الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَعَلَى الإِمَامِ دِيَتُهُ مِنْ بَيْتِ المَالِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ أَنْ يَدِيَ اليَمَانَ أَبَا حُذَيْفَةَ، فَامْتَنَعَ حُذَيْفَةُ مِنْ أَخْذِ الدِّيَةِ، وَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى المُسْلِمِينَ (1).
*
ذِكْرُ بَعْضِ الحِكَمِ وَالغَايَاتِ المَحْمُودَةِ التِي كَانَتْ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ:
لَقَدْ بَسَطَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الفَذِّ "زَادِ المَعَادِ" الدُّرُوسَ وَالعِبَرَ التِي كَانَتْ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ، فَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
1 -
فَمِنْهَا تَعْرِيفُهُمْ سُوءَ عَافِتةِ المَعْصِيَةِ، وَالفَشَلِ، وَالتَّنَازُعِ، وَأَنَّ الذِي أَصَابَهُمْ إِنَّمَا هُوَ بِشُؤْمِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (2). فَلَمَّا ذَاقُوا عَاقِبَةَ مَعْصِيَتَهِمْ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَتَنَازُعِهِمْ، وَفَشَلِهِمْ، كَانُوا بَعْدَ ذَلِكَ أَشَدَّ حَذَرًا وَيَقْظَةً، وَتَحَرُّزًا مِنْ أَسْبَابِ الخُذْلَانِ.
2 -
وَمِنْهَا أَنَّ حِكْمَةَ اللَّهِ وَسُنَّتَهُ فِي رُسُلِهِ، وَأَتْبَاعِهِمْ، جَرَتْ بِأَنْ يُدَالُوا مَرَّةً، وَيُدَالَ عَلَيْهِمْ أُخْرَى، لَكِنْ تَكُونُ لَهُمُ العَاقِبَةُ، فَإِنَّهُمْ لَوِ انتصَرُوا دَائِمًا، دَخَلَ مَعَهُمُ المُؤْمِنُونَ وَغَيْرُهُمْ، وَلَمْ يَتَمَيَّزِ الصَّادِقُ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَوِ انْتُصِرَ عَلَيْهِمْ
(1) انظر زاد المعاد (3/ 189 - 196).
(2)
سورة آل عمران آية (152).
دَائِمًا، لَمْ يَحْصُلِ المَقْصُودُ مِنَ البِعْثَةِ وَالرِّسَالَةِ، فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ أَنْ جَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ الأَمْرَيْنِ لِيَتَمَيّز مَنْ يتْبَعُهُمْ وَيُطِيعُهُمْ لِلْحَقِّ، وَمَا جَاؤُوا بِهِ مِمَّنْ يَتْبَعُهُمْ عَلَى الظُّهُورِ وَالغَلَبَةِ خَاصَّةً.
3 -
وَمِنْهَا أَنَّ هَذَا مِنْ أَعْلَامِ الرُّسُلِ، كَمَا قَالَ هِرَقْل لِأَبِي سُفْيَانَ: هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: كَيْفَ الحَرْبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ؟ ، قَالَ: سِجَالٌ، يدَالُ عَلَيْنَا المَرَّةَ، وَنُدَالُ عَلَيْهِ الأُخْرَى. قَالَ: كَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى، ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ العَاقبَةُ (1).
4 -
وَمِنْهَا أَنْ يتَمَيَّزَ المُؤْمِنُ الصَّادِقُ مِنَ المُنَافِقِ الكَاذِبِ، فَإِنَّ المُسْلِمِينَ لَمَّا أَظْهَرَهُمُ اللَّهُ عَلَى أَعْدَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَطَارَ لَهُمُ الصِّيتُ (2)، دَخَلَ مَعَهُمْ في الإِسْلَامِ ظَاهِرًا مَنْ لَيْسَ مَعَهُمْ فِيهِ بَاطِنًا، فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ عز وجل أَنْ سَبَّبَ لِعِبَادِهِ مِحْنَةً مَيَّزَتْ بَيْنَ المُؤْمِنِ وَالمُنَافِقِ، فَأَطْلَعَ المُنَافِقُونَ رُؤُوسَهُمْ في هَذِهِ الغَزْوَةِ، وَتَكَلَّمُوا بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَهُ، وَظَهَرَتْ مُخَبَّاتُهُمْ، وَعَادَ تَلْوِيحُهُمْ تَصْرِيحًا، وَانْقَسَمَ النَّاسُ إلى كَافِرٍ، وَمُؤْمِنٍ، وَمُنَافِقٍ، انْقِسَامًا ظَاهِرًا، وَعَرَفَ المُؤْمِنُونَ أَنَّ لَهُمْ عَدُوًّا في نَفْسِ دُورِهِمْ، وَهُمْ مَعَهُمْ لَا يُفَارِقُونَهُمْ، فَاسْتَعَدُّوا لَهُمْ، وَتَحَرَّزُوا مِنْهُمْ.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب بدء الوحي - باب (6) - رقم الحديث (7) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل - رقم الحديث (1773).
