الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ظُهُورُ النِّفَاقِ وَالمُنَافِقِينَ فِي المَدِينَةِ
لَمْ يَكُنْ فِي مَكَّةَ نِفَاقٌ؛ لِأَنَّ المُسْلِمِينَ كَانُوا ضِعَافًا، وَكَانَ كُلُّ مَنْ يَدْخُلُ فِي الإِسْلَامِ يَتَعَرَّضُ لِلْخَطَرِ وَالضَّرَرِ، فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ إِلَّا مَنْ صَدَقَ عَزْمُهُ، وَقَوِيَ إِيمَانُهُ، وَجَازَفَ بِحَيَاتِهِ وَمُسْتَقْبَلِهِ، فَلَمَّا انْتَقَلَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم إِلَى المَدِينَةِ، وَاسْتَقَرَّ بِهَا هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَبَعْدَ الهَزِيمَةِ السَّاحِقَةِ التِي تَعَرَّضَ لَهَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى، بَدَأَتْ ظَاهِرَةُ النِّفَاقِ تَظْهَرُ، فَدَخَلُوا فِي الإِسْلَامِ ظَاهِرًا، وَأَبْطَنُوا الكُفْرَ وَالحِقْدَ وَالكَيْدَ فِي قُلُوبِهِمْ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَكَانَ زَعِيمُ المُنَافِقِينَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ أُبي بنِ سَلُولٍ، الذِي كَانَ قَوْمُهُ قَدْ نَظَمُوا لَهُ الخَرَزَ لَيُتَوِّجُوهُ مَلِكًا عَلَيْهِمْ قَبْلَ مَقْدَمِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم المَدِينَةَ -كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ- (1).
أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما قَالَ: . . . فَلَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَدْرًا، فَقَتَلَ اللَّهُ بِهِ صَنَادِيدِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، قَالَ ابنُ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ المُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ: هَذَا أَمْرٌ قَدْ تَوَجَّهَ (2)،
(1) انظر كلام الشيخ أبي الحسن النَّدْوي في هذا الموضوع في كتابه السِّيرة النَّبوِيَّة - ص 200.
(2)
قال الحافظ في الفتح (9/ 102): توَجَّه: أي ظَهَرَ وَجْهُهُ.
فَبَايِعُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْإِسْلَامِ، فَأَسْلِمُوا (1).
أَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ المُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ العَائِرَةِ (4) بَيْنَ الغَنَمَيْنِ، تَعِيرُ إِلَى هَذِهِ مَرَّةً، وَإِلَى هَذِهِ مَرَّةً"(5).
(1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} - رقم الحديث (4566).
(2)
قال الحافظ ابن كثير تفسيره (2/ 437): ولا شك أن اللَّه تَعَالَى لا يُخادَع، فإنَّه العالم بالسرائر والضمائر، ولكن المُنَافقين لجهلِهِم وقِلَّة علمهم وعقلهم، يعتقِدُون أن أمرهم كما رَاجَ عندَ الناس وجَرَت عليهم أحكام الشريعة ظاهرًا، فكذلك يكونُ حُكمهم يوم القيامة عند اللَّه، وأن أمرهم يَرُوج عنده، كما أخبر عنهم تَعَالَى أنهم يوم القيامة يَحْلِفُون له: أنهم كانوا على الاستقامة والسَّدَادِ، ويعتقدون أن ذلك نَافِعٌ لهم عنده، فقال تَعَالَى في سورة المجادلة آية (18):{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} .
(3)
سورة النساء آية (142 - 143).
(4)
قال الإمام النووي في شرح مسلم (17/ 107): العَائِرَةُ: هي المُتَرَدِّدَةُ الحائِرَة لا تدرِي لأيهما تَتْبَعُ.
(5)
أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - رقم الحديث (2784).
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الحَسَنِ النَّدْوِيِّ: وَعَادَى الإِسْلَامُ كُلَّ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ، وَفِي السِّيَادَةِ طَمَعٌ، وَضَاقَ ذَرْعًا بِهَذَا الدِّينِ الزَّاحِفِ، الذِي هَدَمَ كُلَّ مَا بَنَاهُ، وَنَقَضَ كُلَّ مَا أَبْرَمَهُ، وَجَعَلَ لِلْمَدِينَةِ شَأْنًا غَيْرَ الشَّأْنِ، وَمِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ أُمَّةً وَاحِدَةً، أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَبَذَلَتْ نُفُوسَهَا دُونَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدَّمَتْ مَحَبَّتَهُ عَلَى مَحَبَّةِ الآبَاءِ وَالأَبْنَاءِ وَالأَزْوَاجِ، فَامْتَلَأَتْ قُلُوبُ هَؤُلَاءِ المُنَافِقِينَ غَيْظًا وَحَسَدًا، فَصَارُوا يَكِيدُونَ لِلْإِسْلَامِ، وَيَتَرَبَّصُونَ بِهِ الدَّوَائِرَ، وَيُقَلِّبُونَ لَهُ الأُمُورَ، وَتَكَوَّنَتْ فِي المَدِينَةِ جَبْهَةٌ مُعَادِيَةٌ، مُتَسَرِّبَةٌ فِي المُجْتَمَعِ الإِسْلَامِيِّ، وَكَانَ عَلَى المُسْلِمِينَ أَنْ يَكُونُوا مِنْهَا عَلَى حَذَرٍ دَائِمًا، فَقَدْ تَكُونُ أَشَدَّ خَطَرًا عَلَى الإِسْلَامِ وَالمُسْلِمِينَ مِنَ الأَعْدَاءِ المُجَاهِرِينَ، وَمِنْ هُنَا زَخَرَ (1) القُرْآنُ بِذِكْرِهِمْ، وَإِزَاحَةِ السِّتَارِ عَنْهُمْ، وَكَانَ لَهُمْ مَعَ الإِسْلَامِ، وَلِلْإِسْلَامِ مَعَهُمْ شَأْنٌ (2).
* * *
(1) زَخَرَ: امتَلَأ. انظر لسان العرب (6/ 30).
(2)
انظر كتاب السِّيرة النَّبوِيَّة لأبي الحسن النَّدْوي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ص 201.