الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عِدَاءُ اليَهُودِ
لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم المَدِينَةَ كَانَ فِيهَا يَهُود، وَكَانُوا ثَلَاثَ قبائِلَ مَشْهُورَةً: بَنُو قَيْنقاعَ، وَكَانُوا حُلفاءَ الخَزْرَجِ، وَكَانَتْ دِيَارُهُمْ دَاخِلَ المَدِينَةِ، وبَنُو النَّضِيرِ، وبَنُو قُرَيْظَةَ، وَكَانُوا حُلفاءَ الأَوْسِ، وَكَانَتْ دِيَارُهُمْ في عَوَالِي المَدِينَةِ.
وَكَانَتْ هَذِهِ القَبَائِلُ اليَهُودِيَّةُ هِيَ التِي كَانَتْ تُثِيرُ الحُرُوبَ بَيْنَ الأَوْسِ والخَزْرَجِ، وَقَدْ كَانَ اليَهُودُ يَسْتَفْتِحُونَ (1) عَلَى الأَوْسِ وَالخَزْرَجِ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ مَبْعَثِهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ في بَدْءِ إسْلَامِ الأَنْصَارِ- فَلَمَّا بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ العَرَبِ كَفَرُوا بِهِ، وَجَحَدُوا مَا كَانُوا يَقُولُونَ فِيهِ.
أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ سَلَمَةَ بنِ سَلَامَةَ بنِ وَقْشٍ رضي الله عنه وَكَانَ مِنْ أصْحَابِ بَدْرٍ- قَالَ: كَانَ لَنَا جَارٌ مِنْ يَهُودٍ في بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، قَالَ: فَخَرَجَ عَلَيْنَا يَوْمًا مِنْ بَيتهِ قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِيَسِيرٍ، فَوَقَفَ عَلَى مَجْلِسِ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، قَالَ سَلَمَةُ: وأَنا يَوْمَئِذِ أحْدَثُ (2) مَنْ فِيهِ سِنًّا، عَلَيَّ بُرْدَةٌ (3)
(1) يَسْتَفْتِحُونَ: أي يَسْتَنْصِرُون. انظر النهاية (3/ 365).
(2)
حَدَاثَةُ السِّنِّ: كنايةٌ عن الشَّبَابِ وأوَّل العمر. انظر النهاية (1/ 338).
(3)
البُرْدَةُ: نوعٌ من الثِّيَاب معروف. انظر النهاية (1/ 116).
مُضْطَجِعًا فِيهَا بِفِنَاءِ (1) أهْلِي، فَذَكَرَ البَعْثَ والقِيَامَةَ وَالحِسَابَ وَالمِيزَانَ والجَنَّةَ والنَّارَ، فَقَالَ ذَلِكَ لِقَوْمٍ أَهْلِ شِرْكٍ، أصْحَابَ أوْثَانٍ لَا يَرَوْنَ أَنَّ بَعْثًا كَائِنٌ بَعْدَ المَوْتِ، فَقَالُوا له: وَيْحَكَ يَا فُلانُ، تَرَى هَذَا كَائِنًا أَنَّ النَّاسَ يبعَثُونَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ إلى دَارٍ فِيهَا جَنَّةٌ وَنَارٌ، يُجْزَوْنَ فِيهَا بِأَعْمَالِهِمْ؟
قَالَ: نَعَمْ وَالذِي يُحْلَفُ بِهِ لَوَدَّ أَنَّ لَهُ بِحَظِّهِ مِنْ تِلْكَ النَّارِ أعْظَمُ تَنُّورٍ في الدُّنْيَا يُحَمُّونَهُ، ثُمَّ يدْخِلُونَهُ إيَّاهُ فيطْبَقُ بِهِ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَنْجُو مِنْ تِلْكَ النَّارِ غَدًا.
قَالُوا له: وَيْحَكَ وَمَا آيَةُ ذَلِكَ؟
قَالَ: نَبِيٌّ ويُبْعَثُ مِنْ نَحْوِ هَذِهِ البِلَادِ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ نَحْوَ مَكَّةَ وَاليَمَنِ.
قَالُوا: وَمَتَى تَرَاهُ؟
قَالَ: فنَظَرَ إِلَيَّ وَأَنَا مِنْ أحْدَثِهِمْ سِنًّا، فَقَالَ: إِنْ يَسْتَنْفِدْ (2) هَذَا الغُلَامُ عُمُرَهُ يُدْرِكْهُ.
قَالَ سَلَمَةُ: فَوَاللَّهِ مَا ذَهَبَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ حَيٌّ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، فَآمَنَّا بِهِ، وَكَفَرَ بِهِ بَغْيًا وَحَسَدًا.
فَقُلْنَا: وَيْلَكَ يَا فُلَانُ! أَلسْتَ بِالذِي قُلْتَ لَنَا فِيهِ مَا قُلْتَ؟
قَالَ: بَلَى وَلَيْسَ بِهِ (3).
(1) الفِنَاء: هو المُتَّسَعُ أمامَ الدار. انظر النهاية (3/ 428).
(2)
نَفِدَ الشيء: فَنِي وذهب. انظر لسان العرب (14/ 228).
(3)
أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15841).