(2)
الصِّيتُ: الذِّكرُ والشُّهرَةُ والعِرْفَان. انظر النهاية (3/ 59).
5 -
وَمِنْهَا أَنَّ اللَّه سبحانه وتعالى لَوْ نَصَرَهُمْ دَائِمًا، وَأَظْفَرَهُمْ بِعَدُوِّهِمْ في كُلِّ مَوْطِنٍ، وَجَعَلَ لَهُمُ التَّمْكِينَ وَالقَهْرَ لِأَعْدَائِهِمْ أَبَدًا؛ لَطَغَتْ نُفُوسُهُمْ، وَشَمَخَتْ (1) وَارْتَفَعَتْ، فَلَوْ بَسَطَ لَهُمْ النَّصْرَ وَالظَّفَرَ، لَكَانُوا في الحَالِ التِي يَكُونُونَ فِيهَا لَوْ بَسَطَ لَهُمُ الرِّزْقَ، فَلَا يُصْلحُ عِبَادَهُ إِلَّا السَّرَّاءُ وَالضَّرَّاءُ، وَالشِّدَّةُ وَالرَّخَاءُ، وَالقَبْضُ وَالبَسْطُ، فَهُوَ المُدَبِّرُ لِأَمْرِ عِبَادِهِ كَمَا يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ، إِنَّهُ بِهِمْ خَبِيرٌ بَصِيرٌ.
6 -
وَمِنْهَا أَنَّهُ إِذَا امْتَحَنَهُمْ بِالغَلَبَةِ، وَالكَسْرَةِ، وَالهَزِيمَةِ، ذَلُّوا وَانْكَسَرُوا، وَخَضَعُوا، فَاسْتَوْجَبُوا مِنْهُ العِزَّ وَالنَّصْرَ، فَإِنَّ خِلْعَةَ النَّصْرِ إِنَّمَا تَكُونُ مَعَ وِلَايَةِ الذُّلِّ وَالِانْكِسَارِ، قَالَ تَعَالَى:{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} (2)، وَقَالَ سُبْحَانَهُ:{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} (3). فَهُوَ سُبْحَانَهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُعِزَّ عَبْدَهُ، وَيَجْبُرَهُ، وَيَنْصُرَهُ، كَسَرَهُ أَوَّلًا، وَيَكُونُ جَبْرُهُ لَهُ، ونَصْرُهُ عَلَى مِقْدَارِ ذُلِّهِ وَانْكِسَارِهِ.
7 -
وَمِنْهَا أَنَّهُ سبحانه وتعالى هَيَّأَ لِعِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ مَنَازِلَ في دَارِ كَرَامَتِهِ، لَمْ تَبْلُغْهَا أَعْمَالُهُمْ، وَلَمْ يَكُوُنوا بَالِغِيهَا إِلَّا بِالبَلَاءِ وَالمِحْنَةِ، فَيُقَيِّضُ (4) لَهُمُ
(1) الشَّامخُ: العالي، وشمَخَ بأنفِهِ: أي ارتفع وتكبّر. انظر النهاية (2/ 447).
(2)
سورة آل عمران آية (123).
(3)
سورة التوبة آية (25).
(4)
قيَّضَ: أي سبَّب وقَدَّر. انظر النهاية (4/ 115).
الأَسْبَابَ التِي تُوصِلُهُمْ إِلَيْهَا مِنِ ابْتِلَائِهِ وَامْتِحَانِهِ، كَمَا وَفَّقَهُمْ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ التِي هِيَ مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِ وُصُولهِمْ إِلَيْهَا.
8 -
وَمِنْهَا أَنَّ النُّفُوسَ تَكْتَسِبُ مِنَ العَافِيَةِ الدَّائِمَةِ وَالنَّصْرِ وَالغِنَى طُغْيَانًا وَرُكُونًا إلى العَاجِلَةِ، وَذَلِكَ مَرَضٌ يَعُوقُهَا عَنْ جِدِّهَا في سَيْرِهَا إلى اللَّهِ وَالدَّارِ الآخِرَةِ، فَإِذَا أَرَادَ بِهَا رَبّها وَمَالِكُهَا وَرَاحِمُهَا كَرَامَتَهُ، قَيَّضَ لَهَا مِنَ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ مَا يَكُونُ دَوَاءً لِذَلِكَ المَرَضِ العَائِقِ عَنِ السَّيْرِ الحَثِيثِ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ البَلَاءُ وَالمِحْنَةُ بِمَنْزِلَةِ الطَّبِيبِ يَسْقِي العَلِيلَ الدَّوَاءَ الكَرِيهَ، وَيَقْطَعُ مِنْهُ العُرُوقَ المُؤْلمَةَ لِاسْتِخْرَاجِ الأَدْوَاءِ (1) مِنْهُ، وَلَوْ تَرَكَهُ لَغَلَبَتْهُ الأَدْوَاءُ، حَتَّى يَكُونَ فِيهَا هَلَاكُهُ.
