الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يجده في قصتي داود وسليمان عليهما السلام من عبر وعظات، فإنهما جمعا بين الملك العظيم في الدنيا، والنبوة والرسالة، ولم يمنعهما ذلك الملك من شكر الله وعبادته وطاعته، فهل لقريش وغيرها من الزعامات أن يجدوا في هذه القصة ما يحملهم على شكر المنعم، وعبادته؟ قال الله تعالى:
[سورة ص (38) : الآيات 30 الى 40]
وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34)
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39)
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
«1» «2» [ص: 38/ 30- 40] .
وهب الله تعالى سليمان ولدا لداود عليهما السلام، وأثنى عليه بأوصاف من المدح تضمنها قوله تعالى: نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ والهبة والعطية بمعنى واحد، والمعنى: لقد أعطينا داود ابنا نبيا وهو سليمان، وهو عبد الله صالح، لأنه رجّاع إلى الله تواب، كثير الطاعة والعبادة والإنابة إلى الله عز وجل في أكثر الأوقات. وذكر الله تعالى واقعتين لسليمان من وقائع توبته.
الأولى- قصة عرض الخيل عليه. والمعنى: اذكر أيها الرسول محمد مادحا حين عرض على سليمان عليه السلام في مملكته وسلطانه بعد العصر آخر النهار الخيول (الجياد) القائمات على ثلاث قوائم وطرف حافر الرابعة «3» ، وهي آلاف تركها له
(1) أي الخيول القائمات. والجياد: السراع في العدو.
(2)
أي القيود والأغلال.
(3)
وهذه علامة الفراهة أي النشاط والحيوية مع الجمال وحسن المنظر.
أبوه، ليتعرف أحوالها، ويستعرضها، كالاستعراضات العسكرية اليوم، فقال سليمان: لقد أحببت هذه الخيل وآثرتها على غيرها حبا حصل بذكر الله وأمره، لا بهواي وشغفي، فكانت تركض حتى تغيب عني بسبب الغبار وبعد المسافة. وقوله:
إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ معناه: أحببت هذه الخيل حبّ الخير، أو آثرت محبتها «1» .
ومواراتها بالحجاب: بعدها عنه. والمراد: أن حبه للخيل لم يكن إلا امتثالا لأمر الله بربط الخيل لتكون عدة الجهاد في سبيل الله، وتقوية دينه، ونشره بين الناس.
والخير عند بعضهم: هو الذي عند الله في الآخرة بسبب ذكر ربي. والظاهر أن المراد بالخير: هو المال، لكثرة استعماله في المال عند العرب. وقال أبو حيان: الخير عند العرب تسمى الخيل.
والخلاصة أو المراد: أحببت الجياد الصافنات أو عرضها حبا مثل حب الخير، منيبا لذلك عن ذكر ربي، وليس المراد بالخير هو الخيل فقط.
ثم أعاد سليمان عليه السلام عرض الصافنات أمامه، فقال: أعيدوا هذه الخيل إلي، فلما عادت جعل يمسح بيده سيقانها وأعناقها ونواصيها، تشريفا لها وتكريما وتدليلا، ومحنة لها، وسرورا بها. وطفق: معناه دام يفعل. ولا يصح القول بأن عرضها عليه ألهاه عن صلاة العصر حتى غربت الشمس، أو أنه قطّع قوائم الخيل بالسيف، فذلك من الإسرائيليات. وإنما المراد: اختباره بمحبّة الخيل حبا شديدا، لمعرفة مدى تواضعه والبعد عن الاغترار، واشتغاله بالعرض والندم عليه.
والواقعة الثانية: إلقاؤه جسدا على كرسيه: والمعنى: تالله لقد اختبرنا سليمان عليه السلام باختبار آخر، وهو كما قال الرازي الفتنة في جسده، حيث ابتلاه الله
(1) وعلى التأويل الأول يكون (حب) منصوبا على المصدر، وعلى التأويل الثاني بتضمين الفعل معنى آثرت.
بمرض شديد في جسمه، حتى نحل جسمه، وأصبح هزيلا، ثم أناب، أي رجع إلى حال الصحة، وقال: رب اغفر لي ما صدر عني من الذنب الذي ابتليتني لأجله، وهذا من باب السمو بتصور الخطيئة، التي لا تعدو أن تكون تركا للأفضل والأولى، وامنحني ملكا عظيما لا يحصل لأحد غيري مثله، إنك أنت الكثير الهبات والعطايا، فأجب دعائي. ويكون المراد بإلقاء الجسد على كرسيه: أنه مرض مرضا كالإغماء، حتى صار على كرسيه جسدا، كان بلا روح. والمراد بقوله لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي أن يتفرد به بين البشر كرامة له.
فأجاب الله دعاءه ومنحه خمس نعم هي:
1-
لقد ذللنا الريح، تنقاد لأمره، وتجري لينة طائعة في قوة وسرعة، تحمله حيث اتجه إلى أي مكان أراده.
2-
وذللنا له أيضا الشياطين تعمل بأمره، إما في بناء المباني العظيمة، وإما في الغوص في البحار، لاستخراج الدرر واللآلئ والمرجان، وإما في أعمال أخرى.
3-
وذللنا له شياطين آخرين، وهم مردة الشياطين، حتى إنه قرنهم في القيود والسلاسل، قمعا لشرهم، وعقابا لهم. ومقرنين: موثقين.
4-
وجعلنا له حرية التصرف فيما أعطيناه من الملك العظيم والثروة، والسيطرة على الريح والشياطين، وأذنّا له أن يمنح من ثروته من يشاء، ويمنع من يشاء، بلا حساب عليه في الإعطاء أو الإمساك (المنع) أو يمنّ على من شاء من الجن فيطلقه أو يقيده كما قال قتادة.
5-
وإن له في الآخرة لقربى وكرامة عند الله تعالى، وحسن مرجع وهو الجنة، وفيض ثواب، فهو ذو حظ عظيم عند الله يوم القيامة.
إن هذه النعم العظيمة على سليمان عليه السلام تدل على عظيم فضل الله، وعلى