قَالَ ابنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ فِيمَا بَلَغَنِي عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاس رضي الله عنهما أَنَّ مُعَاذَ بنَ جَبَل، وبِشْرَ بنَ البَرَاءِ بنَ مَعْرُورٍ رضي الله عنهما قَالَا لِيَهُودٍ: يَا مَعْشَرَ يَهُودٍ، اتَّقُوا اللَّه وَأَسْلِمُوا، فَقَدْ كُنتمْ تَسْتَفْتِحُونَ عَلَيْنَا بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ونَحْنُ أَهْلَ شِرْكٍ، وتُخْبِرُونَنَا أَنَّهُ مَبْعُوثٌ، وَتَصِفُونَهُ لَنَا بِصِفَتِهِ.
فَقَالَ سَلامُ بنُ مِشْكَمٍ، أحَدُ بَنِي النَّضِيرِ: مَا جَاءَنَا بِشَيْءٍ نَعْرِفه، وَمَا هُوَ بِالذِي كُنَّا نَذْكُرُهُ لَكُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى في ذَلِكَ مِنْ قَوْلهِمْ:{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (1).
وَقَالَ رافِعُ بنُ حُريْمِلَةَ، وَوَهْبُ بنُ يَهُوذَا: مَا قُلْنَا لَكُمْ هَذَا قَطُّ، ومَا أنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ بَعْدَ مُوسَى، وَلَا أرْسَلَ بَشِيرًا وَلَا نَذِيرًا بَعْدَهُ، فَاَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى في ذَلِكَ مِنْ قَوْلهِمَا: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ (2) مِنَ
(1) سورة البقرة آية (89) - والخبر في سيرة ابن هشام (2/ 160).
(2)
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (3/ 70): يقول اللَّه تَعَالَى مُخاطبًا أهل الكتاب من اليهود والنصارى: إنه قد أَرْسل إليهم رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، الذي لا نَبِيَّ بعده ولا رسول، بل هو المُعَقِّبُ لجميعهم؛ ولهذا قال سبحانه:{عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} أي بعدَ مُدَّة مُتَطَاوِلَةٍ ما بين إرساله صلى الله عليه وسلم وعيسى ابن مريم عليه السلام.
وقد اختَلَفوا في مِقْدَارِ هذه الفترَةِ، كم هي؟
والصحيحُ أنها كانت سِتُّمِائة سنة، كما روى ذلك البخاري في صحيحه - رقم الحديث (3948) عن سَلْمان الفارسي رضي الله عنه، . . . والمقصودُ أن اللَّه تَعَالَى بعثَ محمدًا صلى الله عليه وسلم على فَتْرَةٍ من الرسل، وطُمُوسٍ من السُبُل، وتَغَيُّرِ الأديَانِ، وكثرةِ عِبادة الأوثَانِ والنيرانِ والصُّلْبَانِ، فكانت النعمة به أتمّ النعم، والحاجة إليه أمر عمم.
الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1).
قَالَ ابنُ إسْحَاقَ: قَالَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ بنِ أخْطَبَ رضي الله عنها: كُنْتُ أَحَبَّ وَلَدِ أَبِي إِلَيْهِ، وَإِلَى عَمِّي أَبِي يَاسِرٍ، لَمْ ألقهُمَا قَطُّ مَعَ وَلَدٍ لَهُمَا إِلَّا أخَذَانِي دُونَهُ.
قَالَتْ: فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم المَدِينَةَ، ونَزَلَ قبَاءَ، في بَنِي عَمْرِو بنِ عَوْفٍ، غَدَا (2) عَلَيْهِ أَبِي، حُيَيُّ بنُ أخْطَبٍ (3)، وعَمِّي أَبُو يَاسِرِ بن أَخْطَبٍ (4)، مُغَلِّسَيْنِ (5).
قَالَتْ: فَلَمْ يَرْجِعَا حَتَّى كَانَا مَعَ غُرُوبِ الشَّمْسِ. قَالَتْ: فَأَتَيَا كَالَّيْنِ (6) كَسْلَانَيْنِ سَاقِطَيْنِ يَمْشِيَانِ الهُوَيْنَى (7). قَالَتْ: فَهَشَشْتُ (8) إلَيْهِمَا كَمَا كُنْتُ
(1) سورة المائدة آية (19) - والخبر في سيرة ابن هشام (2/ 176).
(2)
الغَدْوَةُ: بفتح الغين هو سَيْرُ أوَّل النهار. انظر النهاية (3/ 311).
(3)
قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 226): أما حُيَيُّ بن أخطَب، فشرِبَ عَدَاوَةَ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولم يَزَل كذلك دَأْبُهُ لعنه اللَّه حتى قُتِل صَبْرًا بين يدي رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يوم قتَلَ مُقَاتِلَةَ بني قُرَيْظَةَ.
(4)
قال الحافظ في الفتح (7/ 695) بعد أن سَرَدَ عَدَدًا من رُؤَساء اليهود، ومن بينهم أبو ياسِر بن أخْطَب قال: فهؤلاء لم يَثْبُتْ إسلامُ أحَدٍ منهم.
(5)
الغَلَسُ: ظُلْمَةُ آخرِ الليل إذ"ختَلَطَتْ بضوءِ الصباح. انظر النهاية (3/ 339).
(6)
الكَلُّ: بفتح الكاف هو الثقلُ من كل ما يُتُكَلف. انظر النهاية (4/ 172).
(7)
يَمْشِي الهُوَيْنَا: تَصْغِيرُ الهُونَى، والهُونُ: الرِّفق واللينُ. انظر النهاية (5/ 245).
(8)
يقال: هَشَّ لهذا الأمرِ يَهُشّ هَشَاشَة: إذا فَرحَ به، واستَبْشَرَ وارتاحَ له. انظر النهاية (5/ 228).