الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والاستماع إلى خطبتها، فلا يجوز الاشتغال عنها بأي عمل آخر من بيع وشراء أو تجارة، أو لهو، أداء مهمة. لكن بمجرد الانتهاء منها، طلب الإسلام التفرغ للأعمال الأخرى، والسّعي في توفير المكاسب والمعايش مع ملازمة ذكر الله وخشيته سرّا وعلانية، وهذا ما أمرت به الآيات الآتية:
[سورة الجمعة (62) : الآيات 9 الى 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
«1» «2» «3» «4» [الجمعة: 62/ 9- 11] .
يا معشر أهل التصديق والإيمان بالله ورسوله وبالإسلام الحق، إذا أذّن لصلاة الجمعة في يومها المعروف، بالأذان الثاني بعد جلوس الخطيب على المنبر، فيحرم التشاغل بأعمال الدنيا، وعليكم المبادرة إلى أداء الفريضة، من الاستماع إلى ذكر الله، وهو الخطبة، وأداء صلاة الجمعة في المسجد الجامع، وترك البيع وسائر أوجه المعاملات من إجارة وشركة ونحوهما، وذلكم السّعي إلى ذكر الله وترك البيع خير من فعل البيع وترك السّعي، لما في الامتثال من الثواب والجزاء الحسن، إن كنتم من أهل الدّراية والعلم الصحيح بما ينفع. وخصّ البيع بالذكر، لأنه من أهم ما يشغل الإنسان نهارا، وفيه إشارة إلى ترك جميع التّجارات والمهن والحرف في وقت الخطبة والصلاة. أما الأذان الأول فهو تنبيه للإعداد للصلاة والمضي إليها خشية أن يفوت تحقيق المقصد الشرعي من تشريع صلاة الجمعة والاستماع لخطبتها.
(1) النّداء للجمعة: الأذان الداعي لها.
(2)
فامشوا إلى ذكر الله بقصد طيب حسن واتركوا البيع ونحوه.
(3)
أدّيت الصلاة.
(4)
أسرعوا إليها.
والسّعي في الآية: ليس الإسراع في المشي، كالسّعي بين الصّفا والمروة، وإنما المراد إتيان الصلاة بالسكينة والوقار، والسّعي: هو بالنّية والإرادة والعمل. والذّكر:
هو وعظ الخطبة.
ويسنّ لصلاة الجمعة ثلاثة أذانات: ما قبل دخول الوقت بحوالي نصف ساعة أو أقل، والأذان بعد دخول الوقت، وهو الذي زاده عثمان رضي الله عنه لما اتسعت المدينة، على الزوراء (أعلى دار كانت بالمدينة قرب المسجد) ويوصف بأنه الأذان الثاني أو الثالث، والأذان بين يدي الخطيب، وهو الأذان الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد شاهدت في بلاد المغرب في الرباط وغيرها في وقت واحد أذانات ثلاثة متوالية، قبل شروع الخطيب بالخطبة، وذلك إحياء للسّنة كما يبدو، ولكن الغريب كونها متعاقبة في زمن واحد، حيث لا يصلّون السّنة القبلية.
ويكره البيع تحريما بعد الأذان عند الحنفية، ويحرم عند الآخرين، لكنه ينفذ ويمضى ولا يفسخ عند الشافعية، ويفسخ في المشهور عند المالكية ما لم يتم القبض، ولا يصح عند الحنابلة، لأن الجمعة واجبة على الرجال المقيمين الأحرار الذين لا عذر لهم، وترك الجمعة إخلال بالفرض للأمر بها،
ولقوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أحمد والحاكم عن أبي قلابة، وأحمد والنّسائي وابن ماجه والحاكم عن جابر:«من ترك الجمعة ثلاث مرات متواليات، من غير ضرورة، طبع الله على قلبه»
إسناده صحيح ورجاله ثقات، كما قال الهيثمي.
والعمل مباح بعد الفراغ من الصلاة وإتمامها، لقوله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ.. أي إذا أدّيتم الصلاة وفرغتم منها، فيباح لكم التوزّع في نواحي الأرض للتجارة وبقية الأعمال، ولكن لا تنسوا في أثناء العمل تذكر الله كثيرا ومتابعة الأذكار، كالتسبيح والتحميد والتكبير والاستغفار ونحو ذلك. وقوله
تعالى: فَانْتَشِرُوا وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أمر ومقتضى الأمر هنا الإباحة في طلب المعاش، مثل قوله تعالى: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا [المائدة: 5/ 2] .
ثم عاتب الله المؤمنين حين تركوا النّبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، وخرجوا من المسجد، للاشتغال بالتجارة والاستماع إلى طبولها المعبّرة عن الفرحة بقدوم التجارة من بلاد الشام أو غيرها، وذلك في قوله تعالى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً.. أي إذا رأى المصلّون في الجامع الذين يستمعون إلى الخطبة قافلة التجارة القادمة من الشام، أو رأوا لهوا كقرع الطبول وضجيج المزامير، احتفالا بزواج وغيره، خرجوا من المسجد، وانصرفوا إلى الملاهي ومتع الدنيا، وتركوك أيها النّبي قائما على المنبر تخطب فيهم، لوعظهم وإرشادهم، فقل لهم أيها الرسول: ما عند الله من الثواب العظيم في الدار الآخرة خير من اللهو ومن التجارة التي هي هنا سبب الخروج، والله مصدر الرزق وخير الرازقين، فمنه اطلبوا الرزق، وإليه توسّلوا بعمل الطاعة، فذلك من أسباب تحصيل الرزق وأعظم ما يجلبه، والله يرزق بسخاء من توكّل عليه، وطلب الرزق في وقته، وهو سبحانه كفيل برزق العباد، ولن يحرم أحد رزقه أو ينقص منه شيء بسبب الصلاة. وقوله تعالى: وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ مناسب لكل من التجارة واللهو الذي هو كالتبع للتجارة.
نزلت هذه الآية بسبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قائما على المنبر، يخطب يوم الجمعة، فأقبلت عير (إبل محملة بالتجارة) من الشام، تحمل ميرة (طعاما للسفر ونحوه) وصاحبها دحية بن خليفة الكلبي. قال مجاهد: وكان من عرفهم أن تدخل العير المدينة بالطبل والمعازف والصياح من ورائها، فدخلت العير بمثل ذلك، فانفض أهل المسجد إلى رؤية ذلك وسماعه، وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما على المنبر، ولم يبق معه غير اثني عشر رجلا، قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أنا أحدهم.
أخرج عبد بن حميد عن الحسن البصري أن النّبي صلى الله عليه وسلم قال في شأن الباقين معه دون خروج من المسجد: «والذي نفس محمد بيده، لو تتابعتم، حتى لا يبقى منكم أحد، لسال عليكم الوادي نارا» .
وتدلّ هذه الآية على قيام الخطيب. وأول من استراح في الخطبة عثمان رضي الله عنه، وأول من خطب جالسا معاوية رضي الله عنه.