الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم يسر الله تعالى خروج هذا الإنسان من بطن أمه ورحمها، ومكنّه من تحصيل الخير أو الشر، قال مجاهد: أراد السبيل عامة، اسم الجنس في (هدى وضلال) أي يسر قوما لهذا، وقوما لهذا. وقال الحسن البصري ما معناه: إن السبيل هي سبيل النظر القويم المؤدي إلى الإيمان، وتيسيره له: هو هبة العقل.
ثم بعد خلقه له، قبض روحه، وأمر بمواراته في قبر، أي أن يجعل له قبر. وفي ذلك تكريم، لئلا يطرح كسائر الحيوان، ثم إذا شاء الله أنشره، أي أحياه بعد موته، أو بعثه بعد موته. وقوله: ثُمَّ إِذا شاءَ يريد: إذا بلغ الوقت الذي قد شاءه، وهو يوم القيامة.
كلا، أي هذا ردع وزجر للإنسان عما هو عليه، فلم يخل إنسان من تقصير قط، إما بالكفر، وإما بالعصيان، وإما بارتكاب خلاف الأولى والأفضل لما يليق بمنزلته، ولم يفعل بما أمره الله إلا القليل، وهذا تعجيب من حال الإنسان.
نعم الإله على الإنسان وأهوال القيامة
ذكر الله تعالى من أجل بيان قدرته نعمه في الأنفس البشرية، ثم ذكر دلائل الآفاق، وعدّد النعم التي يحتاج إليها الإنسان، لقوام حياته، لعله يقابل النعمة بالوفاء والشكر والإيمان، ثم حذره مما يلقاه في الآخرة من أهوال القيامة، التي تملأ النفس خوفا ورهبة، ليكون ذلك مدعاة إلى التأمل في الدلائل، وفي المبادرة إلى الإيمان بالموجد الخالق، والإعراض عن الكفر، والتواضع لكل أحد، كما يبدو في هذه الآيات:
[سورة عبس (80) : الآيات 24 الى 42]
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28)
وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32) فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33)
يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38)
ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» «10» «11» [عبس: 80/ 24- 42] .
ليتأمل الإنسان كيف خلق الله طعامه الذي يتعيش به، وكيف صنعه الله له؟
وهذا منّة بالنعمة المتكررة، واستدلال بإحياء النبات من التراب على إحياء الأجساد بعد البلى. وكيفية إيجاد الطعام: أننا نحن الله أنزلنا الماء من السماء أو السحاب، على الأرض بغزارة وكثرة، وصبّ الماء: هو المطر، ثم أسكناه في الأرض، ثم أروينا البذور في باطن الأرض بالماء، ثم شققناها بالنبات الخارج منها، فارتفع وظهر على وجهها، فوجدت النباتات المختلفة.
فأنبتنا في الأرض الحبوب المقتاتة التي يتغذى بها كالحنطة والشعير والأرز، والأعناب المتنوعة، وأنواع البرسيم لأكل الدواب وعلفها، قال أبو عبيدة:
القضب: الرّطبة، وأهل مكة يسمون القتّ القضب، لأنه يقضب كل يوم. وقال ابن عطية: إن القضب هنا: هو كل ما يقضب ليأكله ابن آدم، غضا من النبات، كالبقول والهليون ونحوه، فإنه من المطعوم جزء عظيم، ولا ذكر له في الآية إلا في هذه اللفظة.
وأوجدنا أيضا بساتين ذات أشجار ضخمة ومتكاثفة كثيرة، وفاكهة: وهي كل ما
(1) هو المأكول الرطب كالبقول.
(2)
بساتين ضخمة عظيمة، كثيرة الأشجار.
(3)
الكلأ والمرعى.
(4)
النفخة التي تقوم بها القيامة.
(5)
زوجته.
(6)
يصرفه عما عداه.
(7)
مضيئة متهللة.
(8)
فرحة.
(9)
غبار.
(10)
تعلوها ألوان السواد كالدخان.
(11)
الخارجون عن حدود الدين والعقل.
يتفكه به الإنسان من الثمار، من الفاكهة المعروفة، ومرعى من العشب أو الحشيش للدواب. أي إن (الأبّ) هو المرعى، وقيل: التبن.
وحكمة الإنبات: أننا جعلنا ذلك متعة أو عيشة لكم أيها البشر ولأنعامكم. فإذا جاءت القيامة. ولفظة (الصاخة) في حقيقتها إنما هي لنفخة الصور التي تصخّ الآذان، أي تصمّها، واستعملت في القيامة، والداهية والصيحة المفرطة من قبيل الاستعارة.
إذا جاءت الصاخة ترى المرء يفرّ من أقرب الناس له، من أخيه وأمه وأبيه وزوجته وولده، ويبتعد عنهم، لشدة الهول والخطب، ولكل امرئ منهم يومئذ حال أو شغل يشغله عن الأقرباء، ويصرفه منهم، ويفرّ عنهم، حذرا من مطالبتهم إياه بشيء يهمهم، ولئلا يروا ما هو فيه من الشدة. روي أن الرسل تقول يومئذ: نفسي نفسي، لا أسألك غيري. و (الشأن الذي يغنيه) هو فكره في سيئاته، وخوفه على نفسه من التخليد في النار. والمعنى: يغنيه عن اللقاء عن غيره.
قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه ابن جرير عن أنس رضي الله عنه لعائشة رضي الله عنها: «لا يضرّك في القيامة كان عليك ثياب أم لا» ،
وقرأ هذه الآية.
وأحوال الناس في القيامة فريقان: سعداء وأشقياء، عبر عنهم بما يأتي:
وجوه متهللة مشرقة مضيئة، وهي وجوه المؤمنين أهل الجنة، لأنهم علموا إذ ذاك ما لهم من النعيم والكرامة.
ووجوه أخرى في القيامة، عليها غبار وكدورة، والقترة: غبار الأرض، لما تراه مما أعدّه الله لها من العذاب، يغشاها سواد، وذلة وشدة، وأصحاب تلك الوجوه المغبّرة: هم الذين كفروا بالله، فلم يؤمنوا به، ولا بما جاء به أنبياؤه ورسله، وهم الذين اقترفوا المعاصي والسيئات، فهم الفاسقون الكاذبون، الذين جمعوا بين الكفر والفجور، كما جاء في آية أخرى: وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً [نوح: 71/ 27] أي إن
الكفار هم الفجار، وليسوا أصحاب المعاصي الكبائر. والكفرة وقت نزول الوحي القرآني: هم قريش وأمثالهم قديما وحديثا.
إن هذا الوصف المرعب ليوم القيامة يستدعي التأمل والنظر، قبل التورط في هذه المآسي التي لا علاج لها، ولا تبديل، والسبيل لتفادي تلك الأهوال: هو الإيمان بالله تعالى، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقضاء والقدر، ويضم العمل الصالح لساحة الإيمان الأصيلة التي هي قاعدة قبول العمل عند الله تعالى، فمن توافر لديه هذان العنصران، نجا وهان عليه الأمر، وضمن السلامة لنفسه.