الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تخفيف الله على عباده في قيام الليل
الإسلام كله دين يسر، وسهولة، وتخفيف، قد يفرض أو يطلب فيه شيء لظرف من الظروف في فاتحة الوحي الإلهي، ثم يرفع الفرض أو الندب مثل قيام الليل، وذلك فضل من الله ورحمة، وإحسان ونعمة، ليكون المطلوب على جهة الدوام والاستمرار موصوفا بصفة اليسر ودفع الحرج والمشقة. وآيات التخفيف متنوعة، منها ما ورد في قيام الليل الذي كان مطلوبا إما على جهة الوجوب أو على الندب، بحسب الخلاف المذكور بين العلماء:
[سورة المزمل (73) : آية 20]
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
«1» «2» «3» «4» «5» [المزمّل: 73/ 20] .
إن ظروف طروء المرض، والتجارة، والجهاد في سبيل الله اقتضت التخفيف عن النبي وأمته في شأن عبادة الليل، والله محيط علمه بكل شيء.
فإن الله تعالى يعلم أيها الرسول أنك تقوم ممتثلا أمر ربك، تاركا النوم والراحة لمدة هي أقل من ثلثي الليل أحيانا، وأحيانا تقوم نصفه أو ثلثه أو أدنى من الثلث، بحسب قدراتهم مع عذر النوم. إما على سبيل الوجوب وإما على سبيل الندب، بحسب الخلاف المتقدم بين العلماء، في أوائل سورة المزمّل. وتقوم معك ذلك القدر في قيام الليل طائفة من أصحابك، والله يجازيكم على ذلك أحسن الجزاء.
(1) أي أقلّ منه.
(2)
تطيقوه.
(3)
يسر عليكم وخفف عنكم.
(4)
الضرب في الأرض: هو السفر للتجارة وغيرها.
(5)
يطلبون الرزق من الله بالتجارة وغيرها.
ويعلم الله تعالى مقادير الليل والنهار حقيقة، ويعلم القدر الذي تقومونه من الليل، مرة يكثر، ومرة يقلّ، وأما البشر فلا يحصون ذلك، ويعلم الله أنكم لن تطيقوا معرفة حقائق الزمان والقيام بالليل، ولن تتمكنوا من ضبط مقادير الليل والنهار، ولا إحصاء الساعات، فتاب الله عليكم، أي رجع بهم من الثّقل إلى الخفّة، ومن العسر إلى اليسر، وأصل التوبة: الرجوع.
قال مقاتل: لما نزلت قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) شقّ ذلك عليهم، وكان الرجل لا يدري متى نصف الليل من ثلثه، فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطئ، فانتفخت أقدامهم، وامتقعت ألوانهم، فرحمهم الله وخفف عنهم، فقال الله تعالى: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ. والمراد بقوله: لَنْ تُحْصُوهُ أي لن تطيقوه، لصعوبة الأمر، لا أنهم لا يقدرون عليه.
فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ هذا في صلاة قيام الليل، أي صلّوا ما تيسّر لكم من صلاة الليل، فالمراد بالقراءة: الصلاة، من إطلاق الجزء وإرادة الكل. وهذه الآية نسخت المطالبة بقيام الليل.
وأسباب التخفيف: هي أن الله تعالى علم بطروء أعذار ثلاثة على بني آدم تحول بينهم وبين قيام الليل: هي المرض، والسفر، والجهاد، فقد يكون منكم مرضى لا يطيقون قيام الليل، وآخرون يسافرون في الأرض للتجارة وكسب العيش والأرباح، يطلبون من رزق الله ما يحتاجون إليه في معاشهم، فلا يطيقون قيام الليل. وقوم آخرون: هم المجاهدون في سبيل الله، لا يطيقون قيام الليل، فوجود هذه الأعذار المقتضية للترخيص سبب لرفع فرضية التهجد عن جميع الأمة، وكذا عن النّبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: عَلِمَ أَنْ أن مخففة من الثقيلة، أي أنه يكون. والضرب في الأرض: هو السفر للتجارة.
وفي هذه الآية فضيلة الضرب في الأرض للتجارة، وجعل السفر لها كالسفر للجهاد.
فصلّوا ما تيسّر، واقرؤوا في صلاتكم الليلة قبيل الفجر ما تيسّر من القرآن، والمراد بالأمر هنا الإباحة، وقد أعيد الأمر هنا لتأكيد الرخصة وتقريرها، وأدّوا الصلاة المفروضة قائمة بفروضها وأركانها وشرائطها، وملازمة الخشوع فيها، دون غفلة عنها، وأدّوا الزكاة الواجبة في الأموال، وأنفقوا في سبيل الله إنفاقا حسنا على الأهل وفي الجهاد، وعلى المحتاجين. وإقراض الله تعالى: هو استلاف العمل الصالح عنده مجازا عن القبول.
ثم أكد الله تعالى طلب الصدقة ورغّب فيها، فجميع ما تقدّمونه من الخير المذكور وغير المذكور، ثوابه حاصل لكم، وهو خير مما أبقيتموه لأنفسكم في الدنيا، ومما تؤخّرونه إلى وقت الموت، أو توصون به، لإخراجه من التركة بعد موتكم.
ثم أمر الله تعالى بالاستغفار، وأوجب لنفسه صفة الغفران، لا إله غيره، فأكثروا من الاستغفار لذنوبكم وفي أموركم كلها، فإنكم قد تقترفون بعض الذنوب، والله كثير المغفرة لمن استغفره، كثير الرحمن لمن استرحمه. قال بعض العلماء: فالاستغفار بعد الصلاة مستنبط من هذه الآية، ومن قوله تعالى: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)[الذّاريات: 51/ 17- 18] .