الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
قِصَّةُ أُمِّ مَعْبَدٍ الخُزَاعِيَّةُ:
أَكْمَلَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم طَرِيقَهُ إِلَى المَدِينَةِ وَمَعَهُ صَاحِبُهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه وَعَامِرُ بنُ فُهَيْرَةَ رضي الله عنه، وَالدَّلِيلُ عَبْدُ اللَّهِ بنُ أُرَيْقِطٍ، وَفِي الطَّرِيقِ مَرُّوا عَلَى خَيْمَةِ أَمٍّ مَعْبَدٍ الخُزَاعِيَّةِ، وَكَانَ مَنْزِلُهَا بِقُدَيْدٍ (1)، وَكَانَتْ امْرَأَةً بَرْزَةً (2) جَلْدَةً (3) تَحْتَبِي (4) بِفِنَاءِ (5) الخَيْمَةِ، ثُمَّ تَسْقِي وَتُطْعِمُ مَنْ مَرَّ بِهَا، فَسَأَلَاهَا: لَحْمًا وَتَمْرًا لِيَشْتَرُوا مِنْهَا، فَلَمْ يَجْدُوا عِنْدَهَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ القَوْمُ مُرْمِلِينَ (6) مُسْنِتِينَ (7)، فنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى شَاةٍ فِي جَانِبِ الخَيْمَةِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:"مَا هَذِهِ الشَّاةُ يَا أُمَّ مَعْبَدٍ؟ "، قَالَتْ: شَاةٌ خَلَّفَهَا الجَهْدُ (8) عَنِ الغَنَمِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم:"هَلْ بِهَا مِنْ لَبَنٍ؟ "، قَالَتْ: هِيَ أَجْهَدُ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم:"أَتأْذَنِينَ لِي أَنْ أَحْلِبَهَا؟ "، قَالَتْ: إِنْ رَأَيْتَ بِهَا حَلَبًا، فَاحْلِبْهَا، فَدَعَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَسَحَ بِيَدِهِ
(1) قُدَيدٌ: مُصَغَّرًا، وهو موضعٌ بين مكةَ والمدينة. انظر النهاية (4/ 20).
(2)
يُقال: امرأة بَرْزَة إذا كانت كَهْلة لا تَحْتَجِبُ احتِجَابَ الشَّوابِّ، وهي مع ذلك عَفِيفة عاقلة تجلسُ للناسِ وتُحَدِّثهم، من البُرُوزِ وهو الظُّهور والخروج. انظر النهاية (1/ 118).
(3)
جَلْدَة: أي قوية في نفسها وجسمها. انظر النهاية (1/ 275).
(4)
الاحتِبَاء: هو أن يَضُم الإنسان رِجليه إلى بَطْنِهِ بثوبٍ يجمعهما به مع ظَهره، ويَشُدُّه عليها، وقد يكون الاحتباءُ باليدين عِوَض الثوب. انظر النهاية (1/ 324).
(5)
الفِنَاء: بكسر الفاء، وهو المُتَّسَع أمام الدار. انظر النهاية (3/ 428).
(6)
مُرْمِلِينَ: أي نَفِدَ زَادُهم. وأصله من الرَّمل، كأنهم لصقوا بالرمل. انظر النهاية (2/ 240).
(7)
مسْنِتِينَ: أي أصابتهم السَّنَة، والسَّنَة هي الجَدْبُ، يُقال أخذتهم السَّنَة إذا أجدبوا وأُقحطوا. انظر النهاية (2/ 371).
(8)
الجَهْدُ: بفتح الجيم أي المشقَّة. انظر النهاية (1/ 308).
ضَرْعَهَا، وَسَمَّى اللَّهَ تَعَالَى، وَدَعَا لَهَا فِي شَاتِهَا، فتَفَاجَّتْ (1) عَلَيْهِ، وَدَرَّتْ فَاجْتَرَّتْ (2)، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِإِنَاءٍ يُرْبِضُ الرَّهْطَ (3)، فَحَلَبَ فِيهِ ثَجًّا (4) حَتَّى عَلَاهُ البَهَاءُ (5)، ثُمَّ سَقَاهَا حَتَّى رَوِيَتْ، وَسَقَى أَصْحَابَهُ حَتَّى رَوُوا، وَشَرِبَ آخِرَهُمْ حَتَّى أَرَاضُوا (6)، ثُمَّ حَلَبَ فِيهِ ثَانِيَةً عَلَى هَدَّةٍ (7) حَتَّى مَلأَ الإِنَاءَ، ثُمَّ غَادَرَهُ عِنْدَهَا، وَارْتَحَلُوا عَنْهَا.
