الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نخبرك عنهم شيئا، ولم يكن لرسول من الرسل الإتيان لقومه بمعجزة خارقة للعادة إلا بأمر أو إذن من الله له في ذلك، فإذا حان وقت العذاب في الدنيا أو الآخرة، قضي بالعدل فيما بينهم، وخسر كل مبطل، وحصل على فساد آخرته. فتكون الآية توعدا لهم، أو إذا أراد الله إرسال رسول وبعثة نبي، قضى الله ذلك، وأنفذه بالحق، وخسر المبطلون، فتكون الآية على هذا التأويل ردا على قريش في إنكارهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم.
نعم الله وتهديد أهل الجدل بالباطل
لا يمكن لأحد في العالم عنده مسكة من عقل أن ينكر فضل الله ونعمه على الناس، لأن الواقع المشاهد حجة دامغة، ولا يستطيع أحد إنكاره أو تجاوزه، وما أكثر الأدلة الحسية الميدانية من التاريخ في تعذيب المبطلين المكابرين بالمجادلين في آيات الله تعالى، لذا كان تحدي الواقع سببا موجبا للتهديد بالعذاب، وإيقاعه على أولئك المعاندين المغترين بدنياهم، المستهزئين بآيات الله، وإذا وقع العذاب، حدث الندم الشديد، ولم ينفع الإيمان والاعتذار في ذلك الوقت، كما تصور هذه الآيات:
[سورة غافر (40) : الآيات 79 الى 85]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83)
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85)
«1» «2» «3»
(1) أي السفن.
(2)
نزل وثبت وأحاط، وهي مستعملة في الشر.
(3)
شدة عذابنا.
[غافر: 40/ 79- 85] .
هذه آيات للعبر، وتعداد النعم، والاحتكام للواقع المشاهد، فالله تعالى جعل لكم أيها البشر الأنعام وهي الأزواج الثمانية من الإبل والبقر والغنم والمعز. فبعضها في الغالب للركوب كالإبل، وبعضها للأكل وحرث الأرض عليها كالبقر، وبعضها للأكل وشرب اللبن كالغنم، وكلها تتكاثر وتتوالد، ويستفاد من أصوافها وأوبارها.
فكلمة (منها) الأولى في قوله لِتَرْكَبُوا مِنْها للتبعيض لأن المركوب منها هو الإبل خاصة، وكلمة (منها) الثانية وَمِنْها تَأْكُلُونَ لبيان الجنس، لأن الجميع منها يؤكل، ولكم أيها البشر في الأنعام منافع أخرى غير الركوب والأكل من صوف وشعر ووبر، وزبد وسمن، وجبن وغير ذلك، ولحمل الأثقال على بعضها إلى البلاد النائية بيسر وسهولة، وعلى الإبل وغيرها في البر، وعلى السفن في البحر، تحملون وتنقلون من بلد إلى آخر.
والله تعالى يريكم أيها الناس عيانا هذه الآيات والبراهين في الآفاق والأنفس، والتي هي كلها ظاهرة دالة على كمال قدرته ووحدانيته، مما لا سبيل لإنكاره، فأي آية من آياته الباهرة تنكرون؟ إنها كلها مشاهدة مرئية، لا تستطيعون إنكارها، ففي كل شيء له آية تدل على وحدانيته، لذا فإنكم على سبيل التوبيخ كيف تنكرون آية منها؟
ثم احتج الله تعالى على قريش بما يظهر في الأمم السالفة من نقمات الله، مع أنهم كانوا أكثر عددا، وأشد قوة أبدان وممالك، وأعظم آثارا في المباني والأفعال من قريش والعرب. أفلم يسر هؤلاء المشركون المجادلون بالباطل في آيات الله، فينظروا في أسفارهم كيف كان مصير الأمم السابقة التي عصت الله تعالى، وكذّبت رسلها،
ويشاهدوا آثارهم القائمة في ديارهم نتيجة العقاب والتعذيب، مع أنهم كانوا أكثر من مشركي قريش عددا، وأقوى منهم أجسادا، وأوسع منهم أموالا، وأبقى في الأرض آثارا بالمباني والقصور والحصون والمزارع والسدود، فلما حلّ بهم العذاب، لم ينفعهم مالهم ولا أولادهم، ولا أغنى عنهم كسبهم ولا حالهم شيئا، حين جاءهم عذاب الله وأخذه.
فلما جاءت الرسل بالحجج والبراهين الواضحة الدالة على صدق نبوتهم ورسالتهم، أعرضوا عنهم، ولم يلتفتوا إليهم، وفرحوا بما لديهم من العلوم والمعارف، وهي الشبهات والضلالات الزائفة التي ظنوها علما نافعا، وأحاط بهم العذاب من كل جانب، ونزل بهم من العذاب الذي كذبوا به ما كانوا يستبعدون وقوعه، استهزاء وسخرية. وهذا كقوله تعالى: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا [الروم: 30/ 7] .
ثم أخبر الله تعالى عن حالة بعض أولئك المعذبين الذين آمنوا بعد تلبّس العذاب بهم فلم ينفعهم ذلك. إنهم حينما عاينوا وقوع العذاب بهم، صدقوا بالله ووحّدوه، وكفروا بمعبوداتهم الباطلة التي اتخذوها شركاء لله، وهي الأصنام، فلم ينفعهم إيمانهم شيئا عند معاينة العذاب وشدة الانتقام، لأنه إيمان اليأس والإلجاء والقهر، فهو إيمان قسري عن إكراه فلا يقبل، لأنه في تلك الحال لا يبقى مجال للتكليف وقبول الإيمان.
ثم ذكر الله تعالى حكمه العام في الأمم، وهو أن هذا العذاب هو حكم الله وطريقته في جميع من تاب عند معاينة العذاب بأنه لا يقبل، وخسر الكافرون وقت رؤيتهم بأس الله ومعاينتهم لعذابه، والكافر خاسر في كل وقت، ولكن يتبين لهم خسرانهم إذا رأوا العذاب.