الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعادوا لنداء العقل الصائب، توصّلوا إلى وئام أهل الأديان، ووصل الاعتقادات، لأن المصدر واحد، والغاية واحدة، فالله تعالى هو مرسل الرّسل، ومنزل الكتب كلها، والغرض منها تحقيق السعادة والطمأنينة والنجاة للعالم كله، مما يقتضي اتّحاد أهل الأديان في العقائد والشرائع.
الهداية من الله تعالى وتفنيد الشّبهات الشّركية
الهداية نوعان: هداية دلالة وإرشاد وبيان، وهداية توفيق، أما هداية البيان فهي إلى النّبي، كما في قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشّورى: 42/ 52]، وأما هداية التوفيق: فهي إلى الله تعالى، لا لرسوله، وذلك كما قال الله تعالى:
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ في هذه الآيات الآتية. وأما شبهات المشركين من أهل مكة في ترك الإيمان بالقرآن والنّبي: فمصدرها المخاوف من المجاورين كما زعموا، ولكن هذا غير صحيح، لذا توعّدهم الله بالقرى المهلكة، فلم يكن إهلاك الأقوام الغابرين إلا بعد إرسال رسول لهم، وليست الدنيا دار مقام واستقرار، وإنما الآخرة هي دار القرار والخير، فلم لا يبادر العقلاء إلى الدائم، ويعبرون بالمؤقت في سلام؟! قال الله تعالى مفنّدا شبهات مشركي قريش:
[سورة القصص (28) : الآيات 56 الى 61]
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَاّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَاّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (59) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (60)
أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
«1» «2» «3»
(1) ننتزع سريعا.
(2)
يجلب إليه.
(3)
طغت وتمرّدت في حياتها.
«1» «2» [القصص: 28/ 56- 61] .
والمعنى: إنك أيها النّبي لا تستطيع هداية من شئت، ولكن هداية التوفيق بيد الله تعالى، والله أعلم بمن هو أهل الاهتداء، فما عليك أيها النّبي إلا البلاغ والدعوة إلى الله، وبيان الشريعة.
وقد أجمع أكثر المفسّرين على أن هذه الآية إنما نزلت في شأن أبي طالب عم النّبي صلى الله عليه وسلم،
فإنه دخل عليه النّبي، وطالبه بالإيمان، فأجابه:«يا محمد، لولا أني أخاف أن يعيّر بها ولدي من بعدي، لأقررت بها عينك، ثم قال أبو طالب: أنا على ملّة عبد المطّلب والأشياخ «3» ، فتفجّع رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج عنه، فمات أبو طالب على كفره، فنزلت هذه الآية: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ
إشارة إلى أبي طالب.
وقال مشركو قريش في تسويغ عدم إيمانهم برسالة النّبي صلى الله عليه وسلم واعتذارهم عنه: إن اتّبعنا ما جئت به من الهدى، وخالفنا ما عليه بقية العرب، خفنا أن يقصدونا بالأذى والمحاربة، فردّ الله تعالى عليهم بأمور ثلاثة:
الأول- تأمين الحرم وأهله: إن هذا الاعتذار كذب وباطل، لأن الله تعالى جعل قريشا في بلد آمن، وحرم آمن، ويستمر فيه الأمن حال كفرهم وإيمانهم.
أخرج ابن جرير عن ابن عباس: أن أناسا من قريش قالوا للنّبي صلى الله عليه وسلم: إن نتّبعك تخطّفنا الناس،
(1) عاصمتها.
(2)
ممن أحضروا للنار. [.....]
(3)
لكن على رأي القائلين بأن أهل الفترة ناجون يكون هؤلاء أصول النبي صلى الله عليه وسلم ناجين كغيرهم
فنزلت هذه الآية: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً.
والمعنى: إنهم لا يقدّرون هذه الأرزاق الآتية لهم من كل شيء ومكان، تفضّلا من الله ونعمة، ولكن أكثرهم جهلة لا يعلمون الحق والخير.
والثاني- ليعلم هؤلاء المعتذرون من أهل مكة عن الإيمان خوفا من زوال النّعم:
أن عدم الإيمان هو الذي يزيل النّعم، فكثيرا ما أهلك الله أهل القرى السابقة، التي كفرت وطغت وجحدت بأنعم الله، وبطروا وتكبّروا، فأصبحت مساكنهم خاوية على عروشها، لا يسكنها أحد بعدهم إلا لمدة قليلة، أثناء السفر والعبور، وأصبح الوارث لها هو الله تعالى، لأنها صارت خرابا، لا يخلفهم فيها أحد. وهذا توعّد من الله تعالى لقريش بضرب المثل بالقرى المهلكة، والمراد: فلا تغتروا أيها المكّيون بالحرم الآمن، والثمرات التي تجبى لصلاح حالكم وقوام أمركم، فإن الله تعالى مهلك الكفرة بسبب ظلمهم. وهذا دليل على عدل الله في خلقه، فلا عقاب إلا بعد بيان، ولا هلاك إلا بعد ظلم وجحود.
فلم يكن إهلاك أهل القرى من ربّهم إلا بعد إنذار، حيث يرسل لهم رسولا في عواصمهم، يبين لهم الآيات الدالّة على وجود الله وتوحيده، حتى لا يبقى لهم حجة بالجهل، ولا عذر بطمس معالم الحق، ثم لا يكون الإهلاك لقوم إلا وهم ظالمون أنفسهم بإنكار الآيات الإلهية وتكذيب الرّسل.
والرّد الثالث- هو أن الإيمان بالله لا يضيّع منافع الحياة الدنيوية، لأن التمتع بها مهيأ لجميع المخلوقات، علما بأن جميع ما في الدنيا من مال وولد وزينة ومتاع، إنما هو متاع مؤقت وزينة زائلة، لا يجدي عند الله شيئا منها، وهو لا بد زائل، وزهيد قليل إذا قيس بنعم الآخرة، فإن نعيم الآخرة باق دائم، وهو خير محض في ذاته، وأفضل من متاع الدنيا، أفلا تتفكرون أيها الناس في أن منفعة الباقي الدائم أولى بالإيثار من منفعة المؤقت الزائل؟!