الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من وجب عليه قرار العذاب، ولا تتمكن من إنقاذه من النار. لكن أولئك الذين اتقوا عذاب ربهم بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، لهم في الجنة غرف مبنية محكمة البناء، تجري من تحت تلك الغرف والقصور أنهار عذبة الماء، وذلك وعد محقق من الله تنفيذه، ووعد الله حق ثابت، لا نقض فيه ولا رجوع عنه.
حال الدنيا الفانية وتوجيه الهداية
رغّب القرآن الكريم بالآخرة لخلودها ونعيمها التام، ونفّر من الدنيا لفنائها وسرعة زوالها، فهي أشبه بزرع اخضّر بماء السماء، ثم اصفر وتهشم، وأوضح القرآن سبيل الهداية للدين الحق والنور الإسلامي، فمن استضاء قلبه بالإسلام، فهو على نور من ربه، ومن استنار بتعاليم القرآن، ولأن جلده وقلبه لذكر الله تعالى، فهو على طريق مستقيم. ومن أعرض عن هدي القرآن، وانغمس في المعاصي والمنكرات، فقد عرّض نفسه لسوء العذاب، واستحقاق الخزي في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى واصفا أحوال الدنيا وحال انشراح الصدر بالقرآن:
[سورة الزمر (39) : الآيات 21 الى 26]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25)
فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26)
«1»
(1) الويل: كلمة عذاب أو واد في جهنم.
«1» [الزمر: 39/ 21- 26] .
المعنى: ألم تشاهد أيها النبي وكل بشر أن الله أنزل من السحاب مطرا، فأدخله وأسكنه في الأرض، ثم أخرج منها عيونا متدفقة بالماء، ثم تسقى به الأرض، فيخرج بذلك الماء من الأرض زرعا مختلفا أنواعه، من الحنطة والشعير والحبوب الأخرى والخضروات وغيرها، ثم ييبس ويجف، فتراه مصفرا بعد خضرته، ثم يتكسر ويتهشم، إن في ذلك المذكور من إنزال المطر وإخراج الزرع به موعظة ينتفع بها أهل العقول الصحيحة.
هذا مثال لحال الدنيا الفانية، متاعها زائل، وبهجتها ذاهبة، وكل مفكر تفكيرا صحيحا يدرك أن سرعة زوال الدنيا يدل على قصر عمر الإنسان، وأنه مهما طال، لا بد له من الانتهاء، كما جاء في آية أخرى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص: 28/ 88] .
ولا يكون الانتفاع بهذه المواعظ إلا إذا شرح الله الصدور للإسلام، ونوّر القلوب بالإيمان، ولا يستوي هذا ومن حجب قلبه عن الأنوار الإلهية. أفمن وسّع الله صدره، فقبله واهتدى بهدية، فأصبح مستنير القلب بنور الله، وهو نور المعرفة، والاهتداء إلى الحق، كمن قسا قلبه لسوء اختياره وغفلته وجهالته؟! أي لا يستوي المهتدي للإسلام والحق، ومن هو قاسي القلب، البعيد عن الحق، فالعذاب الشديد لمن تحجرت قلوبهم عند سماع ذكر الله، ولم تخشع لصوت الحق الإلهي، أولئك قساة
(1) الخزي: الذل والهوان.
القلوب في ضلال واضح عن الحق، ولا يفهم الكلام إلا بمحذوف يدل عليه الظاهر، تقديره كالقاسي القلب والمعرض عن ذكر الله.
ذكر الواحدي في أسباب النزول: أن هذه الآية نزلت في علي وحمزة رضي الله عنهما، وأبي لهب وابنه، وهما اللذان كانا من القاسية قلوبهم.
وشَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ استعارة لتحصيله للنظر الجيد والإيمان بالله تعالى.
و «النور» : هداية الله، وهي أشبه شيء بالضوء.
قال ابن مسعود رضي الله عنه فيما أخرجه ابن مردويه: قلنا: يا رسول الله، كيف انشراح الصدر؟ قال: إذا دخل النور القلب انشرح الصدر، قلنا: وما علامة ذلك؟ قال: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والتأهب للموت» .
والقسوة: شدة القلب.
ثم وصف الله القرآن الذي يشرح الصدر بأن الله نزل أحسن الأحاديث وهو القرآن، لما فيه من الخيرات والبركات والمنافع العامة والخاصة، وهو كتاب يشبه بعضه بعضا، في جمال النظم وحسن الإحكام والإعجاز، وقوّة المباني والمعاني، وبلوغ أرقى درجات البلاغة، وتثنى فيه القصص، وتتكرر فيه المواعظ والأحكام من أوامر ونواه، ووعد ووعيد، ويثنى في التلاوة، وتقشعر من عظمة آياته وأمثاله ومواعظه جلود الخائفين من الله، ثم تسكن وتطمئن الجلود والقلوب عند سماع آيات الرحمة، ذلك القرآن الذي هذه صفته هو هداية الله، يهدي به من يشاء هدايته وتوفيقه للإيمان، ومن يخذله الله عن الإيمان بالقرآن من الفسّاق والعصاة والفجار، فلا مرشد له.
عن ابن عباس: أن قوما من الصحابة قالوا: يا رسول الله، حدثنا بأحاديث حسان وبأخبار الدهر، فنزل: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ.
وسبب التمييز بين المهتدي والضال يظهر في هذه المقارنة، وهي: أفمن يتقحّم نار جهنم، فلا يتمكن من اتقاء العذاب الشديد يوم القيامة، كمن هو آمن لا يتعرض