فَقَلَّ مَا لَبِثَتْ حَتَّى جَاءَ زَوْجُهَا أَبُو مَعْبَدٍ، يَسُوقُ أَعْنُزًا عِجَافًا (8)، يَتَسَاوَكْنَ (9) هِزَالًا، فَلَمَّا رَأَى أَبُو مَعْبَدٍ اللَّبَنَ عَجِبَ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَكِ هَذَا يَا أُمَّ مَعْبَدٍ؟ وَالشَّاءُ عَازِبٌ (10) حَائِلٌ (11)، وَلَا حَلُوبَ (12) فِي البَيْتِ؟
(1) التَفَاجُّ: المبالغة في تَفْرِيج ما بين الرجلين. انظر النهاية (3/ 370).
(2)
الجِرَّة: ما يُخرجُهُ البعيرُ من بطنهِ ليَمْضَغَهُ ثم يَبْلَعه، ومنه شاة أم معبد، انظر النهاية (1/ 251).
(3)
يُرْبِضُ الرَّهطَ: أي يَرويهم ويُثقلهم حتى يَنَاموا ويَمْتَدُّوا على الأرض. انظر النهاية (2/ 169).
(4)
فَحَلَبَ فيه ثَجًّا: أي لَبَنًا سَائِلًا كثِيرًا. انظر النهاية (1/ 202).
(5)
أرَاد بهاء اللبن، وهو بَرِيق رغوته. انظر النهاية (1/ 166).
(6)
أرَاضُوا: أي شَرِبوا حتى رَوَوْا. انظر النهاية (1/ 42).
(7)
الهَدَّة: الصَّوت الشديد. انظر لسان العرب (15/ 49).
(8)
عِجَافًا: جمعُ عَجْفَاء، وهي المَهْزُولَة من الغَنَم. انظر النهاية (3/ 169).
(9)
يَتَسَاوَكْنَ: يُقالُ تَسَاوَكَت الإبل إذا اضْطَرَبَت أعنَاقُهَا من الهُزَالِ، أراد أنها تتمَايَلُ من ضَعْفِها. انظر النهاية (2/ 381).
(10)
عَازِبٌ: أي بعيدة المَرعى. انظر النهاية (3/ 205).
(11)
حَائِل: هي التي لم تَحْمل. انظر النهاية (3/ 205).
(12)
ولا حَلُوب: أي ولا شاة تُحلب. انظر النهاية (1/ 405).
قَالَتْ: لَا وَاللَّهِ إِلَّا أَنَّهُ مَرَّ بِنَا رَجُلٌ مُبَارَكٌ مِنْ حَالِهِ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: صِفِيهِ لِي يَا أُمَّ مَعْبَدٍ، فَقَالَتْ: رَأَيْتُ رَجُلًا ظَاهِرَ الوَضَاءَةِ (1)، أَبْلَجَ الوَجْهِ (2)، حَسَنَ الخَلْقِ، لَمْ تَعِبْهُ ثُجْلَةٌ (3)، وَلَمْ تُزْرِيهِ (4) صُعْلَةٌ (5)، وَسِيمٌ (6) قَسِيمٌ (7)، فِي عَيْنَيْهِ دَعَجٌ (8)، وَفِي أَشْفَارِهِ (9) وَطَفٌ (10)، وَفِي صَوْتِهِ صَهَلٌ (11)، وَفِي عُنُقِهِ سَطَعٌ (12)، وَفِي لحْيَتِهِ كَثَاثَةٌ (13)، أَزَجُّ (14)، أَقْرَنُ (15)، إِنْ صَمَتَ فَعَلَيْهِ
(1) الوَضَاءَة: هي الحُسن والبهجة. انظر النهاية (5/ 169).
(2)
أبْلَج الوجه: أي مُشرِقُ الوجه مُسْفِرُه. انظر النهاية (1/ 149).
(3)
ثُجْلَة: أي ضخم البَطن. انظر النهاية (1/ 202).
