الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
الهُجُومُ العَامُّ وَنُشُوبُ الحَرْبِ:
كَانَتْ نِهَايَةُ هَذِهِ المُبَارَزَةِ بِدَايَةً سَيِّئَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى المُشْرِكِينَ، فَقَدُوا ثَلَاثَةً مِنْ خِيرَةِ فُرْسَانِهِمْ وَقَادَتِهِمْ دُفْعَةً وَاحِدَةً، فَاسْتَشَاطُوا غَضَبًا، وَكَرُّوا عَلَى المُسْلِمِينَ كَرَّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ (1).
*
تَسَاقُطُ الشُّهَدَاءِ:
ثُمَّ تَزَاحَفَ النَّاسُ، وَدَنَا بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَشَدَّ الكُفَّارُ عَلَى المُسْلِمِينَ، وَنَشَبَتِ الحَرْبُ، فَرُمِيَ مِهْجَعٌ (2)، مَوْلَى عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه بِسَهْمٍ فَقتَلَهُ، فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ مِنَ المُسْلِمِينَ (3).
ثُمَّ رُمِيَ حَارِثَةُ بنُ سُرَاقَةَ رضي الله عنه وَكَانَ فِي النَّظَّارَةِ كَمَا ذَكَرْنَا- وَهُوَ يَشْرَبُ مِنَ الحَوْضِ، بِسَهْمٍ غَرْبٍ (4) فَأَصَابَ نَحْرَهُ (5) فَقتَلَهُ، فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ مِنَ الأَنْصَارِ.
أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أنَسِ بنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: أَنَّ أُمَّ حَارِثَةَ بنِ سُرَاقَةَ أَتَتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَلَا تُحَدِّثُنِي عَنْ حَارِثَةَ -وَكَانَ قَدْ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ- فَإِنْ كَانَ فِي الجَنَّةِ صَبَرْتُ، وَإِنْ
(1) الرحيق المختوم ص 217.
(2)
قال الحافظ في الإصابة (6/ 182): قال ابن هشام: مِهْجع مولى عمر بن الخطاب، كان من السابقين إلى الإسلام، وشهد بدرًا، واستشهد بها.
(3)
انظر سيرة ابن هشام (2/ 239).
(4)
قال الحافظ في الفتح (6/ 107): أي لا يُعرف رَامِيه، أو لا يُعرف من أين أتى.
(5)
النَّحْرُ: أعلى الصدر. انظر النهاية (5/ 23).
كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ فِي البُكَاءِ (1)، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:"يَا أُمَّ حَارِثَةَ، إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الجَنَّةِ، وَإِنَّ ابْنَكِ أصَابَ الفِرْدَوْسَ الأَعْلَى"(2).
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ قَالَ صلى الله عليه وسلم لِأُمِّ حَارِثَةَ: "وَيْحَكِ (3) أَوَهَبِلْتِ (4)؟ أَوَجَنَّة وَاحِدَةٌ هِيَ، إِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ، وَإِنَّهُ فِي جَنَّةِ الفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى"(5).
قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: وَفي هَذَا تَنْبِيهٌ عَظِيمٌ عَلَى فَضْلِ أَهْلِ بَدْرٍ، فَإِنَّ هَذَا الذِي لَمْ يَكُنْ فِي بُحَيْحَةِ (6) القِتَالِ، وَلَا فِي حَوْمَةِ الوَغَى (7)، بَلْ كَانَ مِنَ النَّظَّارَةِ مِنْ بَعِيدٍ، وَإِنَّمَا أصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ، وَهُوَ يَشْرَبُ مِنَ الحَوْضِ، وَمَعَ هَذَا أصَابَ
(1) قال الحافظ في الفتح (6/ 108): وكان ذلك قبل تحرِيم النَّوْحِ، فإن تحريمه كان عَقِبَ غزوة أُحد، وهذه القصة كانت عقب غزوة بدر.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب من أتاه سهم غرب فقتله - رقم الحديث (2809).
(3)
وَيْح: كلمة تَرحُّم وتوجّع، تُقال لمن وَقَع في هلكة لا يستحقها، وقد تقال بمعنى المدح والتعجب. انظر النهاية (5/ 204).
(4)
هَبِلْتِ: هو بفتح الهاء وكسر الباء، وقد استعاره هاهنا لِفَقْدِ المَيْز والعقل مما أصابها من الثكل بولدها، كأنه قال: أفقدت عقلك بفقد ابنك، حتى جعلت الجنان جنة واحدة. انظر النهاية (5/ 209).
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب فضل من شهد بدر - رقم الحديث (3982).
(6)
بُحَيحَة القتال: أي ساحتها. انظر لسان العرب (1/ 534).
(7)
حَوْمَة القتال: مُعْظَمُه وأشد موضعٍ فيه. انظر لسان العرب (3/ 407) - والوغى: الحرب نفسها. انظر لسان العرب (15/ 353).
بِهَذَا المَوْقِفِ الفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى التِي هِيَ أَعْلَى الجِنَانِ وَأَوْسَطُ الجَنَّةِ (1)، وَمِنْهُ تُفَجَّرُ أنْهَارُ الجَنَّةِ التِي أَمَرَ الشَّارعُ أُمَّتَهُ إِذَا سَأَلُوا اللَّهَ الجَنَّةَ أَنْ يَسْألوهُ إيَّاهَا (2)، فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُ هَذَا، فَمَا ظَنُّكَ بِمَنْ كَانَ وَاقِفًا فِي نَحْرِ العَدُوِّ، وَعَدُوُّهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أضْعَافِهِمْ عَدَدًا، وَعُدَدًا (3).
وَلَمَّا اشْتَدَّ القِتَالُ اسْتَفْتَحَ (4) أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَقْطَعُنَا لِلرَّحِمِ، وَآتَانَا بِمَا لَا نَعْرِفْ، فَأَحْنِهِ (5) الغَدَاةَ (6)، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ
(1) المراد بأوسط الجنة هنا: الأعدل والأفضل. انظر النهاية (5/ 160).
ومنه قوله تَعَالَى في سورة البقرة آية (143): {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا. . .} .
(2)
يشير الحافظ ابن كثير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب درجات المجاهدين في سبيل اللَّه - رقم الحديث (2790) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة مِائة درجة أعدّها اللَّه للمجاهدين في سبيل اللَّه ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم اللَّه فاسألوه الفردوسَ، فإنه أوسَط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرشُ الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة".
(3)
انظر كلام الحافظ ابن كثير رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالى في البداية والنهاية (3/ 348).
(4)
استفْتَحَ: أي استنصر. انظر النهاية (3/ 365).
(5)
أحْنِهِ: أي أهلِكْه. انظر لسان العرب (3/ 423).
(6)
أخرج استفتاح أبي جهل لعنه اللَّه تَعَالَى: الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (23661) - والنسائي في السنن الكبرى - كتاب التفسير - باب قوله تَعَالَى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} - رقم الحديث (11137) - والحاكم في المستدرك - كتاب التفسير - باب شأن نزول: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} - رقم الحديث (3317) وإسناده صحيح.