الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعيد المكذّبين بالرسالة
هدّد الله تعالى وأوعد المشركين على الإعراض عن قبول دعوة النّبي صلى الله عليه وسلم، وخوّفهم عذاب يوم القيامة وكيفيته وأهواله، وعذاب الدنيا ومخاطره، وأنذرهم بإرسال رسول شاهد على أعمالهم كإرسال موسى عليه السلام إلى فرعون، ثم وصف الله تعالى عذاب الآخرة، وأنه لشدته يشيب منه الولدان، وتتشقق السماوات منه، وأن هذه تذكرة مؤثرة وعظة بليغة، لمن شاء اتخاذ السبيل القويم إلى ربّه تعالى. وهذا ما أوضحته الآيات الآتية:
[سورة المزمل (73) : الآيات 11 الى 19]
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15)
فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» [المزمّل: 73/ 11- 19] .
قوله تعالى: وَذَرْنِي روي أنها نزلت في صناديد قريش، ورؤساء مكة من المستهزئين: وهذا وعيد لهم. ومعناه: دعني وأولئك المكذبين المترفين أصحاب الأموال فلا يتمكن أحد من منع العذاب عنهم، فإني أكفيك أمرهم، وأنتقم لك منهم، فلا تأبه بكونهم أرباب الغنى والسعة والتّرفّه في الدنيا، وتمهّل عليهم رويدا وزمنا طويلا. والمراد: لا تشغل أيها النّبي بالك بهم وكلهم إلي.
(1) بالفتح: التّنعم وغضارة العيش وكثرة المال، وبالكسر: ما ينعم به، وبالضّم: النّعمة: المسرّة.
(2)
اتركهم زمانا قليلا برفق وتأنّ.
(3)
قيودا ثقيلة. [.....]
(4)
نارا محرقة.
(5)
يغصّ به فلا يستساغ.
(6)
تلّا من رمل متجمع بتأثير الريح، ومهيلا: رخوا لينا.
(7)
ثقيلا شديدا.
(8)
جمع أشيب.
(9)
منشق متصدّع.
وأنواع عذابهم أربعة: هي أن عندنا القيود والأغلال لهؤلاء المكذبين بآياتنا وبرسولنا، ونارا مؤججة مضطرمة، وطعاما لا يستساغ، ويصعب بلعه، ينشب في الحلق، فلا يخرج ولا يدخل كالزّقوم والضّريع، ونوعا آخر من العذاب المؤلم الشديد، لا يعلم به غير الله تعالى.
والأنكال: جمع نكل: وهو القيد من الحديد، ويروى أنها قيود سود من نار.
وروي أن النّبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فصعق.
وزمان ذلك العذاب الذي يعذب به الكافرون: هو في يوم تضطرب فيه الأرض والجبال، وتتزلزل بمن عليها. والرجفة: الزلزلة الشديدة. وتصير الجبال كالكثيب المهيل، أي الرمل المتجمع السائل، الذي يسيح فيه الإنسان والحيوان، بعد ما كانت حجارة صماء، وصخورا صلبة، ثم تنسف نسفا، فلا يبقى منها شيء إلا ذهب.
والمهيل: هو الذي إذا وطئته القدم زلّ ما تحتها.
ثم هدّد الله تعالى مشركي مكة بأهوال الدنيا التي تعرضت لها الأمم المكذبة المتقدمة، وهو: إننا أرسلنا إليكم أيها المشركون في مكة وغيرها، رسولا هو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يشهد عليكم يوم القيامة بأعمالكم، وبما يصدر عنكم من إجابة وامتناع، وطاعة وعصيان، كما أرسلنا موسى عليه السلام إلى الطاغية فرعون، يدعوه إلى دين الحق والإيمان بالله تعالى إلها واحدا لا شريك له، فعصى فرعون الرسول المرسل إليه، وكذّبه ولم يؤمن برسالته، فأخذناه أخذا شديدا ثقيلا غليظا، وعاقبناه عقابا مؤلما، وأهلكناه ومن معه بالغرق في البحر، فاحذروا أنتم أن تكذبوا هذا الرسول، فيصيبكم ما أصاب فرعون، حيث أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، وأنتم أولى بالهلاك والدمار، إن كذبتم رسولكم الذي هو أشرف وأعظم من موسى بن عمران عليه السلام. وإنما عرّف كلمة (الرسول) في المرة الثانية، لأنه ينصرف إلى المعهود السابق في الذكر.
ثم أكّد الله تعالى تخويف المشركين بعذاب الآخرة من وجهين:
كيف تقون أنفسكم، وتنعمون بالأمان والاستقرار إن بقيتم على الكفر، من عذاب يوم يجعل الأطفال شيبا بيض الشعور، لشدة هوله، وهذا كناية عن شدة الخوف وتصير السماء متشققة به متصدعة، لشدته وعظيم هوله، وكان وعد الله بمجيء ذلك اليوم كائنا واقعا، لا محالة، ولا محيد عنه. وقوله تعالى: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ معناه: كيف تجعلون واقيا لأنفسكم، وكلمة (يوما) مفعول به لكلمة (تتقون) ويجوز أن يكون ظرفا، والمعنى: تتقون عقاب الله يوما. ويَجْعَلُ الْوِلْدانَ إما مسند إلى اسم الله تعالى، أو مسند إلى اليوم. و (الولدان) صغار الأطفال. والسَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ أي ذات انفطار وتشقق، كامرأة حائض وطالق. والانفطار: التصدع والانشقاق، على غير نظام يقصد. وضمير (به) إما عائد على اليوم، وإما عائد على الله تعالى.
وهذه الآية لها نظائر، منها: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ [الفرقان: 25/ 25] . أي بالغمام الذي هو ظلل، يأتي الله تعالى فيها، والمعنى: يأتي أمره وقدرته. وكذلك مُنْفَطِرٌ بِهِ أي بأمره وسلطانه. وضمير كانَ وَعْدُهُ ظاهر أنه لله تعالى. ويحتمل أن يكون لليوم، لأنه يضاف إليه من حيث هو فيه.
إن توالي التهديدات لمشركي قريش، مع وصف ألوان العذاب، يدلّ على شدة غضب الله تعالى وسخطه على كل من كفر بالله وأشرك، وأن كل أعمال المشركين مرصودة مدونة عليهم مشهود بها من رسولهم عليها، حتى لا تكون مجالا للإنكار والجحود. وما تقدم في سورة المزمل من الآيات المخوفة موعظة بليغة، فمن أراد اتّعظ بها واتّخذ الطاعة طريقا توصله إلى رضوان الله في الجنة.