الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْأَسْقَامِ، وَيَحْلِفُونَ لَهُ، فَعَذَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَأَرْجَأَ (1) أَمْرَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ، وَهُمَا هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَمُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ رضي الله عنهم، حَتَّى تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ (2).
*
أَمْرُ أَبِي لُبَابَةَ وَأَصْحَابِهِ رضي الله عنهم:
رَوَى الْإِمَامُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي جَامِعِ الْبَيَانِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ بِسَنَدٍ حَسَن عَنِ ابْنِ عَبَّاس رضي الله عنهما فِي قَؤلِهِ تَعَالَى:{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا} (3)، قال رضي الله عنه: كَانُوا عَشَرَةَ رَهْطٍ تَخَلفوا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوةِ تَبُوكَ، فَلَمَّا حَضَرَ رُجُوعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْثَقَ سَبْعَةٌ مِنْهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِسَوَارِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَ مَمَرُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذَا رَجَعَ مِنَ الْمَسْجِدِ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا رَآهُمْ، قَالَ:"مَنْ هَؤُلَاءِ الْمُوثقُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالسَّوَارِي؟ ".
قَالُوا: هَذَا أَبُو لُبَابَةَ، وَأَصْحَابٌ له تَخَلَّفُوا عَنْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَحَلَفُوا لَا يُطْلِقُهُمْ أَحَدٌ حَتَّى تُطْلِقَهُمْ، وَتَعْذُرَهُمْ، فَفَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَأَنَا أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَا
(1) أَرْجَأَ: أَخَّرَ. انظر لسان العرب (5/ 138).
(2)
انظر سيرة ابن هشام (4/ 185) - دلائل النبوة (5/ 280) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 333).
(3)
سورة التوبة آية (102).
قال الإمام الطبري في تفسيره (6/ 462): وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك، قول من قال: نزلت هذه الآية في المعترفين بخطأ فعلهم في تخلفهم عن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وتركهم الجهاد معه، والخروج لغزو الروم، حين شَخَص -أي ذهب- إلى تبوك، وأن الذين نزل ذلك فيهم جماعة، أحدهم: أبو لبابة رضي الله عنه.
أُطْلِقُهُمْ، وَلَا أَعْذُرُهُمْ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الذِي يُطْلِقُهُمْ، رَغِبُوا عَنِّي (1)، وَتَخَلَّفُوا عَنِ الغَزْوِ مَعَ المُسْلِمِينَ".
فَلَمَّا بَلَغَهُمْ ذَلِكَ، قَالُوا: وَنَحْنُ بِاللَّهِ لَا نُطْلِقُ أَنْفُسَنَا حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الذِي يُطْلِقُنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2).
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: وَعَسَى مِنَ اللَّهِ وَاجِبٌ، أَنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، فَلَمَّا نَزَلَتْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَطْلَقَهُمْ، وَعَذَرَهُمْ، فَجَاؤُوا بِأَمْوَالهِمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذِهِ أَمْوَالُنَا فتَصَدَّقْ بِهَا عَنَّا وَاسْتَغْفِرْ لَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"مَا أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ أَمْوَالَكُمْ"، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ (3) إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ (4) لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (5).
فَأَخَذَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّدَقَةَ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ (6).
(1) رَغِبَ عن الشيء: تركه متعمدًا، وزهد فيه. انظر لسان العرب (5/ 255).
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه - رقم الحديث (5063) - ومسلم في صحيحه - رقم الحديث (1401): ". . . فمن رغب عن سنَّتي فليس مني".
(2)
قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في تفسيره (4/ 206): وهذه الآية وإن كانت نزلت في أناس معينين، إِلا أنها عامة في كل المذنبين الخاطئين المخلصين المتلوثين.
(3)
قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في تفسيره (4/ 207): أي أدع لهم واستغفر لهم.
(4)
قال ابن عباس: أي رحمة لهم. انظر تفسير ابن كثير (4/ 207).
(5)
سورة التوبة آية (103).
(6)
أخرجه الطبري في جامع البيان (6/ 460) - والبيهقي في دلائل النبوة (5/ 272) - وأخرجه أيضًا الإمام مالك في الموطأ - كتاب النذور والأيمان - باب جامع الأيمان - رقم الحديث (16) - وأبو داود في سننه - رقم الحديث (3319).
قِصَّةُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ (1) رضي الله عنهم
رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في غَزْوَةٍ غَزَاهَا إِلَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، غَيْرَ أنِّي كُنْتُ تَخَلَّفْتُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَلَمْ يُعَاتِبْ أَحَدًا تَخَلَّفَ عَنْهَا، إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ عِيرَ (2) قُرَيْشٍ، حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ، وَلقدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ليْلَةَ الْعَقَبَةِ (3) حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ، وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ أَذْكَرَ فِي النَّاسِ مِنْهَا، وَكَانَ مِنْ خَبَرِي أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ (4)، وَاللَّهِ مَا اجْتَمَعَتْ عِنْدِي قَبْلَهُ رَاحِلَتَانِ قَطُّ حَتَّى جَمَعْتُهُمَا فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ، وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ غَزْوَةً إِلَّا وَرَّى بِغَيْرِهَا حَتَّى كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ، غَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، وَاستَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا (5)، وَعَدُوًّا كَثِيرًا،
(1) صاحباه هما: مرارة بن الرَّبيع، وهلال بن أميَّة الواقفي رضي الله عنهما.
(2)
الْعِيرُ: بكسر العين، هي الإبل بأحمالها. انظر النهاية (3/ 297).
(3)
المقصود بليلة العقبة: هي بيعة العقبة الثانية التي بايع فيها الأنصار رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرنا تفاصيل هذه البيعة فيما مضى، فراجعه.
(4)
أي غزوة تبوك.
(5)
الْمَفَازَةُ: الْبَرِّيَّةُ الْقَفْرُ، سميت بذلك، لأنها مُهلكة. انظر النهاية (3/ 430).
فَجَلَّى (1) لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ، فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الذِي يُرِيدُ، وَالْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَثِيرٌ، وَلَا يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ -يُرِيدُ الدِّيوَانَ-.
قَالَ كَعْبٌ: فَمَا رَجُل يُرِبدُ أَنْ يَتَغَيَّبَ إِلَّا ظَنَّ أَنْ سَيَخْفَى لَهُ مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ، وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تِلْكَ الْغَزْوَةَ حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ وَالظِّلَالُ، وَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، فَطَفِقْتُ أَغْدُو لِكَيْ أَتجَهَّزَ مَعَهُمْ، فَأَرْجعُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: أنا قَادِرٌ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ يتمَادَى بِي حَتَّى اشْتَدَّ بِالنَّاسِ الْجِدُّ (2)، فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَادِيًا وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جَهَازِي شَيْئًا، فَقُلْتُ: أَتَجَهَّزُ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ، فَغَدَوْتُ بَعْدَ أَنْ فَصَلُوا (3) لِاتَجَهَّزَ، فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، فَلَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ (4) الْغَزْوُ، وَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكُهُمْ، وَلَيْتَنِي فَعَلْتُ! فَلَمْ يُقَدَّرْ لِي ذَلِكَ، فكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَطُفْتُ فِيهِمْ أَحْزَنَنِي أَنِّي لَا أَرَى إِلَّا رَجُلًا مَغْمُوصًا (5) عَلَيْهِ النِّفَاقِ، أَوْ رَجُلًا
(1) جَلَّى: أي كَشَفَ وأَوْضَحَ. انظر النهاية (1/ 280).
(2)
الْجِدُّ: بكسر الجيم ضد الْهَزْلِ، والْجِّد: الاجْتِهَادُ في الأمور. انظر النهاية (1/ 237) - لسان العرب (2/ 203).
ومنه قول ابن عمر رضي الله عنهما الذي رواه البخاري في صحيحه - رقم الحديث (1805): إنِّي رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا جَدَّ به السير أخَّر المغرب، وجمع بينهما.
أي جمع بين المغرب والعشاء.
(3)
فَصَلَ: خرج. انظر لسان العرب (10/ 273).
(4)
تَفَارَطَ الْغَزْوِ: أي فَاتَ وَقْتُهُ وتَقَدَّمَ. انظر النهاية (3/ 389).
(5)
مَغْمُوصٌ: أي مَطْعُونٌ في دينه متهم بالنفاق. انظر النهاية (3/ 347).
مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الضُّعَفَاءَ، وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ، فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي القوْمِ بِتبوكَ:"مَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ؟ ".
فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ (1): يَا رَسُولَ اللَّهِ! حبَسَهٌ برْدَاهُ (2)، وَنَظَرُهُ فِي عِطْفَيْهِ (3).
فَقَالَ له مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رضي الله عنه: بِئْسَ مَا قُلْتَ، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ كَعْبٌ: فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ تَوَجَّهَ قَافِلًا (4) مِنْ تَبُوكَ، حَضَرَنِي هَمِّي (5)، فَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ، وَأَقُولُ: بِمَ أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَدًا؟ ، وَاسْتَعَنْتُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي رَأْي مِنْ أَهْلِي، فَلَمَّا قِيلَ لِي: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَظَلَّ قَادِمًا زَاحَ عَنِّي الْبَاطِلُ، وَعَرَفْتُ أَنِّي لَنْ أَخْرُجَ مِنْهُ أَبَدًا بِشَيْءٍ فِيهِ كَذِبٌ، فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ، وَصَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَادِمًا، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ، فَيَرْكَعُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمُخَلَّفونَ، فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ له، وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانينَ رَجُلًا، فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ
(1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (2/ 356): سَلِمة: بكسر اللام، وهم بطن كبير من الأنصار.
(2)
البُرْدَةُ: نوع من الثياب معروف. انظر النهاية (1/ 116).
(3)
الْمِعْطَفُ: الرِّدَاءُ. انظر النهاية (3/ 233).
قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 459): كَنَّى بذلك عن حسنه وبهجته، والعرب تصف الرداء بصفة الحسن.
(4)
قَفَلَ: رَجَعَ. انظر النهاية (4/ 81).
(5)
في رواية مسلم في صحيحه: بشيء. والْبَثُّ: أَشَدُّ الْحُزْنِ. انظر النهاية (1/ 96).
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَانِيَتَهُمْ وَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَجِئْتُهُ، فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ، ثُمَّ قَالَ:"تَعَالَ" فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لِي:"مَا خَلَّفكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ (1) ظَهْرَكَ (2)؟ " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنِّي سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ، وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا (3)، وَلَكِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ، وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ (4) عَلَيَّ فِيهِ، إِنِّي لَأَرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللَّهِ، وَلَا وَاللَّهِ مَا كَانَ لِي مِنْ عُذْرٍ، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ (5)، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ".
قَالَ كَعْبٌ رضي الله عنه: فَقُمْتُ وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ فَاتَّبعُونِي، فَقَالُوا لِي: وَاللَّهِ ما عَلِمْنَاكَ كُنْتَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هَذَا، وَلقدْ عَجَزْتَ أَنْ لَا تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا اعْتَذَرَ بِهِ الْمُخَلَّفُونَ، فَقَدْ كَانَ كَافِيكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَكَ.
(1) ابتاع الشيء: اشتراه. انظر لسان العرب (1/ 557).
(2)
الظهر: الإبل التي يُحمل عليها وتُركب. انظر النهاية (3/ 151).
(3)
قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 406): أي فَصَاحَةٌ وقُوَّة كلام بحيث أخرج عن عهدة ما يُنسب إليّ إذا أردت.
(4)
قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 406): تَجِدُ بكسر الجيم أي تَغْضَبُ.
(5)
قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 467): فيه إشعار بأن من سواه كذب.
قَالَ كَعْبٌ رضي الله عنه: فَوَاللَّهِ مَا زَالُوا يُؤَنِّبونَنِي حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأكُذِّبَ نَفْسِي، ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ: هَلْ لَقِيَ هَذَا مَعِي أَحَدٌ؟ ، قَالُوا: نَعَمْ، لَقِيَهُ مَعَكَ رَجُلَانِ، قَالَا مِثْلَ مَا قُلْتَ، فَقِيلَ لَهُمَا مِثْلُ مَا قِيلَ لَكَ.
قَالَ: قُلْتُ مَنْ هُمَا؟ ، قَالُوا: مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ الْعَامِرِيُّ، وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ. قَالَ: فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ قَدْ شَهِدَا بَدْرًا (1)، فِيهِمَا أُسْوَةٌ، فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي.