9 -
وَمِنْهَا أَنَّ الشَّهَادَةَ عِنْدَهُ مِنْ أَعْلَى مَرَاتِبِ أَوْليَائِهِ، وَالشُّهَدَاءُ هُمْ خَوَاصُّهُ وَالمُقَرَّبُونَ مِنْ عِبَادِهِ، وَلَيْسَ بَعْدَ دَرَجَةِ الصِّدِّيقِيَّةِ إِلَّا الشَّهَادَةُ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ أَنْ يتَّخِذَ مِنْ عِبَادِهِ شُهَدَاءَ، تُرَاقُ دِمَاؤُهُمْ في مَحَبَّتِهِ وَمَرْضَاتِهِ، وَيُؤْثرُونَ رِضَاهُ وَمَحَابّه عَلَى نُفُوسِهِمْ، وَلَا سَبِيلَ إلى نَيْلِ هَذِهِ الدَّرَجَةِ إِلَّا بِتَقْدِيرِ الأَسْبَابِ المُفْضِيَةِ إِلَيْهَا مِنْ تَسْلِيطِ العَدُوِّ.
10 -
وَمِنْهَا أَنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ أَعْدَاءَهُ ويَمْحَقَهُمْ، قَيَّضَ لَهُمُ الأَسْبَابَ التِي يَسْتَوْجِبُونَ بِهَا هَلَاكَهُمْ وَمَحْقَهُمْ، وَمِنْ أَعْظَمِهَا بَعْدَ كُفْرِهِمْ
(1) الأدواء: الأمراض. انظر لسان العرب (4/ 454).
بَغْيُهُمْ، وَطُغْيَانُهُمْ، ومُبَالَغَتُهُمْ في أَذَى أَوْليَائِهِ، وَمُحَارَبَتِهِمْ، وَقِتَالِهِمْ، والتَّسَلُّطِ عَلَيْهِمْ، فَيَتَمَحَّصُ بِذَلِكَ أَوْليَاؤُهُ مِنْ ذُنُوبِهِمْ وَعُيُوبِهِمْ، ويَزْدَادُ بِذَلِكَ أَعْدَاؤُهُ مِنْ أَسْبَابِ مَحْقِهِمْ وَهَلَاكِهِمْ. وَقَدْ ذَكَرَ سبحانه وتعالى ذَلِكَ في قَوْلِهِ:{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} (1).
فَجَمَعَ لَهُمْ في هَذَا الخِطَابِ بَيْنَ تَشْجِيعِهِمْ وَتَقْوِيَةِ نُفُوسِهِمْ، وَإِحْيَاءِ عَزَائِمِهِمْ وَهِمَمِهِمْ، وبَيْنَ حُسْنِ التَّسْلِيَةِ.
11 -
وَمِنْهَا أَنَّ وَقْعَةَ أُحُدٍ كَانَتْ مُقَدِّمَةً وَإِرْهَاصًا بَيْنَ يَدَيْ مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَثَبَّتَهُمْ، وَوَبَّخَهُمْ عَلَى انْقِلَابِهِمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ أَنْ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ قُتِلَ، بَلِ الوَاجِبُ لَهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَثْبُتُوا عَلَى دينِهِ وتَوْحِيدِهِ، ويَمُوتُوا عَلَيْهِ، أَوْ يُقْتَلُوا، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يَعْبُدُونَ رَبَّ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، فَلَوْ مَاتَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم أَوْ قُتِلَ، لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَصْرِفَهُمْ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَمَا جَاءَ بِهِ، فكُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ، وَمَا بُعِثَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم لِيُخَلَّدَ لَا هُوَ وَلَا هُمْ، بَلْ لِيَمُوتُوا عَلَى الإِسْلَامِ وَالتَّوْحِيدِ، فَإِنَّ المَوْتَ لابُدَّ مِنْهُ، سَوَاءً مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ بَقِيَ (2).
(1) سورة آل عمران آية (139).
(2)
انظر كلام ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في زاد المعاد (3/ 196 - 201).