني قريظة: البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب - رقم الحديث (4121)(4122) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب جواز قتال من نقض العهد - رقم الحديث (1768).
(4)
أخرج مَن الرسول صلى الله عليه وسلم على ثُمَامَةَ بن أثالٍ: البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب وفد بني حنيفة وحديث ثمامة بن أثال - رقم الحديث (4372) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب ربط الأسير وحبسه - رقم الحديث (1764).
(5)
انظر كلام الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان (11/ 307).
وَقَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ، بَعْدَ أَنْ سَاقَ أَقْوَالَ العُلَمَاءِ فِي حُكْمِ الأَسِيرِ قَالَ: فَدَلَّ كُلُّ ذَلِكَ عَلَى تَرْجِيحِ قَوْلِ الجُمْهُورِ: إِنَّ ذَلِكَ رَاجعٌ إِلَى رَأْي الإِمَامِ (1).
* فِدَاءُ (2) الأُسَارَى:
جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِدَاءَ الأَسْرَى كُلٌّ عَلَى قَدْرِ مَالِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فِدَاءٌ، وَيُحْسِنُ القِرَاءَةَ وَالكِتَابَةَ، جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِدَاءه أَنْ يُعَلِّمَ أَوْلَادَ الأَنْصَارِ القِرَاءَةَ وَالكِتَابَةَ، فَإِذَا حَذِقُوا (3) فَهُوَ فِدَاؤُهُ، وَبَعْضُ الأَسْرَى لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَالٌ، فَمَنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فأَطْلقهُمْ بِغَيْرِ فِدَاءٍ.
أَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ أُسِرَ سَبْعُونَ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِدَاءَ كُلِّ وَاحِدٍ أَرْبَعِينَ أُوقِيَةً ذَهَبًا (4).
وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنَ الأَسْرَى يَوْمَ بَدْرٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِدَاءٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِدَاءَهُمْ أَنْ يُعَلِّمُوا أَوْلَادَ الأَنْصَارِ الكِتَابَةَ (5).
(1) انظر فتح الباري (6/ 262).
(2)
الفِدَاء بالكسر: فَكَاكُ الأسير. انظر النهاية (3/ 378).
(3)
حَذِقَ: أتْقَنَ. انظر النهاية (1/ 343).
(4)
أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة (2/ 477) - وحسن إسناده الحافظ في الفتح (8/ 58).
(5)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2216).