قَالَ كَعْبٌ رضي الله عنه: وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم المُسْلِمِينَ عَنْ كَلَامِنَا أَيها الثَّلَاثَة مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْه (2)، فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ، وَتَغَيّروا لَنَا، حَتَّى تَنَكَّرَتْ فِي نَفْسِي الْأَرْضُ، فَمَا هِيَ بِالْأَرْضِ التِي أَعْرِفُ، فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا (3)
(1) قال ابن القيم في زاد المعاد (3/ 505): وهذا الموضع مما عُدّ من أوهام الزهري، فإنَّه لا يُحفظ عن أحد من أهل المغازي والسير البتة ذِكرُ هذين الرجلين في أهل بدر، لا ابن إسحاق، ولا موسى بن عقبة، ولا الأموي، ولا الواقدي، ولا أحد ممن عَدّ أهل بدر، وكذلك ينبغي ألا يكونا من أهل بدر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يهجر حاطبًا رضي الله عنه، ولا عاقبه وقد جس عليه، وقال لعمر رضي الله عنه لما هَمّ بقتله:"وما يدريك لعل اللَّه اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"، وأين ذنب التخلف من ذنب الجس.
قلت: ممن ذهب إلى هذا الرأي: الحافظ ابن كثير في تفسيره (4/ 233).
(2)
قال ابن القيم في زاد المعاد (3/ 506): وفي نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن كلام هؤلاء الثلاثة من بين سائر من تخلف عنه دليل على صدقهم، وكذب الباقين، فأراد هجر الصادقين وتأديبهم على هذا الذنب، وأما المنافقون فجرمهم أعظم من أن يُقابل بالهجر.
(3)
اسْتَكَانَ: أي خَضَعَ. انظر النهاية (2/ 347).
وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا يَبكِيَانِ، وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَبَّ القوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ (1)، فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلَاةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَطُوفُ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ، وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فأُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلَامِ عَلَيَّ أَمْ لَا؟ ، ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهُ، وَأُسَارِقُهُ (2) النَّظَرَ، فَإِذَا أَقْبَلْتُ علَى صَلَاتِي نَظَرَ إِلَيَّ، وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي، حَتَّى إِذَا طَالَ ذَلِكَ عَلَيَّ مِنْ جَفْوَةِ الْمُسْلِمِينَ، مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ (3) أَبِي قَتَادَةَ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّي، وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَوَاللَّهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا قَتَادَةَ، أُنْشِدُكَ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُنِي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم؟ فَسَكَتَ، فَعُدْتُ فنَاشَدْتُهُ فَسَكَتَ، فَعُدْتُ فنَاشَدْتُهُ، فَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
قَالَ كَعْبٌ رضي الله عنه: فَفَاضَتْ عَيْنَايَ، وَتَوَلَّيْتُ، حَتَّى تَسَوَّرْتُ الْجِدَارَ، فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي فِي سُوقِ الْمَدِينَةِ، إِذَا نَبَطِيٌّ (4) مِنْ أَنْبَاطِ أَهْلِ الشَّامِ، مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ، يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ؟
فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ إِلَيَّ، حَتَّى إِذَا جَاءَنِي دَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسَّانٍ، فَإِذَا فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ، وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ
(1) جَلْدًا: أي قَوِيًّا في نفسه وجسمه. انظر النهاية (1/ 275).
(2)
قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 461): أُسَارِقُهُ: أي أَنْظُرُ إليه في خُفْيَةٍ.
(3)
الْحَائِطُ: الْبُسْتَانُ. انظر النهاية (1/ 444).
(4)
قال الإمام النووي في شرح مسلم (17/ 78): الْأَنْبَاطُ هم فَلَّاحُو الْعَجَمِ.
بِدَارِ هَوَانٍ وَلَا مَضْيَعَةٍ، فَالْحَقْ بِنَا نواسِكَ.
