الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ بَنَى للَّهِ مَسْجِدًا كمِفْحَصِ (1) قَطَاةٍ أَوْ أَصْغَرَ، بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا في الجَنَّةِ"(2). وَوَافَقَهُ الصَّحَابَةُ المَوْجُودُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يُغَيِّرُوهُ بَعْدَهُ، فَيُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ عَلَى الرَّاجِحِ مِنْ قَوْلِ العُلَمَاءِ أَنَّ حُكْمَ الزِّيَادَةِ حُكْمَ المَزِيدِ، فتَدْخُلُ الزِّيَادَةُ في حُكْمِ سَائِرِ المَسْجِدِ مِنْ تَضْعِيفِ الصَّلَاةِ فِيهِ، وَشَدِّ الرِّحَالِ إلَيهِ (3).
*
مَكَانَةُ المَسْجِدِ فِي الإِسْلَامِ:
وَلَمْ يَكُنِ المَسْجِدُ مَوْضِعًا لِأَدَاءَ الصَّلَاةِ فَحَسْبُ، بَلْ كَانَ جَامِعَةً يَتَلَقَّى فِيهَا المُسْلِمُونَ تَعَالِيمَ الإِسْلَامِ وَتَوْجِيهَاتِهِ، ومُنْتَدى تَلْتَقِي فِيهِ العَنَاصِرُ القَبَلِيَّةُ المُخْتَلِفَةُ التِي طَالَمَا نَافَرَتْ بَيْنَهَا النَّزعَاتُ الجَاهِلِيَّةُ وحُرُوبُهَا، وقَاعِدَةً لِإِدَارَةِ جَمِيعِ الشُّؤُونِ، وبَثِّ الِانْطِلَاقَاتِ، وبَرْلَمَانًا لِعَقْدِ المَجَالِسِ الِاسْتِشَارِيَّةِ والتَّنْفِيذِيَّةِ.
وَكَانَ مَعَ هَذَا كُلِّهِ دَارًا يَسْكُنُ فِيهَا عَدَدٌ كَبِيرٌ مِنْ فُقَرَاءَ المُهَاجِرِينَ
(1) المِفْحَصُ: هو موضعُ القَطَاةِ الذي تَجْثُمُ فيه وتَبِيض، كأنها تَفْحَصُ عنه التُّرابَ: أي تكشِفُه، والفَحْصُ: البَحْثُ والكَشْفُ، والقَطَاة: هو طائرٌ معروفٌ بخِفَّةِ الحَرَكة. انظر النهاية (3/ 372).
(2)
أخرج هذا الحديث ابن ماجه في سننه - كتاب المساجد - باب من بني للَّه مسجدًّا - رقم الحديث (738) - والطحاوي في شرح المشكل - رقم الحديث (1557) - وإسناده صحيح.
(3)
انظر البداية والنهاية (3/ 230).
اللَّاجِئِينَ، الذِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ هُنَاكَ دَارٌ، وَلَا مَالٌ، وَلَا أهْلٌ، وَلَا بَنُونَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُجَالِسُهُمْ ويَأْنَسُ بِهِمْ، وكَانُوا يُسَمَّوْنَ أَهْلَ الصُّفَّةِ (1).
قَالَ الشَّيْخُ محمَّد الغَزَالي رحمه الله: وتَمَّ بِنَاءُ المَسْجِدِ في حُدُودِ البَسَاطَةِ، فراشه الرمال والحصباء (2)، وسقفه الجريد، وأعمدته الجذوع، ورُبَّمَا أمْطَرَتِ السَّمَاءُ فَأَوْحَلَتْ (3) أرْضُهُ (4)، وَقَدْ تَفْلُتُ الكِلَابُ إِلَيْهِ فَتَغْدُو وتَرُوحُ (5)
(1) الصُّفَّةُ: هو موضعٌ مُظَلَّلٌ في المسجد النبوي كان تَأْوِي إليه الفقراء والمساكين من لم يكن له منهم منزل. انظر النهاية (3/ 35).
قال الحافظ في الفتح (7/ 296): كانت الصفة في مؤخر المسجد معدَّةٌ لفقراء أصحابه صلى الله عليه وسلم غير المتأهلين، وكانوا يكثرون تارة حتَّى يبلغوا المائتين، ويقلون أخرى لإرسالهم في الجهاد وتعليم القرآن.
(2)
الحصباء: الحصى الصغار. انظر النهاية (1/ 378).
(3)
الوَحَلُ: بالتحريك هو الطِّينُ الرَّقِيقُ. انظر النهاية (5/ 142).
(4)
أخرج الإمام البخاري في صحيحه - رقم الحديث (2016) من حديث أبي سلمة، قال: سأَلتُ أَبا سعيد - وكان لي صَدِيقًا - فقال: . . . قال رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنِّي أُريت ليلةَ القَدْر ثم أُنسِيتها -أو نُسِّيتها- فالتَمِسُوها في العشْرِ الأوَاخِرِ في الوِتْر، وإني رأيتُ أني أسْجُدُ في مَاءٍ وطِينٍ، فمَنْ كان اعتَكَف مع رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فليرجِعْ"، فرجَعْنا، وما نرَى في السَّماء قزَعَةً -بفتح القاف والزاي أي قطعةٌ من سحَابٍ رَقِيقة-، فجاءت سحَابة فمَطرت حتَّى سَال سَقْفُ المَسْجِدِ، وكان من جَرِيد النخلِ، وأُقيمت الصلاة، فرأيتُ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْجُدُ في الماء والطين، حتَّى رأيتُ أثَرَ الطينِ في جَبْهَتِهِ.
(5)
أخرج البخاري في صحيحه - رقم الحديث (174) عن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما قال: كانت الكِلابُ تُقْبِل وتُدْبِرُ في المسجدِ في زمانِ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فلم يَكُونُوا يَرُشُّونَ شيئًا من ذلك.
قال الحافظ في الفتح (1/ 373): والأقرب أن يُقال: إن ذلك كان في ابتِدَاء الحالِ على أصلِ الإباحة، ثمَّ ورَدَ الأمرُ بتكريمِ المَسَاجد وتَطْهِيرها وجَعْلِ الأبوابِ عليها.