الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفسير سورة غافر
مصدر القرآن الكريم
لقد أدرك الكافرون من العرب والمؤمنون أن القرآن العظيم كلام الله تعالى، لاختلافه التام عن كلام البشر من أدب وشعر، ونثر وخطابة، ولتفوقة في البلاغة والفصاحة، ولسموه في النظم والمعنى والانسجام، إلا أن من لم يؤمن به عائد وتحدى، حفاظا على المراكز والمصالح، ومن بادر إلى الإيمان به، استجاب لنداء العقل والحكمة، واختار لنفسه طريق السعادة والنجاة، وحمى نفسه من التردي والضياع والخسران. وهذا ما قررته الآيات الشريفة الآتية بكل ثقة وبداهة في أول سورة غافر أو المؤمن التي هي مكية:
[سورة غافر (40) : الآيات 1 الى 6]
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَاّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَاّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6)
«1» «2» [غافر: 40/ 1- 6]
(1) أي مصدر الإنعام صاحب النعم والفضل والغنى، فالطول: السعة والغنى.
(2)
أي ليبطلوا ويزيلوا به الحق. [.....]
هذه الآيات تبين مصدر إنزال القرآن: وهو أنه من عند الله، وتناقش الكفار الذين جادلوا بالباطل، لدحض الحق، فاستحقوا التهديد بالعذاب في النار.
حم: حروف مقطعة للاستفتاح والتنبيه لخطر ما بعدها، وللتحدي بالإتيان بمثل آي القرآن في الفصاحة والبلاغة، والإحكام في النظم والمعنى، لأنه لم يخرج تركيبه عن الحروف العربية، مثل هذين الحرفين: حم، ثم إن تنزيل القرآن الكريم على قلب النبي محمد صلى الله عليه وسلم من الله الغالب القوي القاهر، الواسع العلم بخلقه وبكل أقوالهم وأفعالهم، فأنت أيها النبي صادق في قولك: إنك رسول الله، وإن القرآن من عند الله. والله منزّل القرآن: هو غافر الذنب الصادر من الإنسان، وقابل التوبة الخالصة منه، وشديد العقاب لمن عاداه، وذو الفضل والسعة والنعمة والمن بكل نعمة، ينعم بمحض إحسانه، وهو الإله الواحد الذي لا شريك له ولا نظير، وإليه مرجع الخلائق كلهم. هذه ست صفات لله عز وجل تضمنت وعيدا بين وعدين، وعيدا بالعقاب، ووعدا بمغفرة الذنب وبالإمداد بالنعم، وهكذا رحمة الله تعالى تغلب غضبه. قال عمر رضي الله عنه:«لن يغلب عسر يسرين» مشيرا لقوله تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6)[الشرح: 94/ 5- 6] .
ولا يخاصم في دفع آيات الله وتكذيبها إلا الذين كفروا بالله، فهم يجادلون بالباطل، أي جدالا باطلا، فلا تغتر أيها النبي أو تظن أن وراء تقلبهم وإمهالهم خيرا لهم، ولا يغتروا بإملاء الله تعالى لهم، أي ولا تنخدع بتصرفهم وتمتعهم بالمساكن والمزارع والأسفار، وتنقلهم في بلاد الله للتجارة وتحقيق الأرباح، وجمع الأموال، فإنهم معاقبون عما قليل، وعاقبتهم في النهاية: الدمار والهلاك.
ثم ذكر الله تعالى أن لهم مثلا بمن تقدمهم من الأمم السابقة، فكما حل العقاب بأولئك، كذلك ينزل بهؤلاء، فلقد كذبت قبل جماعة قريش قوم نوح والأحزاب
(الجماعات) الذين تحزبوا على الرسل من بعد قوم نوح، كعاد وثمود وأهل مدين وأصحاب لوط، وقوم فرعون وغيرهم، فإنهم جاهروا بتكذيب الرسل، فعوقبوا أشد العقاب.
وعزمت كل أمة من تلك الأمم المكذبة برسولهم المرسل إليهم على أخذه، لحبسه وتعذيبه، أو قتله، أو طرده، وجادلوا الرسل بالشبهة المزيفة، وبباطل القول وزخرف الكلام، لرد الحق، وإبطال الإيمان الصحيح.
وقوله تعالى: لِيَأْخُذُوهُ معناه: ليهلكوه، والأخيذ: القتيل أو الأسير، فأخذهم الله، أو أهلكم ودمرهم.
فانظر كيف كان عقابي الذي عاقبتهم به؟ فإنه كان مهلكا مستأصلا. فيكون قوله تعالى: فَكَيْفَ كانَ عِقابِ تعجيب وتعظيم، وليس باستفهام عن كيفية وقوع الأمر.
ثم أكد الله تعالى هذا المعنى بقوله: وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ.. أي وكما أخذت أولئك المذكورين وأهلكتهم، فكذلك حقت كلماتي، ووجب عذابي على جميع الكفار، من تقدّم منهم ومن تأخر، أنهم أهل النار وسكانها. وهذه كلها عبارة عن تحتم القضاء عليهم، فما دام السبب واحدا أو العلة واحدة، فإن الجزاء أو العذاب واحد، وهو استحقاقهم النار.
إن عدالة القرآن الكريم، وبيانه البديع، وقانونه الحق المبرم يتطلب كل ذلك الإذعان لدعوته وامتثال أمر الله وطاعته، والحذر من مخالفته وعصيانه، ولو لم يكن ذلك منهج القرآن الذي يسوّي بين جميع البشر في الحساب والجزاء، لما أيقن أهل الإيمان بقدسيته، ولما جعلوه بمثابة الروح والقلب والدم في نفوسهم، بل الذي لا يعلوه شيء ولا يتقدم عليه شيء.