فَقُلْتُ حِينَ قَرَأتهَا: وَهَذَا أَيْضًا مِنَ الْبَلَاءِ! فَتَيَمَّمْتُ (1) بِهَا التَّنُورَ فَسَجَرتُهَا بِهَا (2)، حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً مِنَ الْخَمْسِينَ، إِذَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ يَأْتِيني فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ (3). فَقُلْتُ: أُطَلِّقُهَا أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ؟ قَالَ: لَا، بَلِ اعْتَزِلْهَا وَلَا تَقْرَبْهَا، وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبَيَّ مِثْلَ ذَلِكَ.
فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي: الْحَقِي بِأَهْلِكِ، فكُونِي عِنْدَهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ.
قَالَ كَعْبٌ رضي الله عنه: فَجَاءَتِ امْرَأَةُ (4) هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ شَيْخٌ ضَائِعٌ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ، فَهَلْ تَكْرَهُ أَنْ أَخْدِمَهُ؟ ، قَالَ:"لَا، وَلَكِنْ لَا يَقْرَبْكِ"، فَقَالَتْ: إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا بِهِ مِنْ حَرَكَةٍ إِلَى شَيْءٍ، وَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَبكِي مُنْذُ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ إِلَى يَوْمِهِ هَذَا.
فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي: لَوِ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي امْرَأَتِكَ، فَقَدْ أَذِنَ
(1) تَيَمَّمْتُ: قَصَدْتُ. انظر النهاية (5/ 259).
(2)
سَجَرْتُهَا بِهَا: أي أَوْقَدَ النَّارَ بهذه الرسالة؛ أي أنَّه أَحْرَقَهَا. انظر لسان العرب (6/ 177). قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 462): ودَلّ صنيع كعب رضي الله عنه هذا على قوة إيمانه ومحبته للَّه ولرسوله صلى الله عليه وسلم. . . ولما احتمل عنده أنَّه لا يأمن من الافتتان حسم المادة، وأحرق الكتاب.
(3)
قال الحافظ في الفتح (8/ 463): امرأته هي: عميرة بنت جُبير بن صخر الأنصارية، أم أولاده الثلاثة: عبد اللَّه، وعبيد اللَّه، ومعبد.
(4)
قال الحافظ في الفتح (8/ 463): هي خولة بنت عاصم.
لِامْرَأَةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ أَنْ تَخْدِمَهُ؟
فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَسْتَأْذِنُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَا يُدْرِيني مَا يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اسْتَأْذَنْتُهُ فِيهَا، وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌّ؟ .
قَالَ كَعْبٌ رضي الله عنه: فَلَبِثْتُ بِذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ، فَكَمُلَ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كَلَامِنَا، فَلَمَّا صَلَّيْتُ صَلَاةَ الفجْرِ صُبْحَ (1) خَمْسِينَ لَيْلَةً، وَأنا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتنَا، فبَيْنَا أنا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِ التِي ذَكَرَ اللَّهُ عز وجل، قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي، وَضَاقَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، سَمِعْتُ صَوْتَ صَارخٍ أَوْفَى (2) عَلَى جَبَلِ سَلْعٍ (3) بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ! أَبْشِرْ.
قَالَ كَعْبٌ رضي الله عنه: فَخَرَرْتُ سَاجِدًا، وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ.
قَالَ: فَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا، حِينَ صَلَّى صَلَاةَ الفَجْرِ، فَذَهَبَ النَّاسُ يُبشِّرُونَنَا، وَذَهَبَ قبُلَ صَاحِبَيَّ مبشِّرُونَ، وَرَكَضَ إِلَيَّ رَجَل فَرَسًا، وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ قبُلِي، فَأَوْفَى عَلَى الْجَبَلَ، فَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنَ الفرَسِ، فَلَمَّا جَاءَنِي الذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يبشِّرُنِي، نَزَعْتُ له ثَوْبَيَّ فَكَسَوْتُهُ
(1) في رواية الإمام مسلم في صحيحه: صباح.
(2)
أَوْفَى: أَشْرَفَ واطَّلَعَ. انظر النهاية (5/ 184).
(3)
قال الإمام النووي في شرح مسلم (17/ 79): سَلْع: بفتح السِّين وسكون اللام: جبل معروف بالمدينة.
