الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتكون وجوه الكفّار الفجّار في الآخرة كالحة كاسفة عابسة، مستيقنة أنه سيحلّ بها عذاب شديد، وداهية عظيمة.
التّفريط وعاقبته
الناس فريقان: إما عصاة أشرار، وإما طائعون أبرار، وقد أنذر الله تعالى جميع الناس قبل أن يفجأهم الموت، وتطوى صحائف الأعمال، فيبادروا إلى الإيمان بالله والعمل الصالح، وبعد الموت الذي يستوي فيه الكل، يأتي البعث حتما في وقت لا بد منه، من أجل أمرين: ألا وهما إقامة العدل المطلق بين الخلائق، بالجزاء على الأعمال، حتى لا يتساوى المطيع والعاصي، وبيان إنجاز وعد الله تعالى وممارسة قدرته، فكما أن الله تعالى قادر على بدء الخلق، فهو قادر على الإعادة والبعث، بل إن الإعادة أهون في منطق البشر. قال الله تعالى زاجرا ومنذرا من ملاقاة أهوال القيامة:
[سورة القيامة (75) : الآيات 26 الى 40]
كَلَاّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30)
فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35)
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» [القيامة: 75/ 26- 40] .
(1) لكل إنسان ترقوتان يمينا وشمالا من الحلق إلى العاتق.
(2)
الذي يتخذ الرقية علاجا.
(3)
مثل لاشتداد الحال.
(4)
يتبختر في مشيته.
(5)
أسلوب للتهديد، أي ويل لك، أو أولى لك الهلاك.
(6)
مهملا بلا عناية.
(7)
ماء قليل يصب في الرحم.
(8)
قطعة دم عالقة في جدار الرحم.
(9)
أحكم خلقها، وعدلها بتقدير محكم.
زجر الله تعالى قريشا وأمثالها بأنهم متعرّضون لموطن من مواطن الهول، وأمر من الله تعالى لا محيد لبشر عنه، وهو حالة الموت والمنازعة التي كتبها على كل حيوان.
ومضمون الزجر: لا تستطيع أيها الإنسان التكذيب بما أخبرت به، حين تجد الحقيقة عيانا أمامك، وهي مفارقة الحياة وتجرّع كأس الموت. فإذا بلغت روحك تراقيك الموازية للحلاقيم، وهي جمع ترقوة، وهي العظام التي بين ثغرة النّحر والعاتق، ولكل أحد ترقوتان، والأفراد في الكثيرين جمع، فالأمر كله كناية عن حال الحشرجة ونزاع الروح. يسّره الله تعالى علينا.
وقيل حينئذ: من الطّبيب المعالج الذي يرقي المحتضر ويشفيه، وأيقن هذا الشخص الذي بلغت روحه التراقي أنها ساعة الفراق من الدنيا والأهل، لنذكر جميعا هذه الحالة. والمعنى العام: ارتدعوا عن إيثار الدنيا على الآخرة، وتنبّهوا إذا بلغت الحلقوم أو أعالي الصدر، كناية عن الاحتضار وأهواله، والموت وشدائده.
وفي حالة الاحتضار التفّت ساق الإنسان على ساقه عند نزول الموت به، فلا يقدر على تحريكها، أي ماتت رجلاه، ويبست ساقاه ولم تحملاه، واجتمع عليه أمران:
الناس يجهّزون جسده، والملائكة يجهّزون روحه.
وتساق الأرواح بعد قبضها من الأجساد إلى خالقها، ويكون المرجع والمآب إلى حكم ربّك، فإما إلى جنّة عرضها السماوات والأرض، وإما إلى نار حامية دائمة الإحراق.
وعمل هذا المحتضر المعذب بموته: هو أنه في الدنيا لم يصدق بالرسالة النّبوية ولا بالقرآن، ولا صلّى لربّه الصلاة المطلوبة منه فرضا، بل كذّب بالرسول وبما جاء به، وتولّى عن الطاعة والإيمان، وزاد على ذلك أنه ذهب إلى أهله بطرا أشرا، يتبختر ويختال في مشيته، افتخارا بتقصيره. لقد جمع بين إهمال العقيدة الصائبة، وبين إهمال
الفرائض، وبين سوء الخلق بالتكبّر والتجبّر والتطاول. وهذا دليل واضح على أن الكافر يستحقّ العقاب بترك الصلاة والزكاة، كما يستحقه بترك الإيمان الذي هو أساس صحة الصلاة.
وهذا العقاب جدير به هذا الجاحد، كما قال تعالى: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) أي ويل لك ثم ويل، أولى لك الهلاك، وهو وعيد ثان، ثم كرر ذلك تأكيدا، والمراد:
أولى لك الازدجار والانتهاء، والعرب تستعمل هذه الكلمة زجرا. ومنه قوله تعالى:
فَأَوْلى لَهُمْ، طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ [محمد: 47/ 20- 21] .
أخرج ابن جرير الطبري عن قتادة: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) وعيد على وعيد، زعم أن هذا أنزل في عدو الله أبي جهل، ذكر لنا
أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أخذ بمجامع ثيابه، فقال: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) فقال عدو الله أبو جهل: أيوعدني محمد؟ والله ما تستطيع لي أنت ولا ربّك شيئا، والله لأنا أعزّ من مشى بين جبليها.
وأخرجه النّسائي عن ابن عباس عن قوله: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) أشيء قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل نفسه أم أمره الله به؟ قال: بل قاله من قبل نفسه، ثم أنزله الله.
ثم استدلّ الله تعالى على البعث بدليلين:
الأول- أيظنّ الإنسان أن يترك في الدنيا مهملا، لا يؤمر ولا ينهى، ولا يكلف، ولا يحاسب ولا يعاقب بعمله في الآخرة؟ وهذا خلاف مقتضى العدل والحكمة.
الثاني- أما كان الإنسان نطفة ضعيفة من مني يراق في الرّحم، ثم صار بعد ذلك علقة، أي قطعة دم عالقة، ثم مضغة، أي قطعة لحم، ثم شكّل ونفخ فيه الروح، فصار خلقا سويّا سليم الأعضاء، ذكرا أو أنثى بإذن الله وتقديره؟ أليس الذي أنشأ هذا الخلق البديع وقدر عليه بقادر على أن يعيد خلق الأجسام من جديد بالبعث،
كما كانت عليه في الدنيا، بلى، فإن الإعادة أهون من الابتداء. وقوله: أَلَيْسَ ذلِكَ توبيخ وإقامة حجة.
وقوله تعالى: فَخَلَقَ فَسَوَّى خلق: قدّر بقدر محكم بأن جعلها مضغة مخلّقة.
وفَسَوَّى عدل أركانه وأحكم أمره، وأكمل نشأته، وجعل من المني بعد تخليقه صنفي الإنسان: الرجل والمرأة. وهذا استدلال بالخلق الأول على الإعادة، فإن الخالق الأول هو الخالق الآخر، والأمران سواء عليه.