(4)
الإزدراءُ: الاحتقار والانتقاص والعيب. انظر النهاية (2/ 273).
(5)
صُعْلَة: هي صغرُ الرأس، وهي أيضًا الدِّقة والنُّحول في البدن. انظر النهاية (3/ 30).
(6)
الوَسَامة: هي الحُسْنُ الوضيءُ الثابت. انظر النهاية (5/ 161).
(7)
القَسَامة: هي الحُسن، ورجل مُقسَّم الوجه: أي جميلٌ كله، كأن كل موضِعٍ منه أخذَ قِسمًا من الجمال. انظر النهاية (4/ 56).
(8)
الدَّعَجُ والدُّعْجَةُ: هو السَّوَادُ في العين وغيرها، تريد أن سَوَادَ عينَيْهِ كان شديدَ السواد، وقيلَ الدَّعَجُ: شدَّة سوادِ العينِ في شِدَّةِ بياضها. انظر النهاية (2/ 111).
(9)
الأشْفَارُ: هي جفنُ العينِ الذي يَنْبُتُ عليه الشعر. انظر النهاية (2/ 433).
(10)
وَطَفٌ: أي أن في شعر أجفَانه طول. انظر النهاية (5/ 177).
(11)
صَهَل: أي حِدَّة وصلابة. انظر النهاية (3/ 59).
(12)
سَطَع: أي ارتفاعٌ وطول. انظر النهاية (2/ 329).
(13)
الكثَاثَةُ في اللحية: أن تكون غير رقيقةٍ ولا طَوِيلة، ولكن فيها كَثَافة. انظر النهاية (4/ 132).
(14)
أَزَجُّ: أي تقوس في الحاجب مع طول في طرفه وامتداد. انظر النهاية (2/ 268).
(15)
قال ابن الأثير في النهاية (4/ 48): جاء في صفته صلى الله عليه وسلم: سَوابغ في غير قَرَن، القَرَن =
الوَقَارُ (1)، وَإِنْ تَكَلَّمَ سَمَاهُ وَعَلَاهُ البَهَاءُ (2)، أَجْمَلُ النَّاسِ، وَأَبْهَاهُ مِنْ بَعِيدٍ، وَأَحْسَنُهُ وَأَجْمَلُهُ مِنْ قَرِيبٍ، حُلْوُ المَنْطِقِ (3)، فَصْلًا (4) لَا نَزْرَ (5) وَلَا هَذَرَ (6)، كَأَنَّ مَنْطِقَهُ خَرَزَاتُ نَظْمٍ يَتَحَدَّرْنَ (7)، رَبْعَةٌ (8) لَا تَشْنَؤُهُ (9) مِنْ طُولٍ، وَلَا تَقْتَحِمُهُ (10) عَيْنٌ مِنْ قِصَرٍ، غُصْنٌ بَيْنَ غُصْنَيْنِ، فَهُوَ أَنْضَرُ (11) الثَّلَاثَةِ مَنْظَرًا،
= -بالتحريك- التقاءُ الحَاجبين، وهذا خلاف ما روت أمُّ معبد، فإنها قالت في صفته صلى الله عليه وسلم: أَزَجُّ أقرن: أي مَقْرُون الحاجبين، والأول الصحيح في صفته صلى الله عليه وسلم.
(1)
الوَقَارُ: هو الحِلْمُ والرَّزَانة. انظر النهاية (5/ 185).
(2)
البهاءُ: المَنْظَرُ الحسَنُ الرائع المالِئُ للعين. انظر لسان العرب (1/ 529).
(3)
المنطِقُ: الكلام. انظر لسان العرب (14/ 188).
(4)
فَصْلًا: أي بَيّن ظاهر، يفصلُ بين الحق والباطل. انظر النهاية (3/ 404).
روى الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (25077) - وأبو داود في سننه - كتاب الأدب - باب الهدي في الكلام - رقم الحديث (4839) بسند حسن عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان كلامُ النبي صلى الله عليه وسلم فَصْلًا، يَفهمُهُ كل مَنْ سَمِعه.
(5)
النَّزْرُ: القليلُ، أي ليس بقليلٍ فيدل على عِيٍّ أي الجهل، ولا كثيرٍ فاسد. انظر النهاية (5/ 34).