إِيَّاهُمَا بِبُشْرَاهُ، وَاللَّهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ، وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا، وَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنِّئوني بِالتَّوْبَةِ، يَقُولُونَ: لِتَهْنِئْكَ تَوْبَةَ اللَّهِ عَلَيْكِ، قَالَ حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَحَوْلهُ النَّاسُ، فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ رضي الله عنه يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي، وَاللَّهِ مَا قَامَ إِلَيَّ رَجُل مِنَ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ، وَلَا أَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ.
قَالَ كَعْبٌ: فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ: "أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ"، فَقُلْتُ: أَمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"لَا، بَلْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ"، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّ وَجْهَهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ، وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ، فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى رَسُولهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ"، قُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الذِي بِخَيْبَرَ، وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا نَجَّانِي بِالصِّدْقِ، وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ لَا أُحْدِّثَ إِلَّا صِدْقًا مَا بَقِيتُ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَبْلَاهُ (1) اللَّهُ تَعَالَى فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ مِمَّا أَبْلَانِي اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، وَاللَّهِ مَا تَعَمَّدْتُ كَذْبَةً مُنْذُ قُلْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى يَوْمِي هَذَا، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا بَقِيتُ.
(1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 465): أَبْلَاهُ اللَّه: أي أَنْعَمَ عليه.
وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولهِ صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (1).
قَالَ كَعْبٌ رضي الله عنه: فَوَاللَّهِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ نِعْمَةٍ قَطُّ بَعْدَ أَنْ هَدَانِي لِلْإِسْلَامِ أَعْظَمَ فِي نَفْسِي مِنْ صِدْقِي لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا أَكُونَ كَذَبْتُهُ، فَأَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ الذِينَ كَذَبُوا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِلَّذِينَ كَذَبُوا حِينَ أَنْزَلَ الْوَحْيَ شَرَّ مَا قَالَ لِأَحَدٍ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} (2).
قَالَ كَعْبٌ رضي الله عنه: وَكُنَّا تَخَلَّفْنَا أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ عَنْ أَمْرِ أُولَئِكَ الذِينَ قَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ حَلَفُوا لَهُ، فَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَأَرْجَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْرَنَا حَتَّى قَضَى اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ، فَبِذَلِكَ قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ
(1) سورة التوبة آية (117 - 119).
(2)
سورة التوبة آية (95 - 96).
خُلِّفُوا}، وَلَيْسَ الذِي ذَكَرَ اللَّهُ مِمَّا خُلِّفنَا تَخَلُّفنَا عَنِ الْغَزْوِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَخْلِيفُهُ إِيَّانَا، وَإِرْجَاؤُهُ أَمْرَنَا عَمَّنْ حَلَفَ له وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ، فَقَبِلَ مِنْهُ (1).
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ النَّدَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ تَوْبَةً كَرِيمَةً، شَرَّفَ فِيهَا قَدْرَهُمْ، وَغَسَلَ عَنْهُمْ عَارَهُمْ، وَبَيَّضَ وُجُوهَهُمْ، وَبَدَأَ اللَّهُ سبحانه وتعالى الْآيَاتِ (2) بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُهَاجِرِبنَ وَالْأَنْصَارِ الذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ، وَهَكَذَا أَلْحَقَهُمْ (3) بِأَصْحَابِهِمُ الذِينَ سَبَقُوهُمْ وَوَضَعَهُمْ فِي هَذَا الْمَكَانِ الْمُشَرِّفِ الْكَرِيمِ، وَمَا بَدَأَ سبحانه وتعالى بِذِكْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الذِي غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَلَا بِذِكْرِ الذِينَ سَاهَمُوا فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ إِلَّا لِإِعَادَةِ الثِّقةِ إِلَى نُفُوسِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَرَدِّ اعْتِبَارِهِمْ وَمَكَانَتِهِمْ فِي الْمُجْتَمَعِ، وَلإِزَالَةِ
(1) أخرج قصة توبة كعب بن مالك رضي الله عنه:
البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب حديث كعب بن مالك رضي الله عنه رقم الحديث (4418) - ومسلم في صحيحه - كتاب التوبة - باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم رقم الحديث (2769) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15789) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الزكاة - باب صدقة التطوع - رقم الحديث (3370).
(2)
(3)
أي ألحق هؤلاء الثلاثة: كعب بن مالك، وهلال بن أميَّة، ومرارة بن الرَّبيع رضي الله عنهم.