(6)
هَذَرٌ: أي لا قَليل ولا كثير، والهَذَرَ، بالتحريك: الهَذَيان. انظر النهاية (5/ 222).
(7)
قال الدكتور محمد أبو شهبة في كتابه السيرة النبوية (1/ 489): أي كلامه صلى الله عليه وسلم مُتَناسق، ومُتَّصل بعضه ببعض، يُشبه في تناسقه الدُّرَّ، وفي تواليهِ الخَرَزَات إذا تَتَابعت.
(8)
رَبْعة: أي بينَ الطويل والقصير. انظر النهاية (2/ 174).
(9)
لا تَشْنَؤُهُ من طول: أي لا يُبْغَضُ لِفَرْطِ طُوله. انظر النهاية (2/ 450).
(10)
ولا تقتحمه عينٌ من قِصَر: أي لا تتجاوزهُ إلى غيره احتِقَارًا له، وكل شيء ازدريتَهُ فقد اقتَحَمْتَه. انظر النهاية (4/ 18).
(11)
النَّضَارَةُ: هي حُسن الوجه، والبريق. انظر النهاية (5/ 61).
وَأَحْسَنُهُمْ قَدْرًا، لَهُ رُفَقَاءُ يَحُفُّونَ (1) بِهِ، إِنْ قَالَ سَمِعُوا لِقَوْلهِ، وَإِنْ أَمَرَ تَبَادَرُوا إِلَى أَمْرِهِ، مَحْفُودٌ (2) مَحْشُودٌ (3)، لَا عَابِسَ (4)، وَلَا مُفَنِّدَ (5).
فَقَالَ أَبُو مَعْبَدٍ: هَذَا وَاللَّهِ صَاحِبُ قُرَيْشٍ الذِي ذُكِرَ لَنَا مِنْ أَمْرِهِ مَا ذُكِرَ، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَصْحَبَهُ، وَلَأَفْعَلَنَّ إِنْ وَجَدْتُ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا.
وَأَصْبَحَ صَوْتٌ بِمَكَّةَ عَالِيًا، يَسْمَعُونَهُ وَلَا يَدْرُونَ مَنْ صَاحِبُهُ، وَهُوَ يَقُولُ:
جَزَى اللَّهُ رَبُّ النَّاسِ خَيْرَ جَزَائِهِ
…
رَفِيقَيْنِ حَلَّا خَيْمَةَ أُمِّ مَعْبَدٍ
هُمَا نَزَلَا بِالغَارِ وَارْتَحَلَا بِهِ
…
فَيَا سَعْدَ مَنْ أَمْسَى رَفِيقَ مُحَمَّدِ
فَيَالَ قُصَيٍّ مَا زَوَى اللَّهُ عَنْكُمُ
…
بِهِ مِنْ فِعَالٍ لَا تُجَازُ وَسُؤْدَدِ
لِيَهْنَ أَبَا بَكْرٍ سَعَادَةَ جَدِّهِ
…
بِصُحْبَتِهِ مَنْ يُسْعِدِ اللَّهُ يَسْعَدِ
سَلُو أُخْتَكُمْ عَنْ شَاتِهَا وَإِنَائِهَا
…
فَإِنَّكُمْ إِنْ تَسْأَلُوا الشَّاةَ تَشْهَدِ
دَعَاهَا بِشَاةٍ حَائِلٍ فتَحَلَّبَتْ
…
عَلَيْهِ صَرِيحًا دَرَّةُ الشَّاةِ مُزْبِدِ
(1) يَحُفُّون به: يُحِيطون به من جميعِ جوانبه. انظر لسان العرب (3/ 244).
(2)
المَحْفُودُ: الذي يَخْدِمه أصحابه ويُعظمونه ويُسرعُون في طاعته. انظر النهاية (1/ 390).
(3)
المَحْشُودُ: أي أن أصحابه يخدمونه ويجتمعون إليه. انظر النهاية (1/ 373).
(4)
العَابِسُ: الكريهُ المَلْقى، مُقَطِّب الوجه. انظر النهاية (3/ 156).
(5)
مفنِّد: هو الذي لا فائدةَ من كلامه لكِبْرٍ أصَابه. انظر النهاية (3/ 427).
ومنه قوله تعالى في سورة يوسف آية (94) على لسان يعقوب عليه السلام: {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ} .