الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومتطلباتها من طهارة القلب والنفس والثياب، ومثلها البدن والمكان من باب أولى، واجتناب الأوثان، وتحرير العقل من الشّرك، والتّخلق بالأخلاق الاجتماعية والعادات الإنسانية كترك إعطاء القليل وابتغاء الكثير، وتقويم النفس بكريم الخلق، وإصلاح البدن بهجر المآثم والمحارم. وهذه الأوامر لا تعني أن النّبي يفعل شيئا منها، وإنما هو من قبيل الاستمرار والمداومة على ما هو عليه من عبادة الله الواحد الأحد، والتّحلي بالأخلاق الكريمة، وهجر كل ما يغضب الله تعالى.
وعيد زعماء الشّرك
في بدء الدعوة هدّد الله تعالى الوليد بن المغيرة وأمثاله من زعماء الشّرك، وآنس نبيّه بقوله في سورة المدّثّر: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وقوله في سورة المزمّل:
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) ، ثم عدّد سبحانه وتعالى نعمه الوفيرة على الوليد من المال والولد والجاه والرياسة، وكفره بها، ووعيده بنار جهنم لوصفه القرآن الكريم بأنه سحر، بل ومحاولة تحدّيه بمقاومة الملائكة، زبانية جهنم التسعة عشر. ويتبين ذلك في الآيات الآتية:
[سورة المدثر (74) : الآيات 11 الى 31]
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15)
كَلَاّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)
ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلَاّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلَاّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25)
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30)
وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَاّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَاّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَاّ هُوَ وَما هِيَ إِلَاّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9»
(1) اتركني أي أنا أكفي عقابه وشأنه كله.
(2)
موسعا كثيرا.
(3)
حضورا.
(4)
بسطت له الدنيا بسطا.
(5)
كلمة ردع وزجر.
(6)
معاندا لها ومكابرا.
(7)
تأمّل في القرآن وهيّأ الأمر في نفسه.
(8)
قطّب جبهته، واشتدّ عبوسه، حتى تغيّر وجهه.
(9)
يروى ويتعلم.
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» [المدّثّر: 74/ 11- 31] .
أخرج الحاكم وصححه وابن جرير وابن أبي حاتم، عن ابن عباس.. أن الوليد ابن المغيرة جاء إلى النّبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه، فقال: يا عم، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك ما لا ليعطوكه، فإنك أتيت محمدا، لتتعرض لما قبله، قال: لقد علمت قريش أني من أكثرها مالا، قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له، وأنك كاره له، فقال: وماذا أقول؟ فو الله، ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، وو الله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو وما يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني أفكر فيه، فقال:«هذا سحر يؤثر» يأثره عن غيره، فنزلت: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11)
والمعنى: دعني أنا، والذي خلقته حال كونه وحيدا في بطن أمه، لا مال له ولا ولد، أو دعني وحدي معه لا يشركني فيه أحد، فإني أكفيك في الانتقام منه. عرفنا أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي، الذي كان يلقب بالوحيد، لأنه لا نظير له في ماله وشرفه في بيته. فذكر الوحيد في الآية في جملة النّعم التي أعطيها،
(1) سأدخله نار جهنم.
(2)
تلوح وتظهر لأنظار الناس.
(3)
ابتلاء واختبارا. [.....]
(4)
ولا يشكّ.
(5)
شكّ ونفاق.
(6)
المثل: هو القول السائر على ألسن الناس.
(7)
أنصاره وأعوانه.
(8)
موعظة وعبرة.
ولكن لم يثبت هذا. ومعنى قوله: خَلَقْتُ وَحِيداً معناه: منفردا ذليلا، فجعلت له المال والبنين.
وجعلت له مالا واسعا كثيرا، وبنين حضورا معه بمكة، لا يفارقونها ولا يسافرون بالتجارات في البلاد لطلب الرزق، لكثرة مال أبيهم، وبسطت له في العيش وطول العمر والرياسة في قريش، ومع كل هذا يطمع في زيادة المال والولد وغير ذلك، مما يدعو إلى التعجب. وهذا إنكار عليه، لشدة حرصه على الدنيا. فرد الله عليه: كلا: كلمة ردع وزجر، لا أزيده، إنه كان لآيات القرآن معاندا لها، كافرا بها، بعد العلم بصدقها. سأكلفه وأحمله مشقة من العذاب.
وسَأُرْهِقُهُ: أكلفه بمشقة وعسر، وصَعُوداً عقبة في نار جهنم.
إنه فكّر في شأن النّبي صلى الله عليه وسلم وفي القرآن العظيم، وهيّأ من الكلام في نفسه ما يقول، وتروى فيما يصف به القرآن حين سئل عنه، فلعن وعذّب، على أي حال قدر ما قدر من الكلام. وهذا كله تعجب واستعظام من موقفه، واستحقاقه مضاعفة العذاب، ثم أعاد النظر والتّروي والتأمّل في الطعن بالقرآن، ثم قطّب وجهه، لما لم يجد مطعنا يطعن به القرآن، وتغيّر وجهه، ثم أعرض عن الإيمان، وتكبّر عن الانقياد للقرآن، فقال: ما هذا إلا سحر ينقل ويحكى، هو قول (كلام) البشر، أي ليس منزلا من عند الله تعالى. وقوله: فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) دعاء عليه على معنى تقبيح حاله. و (قتل) بمعنى لعنه أو عاداه، أو هو بمعنى التعجب من الشيء.
سأدخله النار، وسأغمره فيها من جميع جهاته، وسقر: من أسماء النار، ثم أي شيء أعلمك ما سقر؟ لا تبقي من الدم واللحم والعظم شيئا، فإذا أعيد أهلها خلقا جديدا، فلا تتركهم، بل تعاود إحراقهم بأشد مما كانت، وهكذا أبدا. وهي أي جهنم تلوح للناس حتى يرونها عيانا، وعليها زبانية أشداء، من الملائكة عددهم
تسعة عشر شخصا،
أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في البعث وابن مردويه عن البراء: أن رهطا من اليهود سألوا رجلا من أصحاب النّبي صلى الله عليه وسلم عن خزنة جهنم، فجاء، فأخبر النّبي صلى الله عليه وسلم، فنزل عليه ساعتئذ: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) .
ولم نجعل خزنة النار وزبانيتها القائمين بالتعذيب إلا ملائكة غلاظا شدادا، ولم نجعلهم رجالا تمكن مغالبتهم، ولم نجعل عددهم تسعة عشر إلا اختبارا منّا للناس، وسبب محنة وإضلال للكافرين، حتى قالوا ما قالوا، ليتضاعف عذابهم، وقوله:
فِتْنَةً أي سبب فتنة للكفار، وفتنتهم: كونهم أظهروا مقاومتهم، والطمع في مغالبتهم، وذلك على سبيل الاستهزاء، فإنهم مكذّبون بالبعث وبالنار وبخزنتها.
وجعل الله هذا العدد ليتيقن أهل الكتاب (وهم اليهود والنصارى) أن الرسول حق، فإنه جاء ناطقا بما يطابق كتبهم السماوية السابقة، فإن فيها أن عدّة خزنة جهنم تسعة عشر، ولكي يزداد إيمان المؤمنين، ولا يشك أهل الكتاب من اليهود والنصارى والمؤمنون بالله تعالى ورسوله، في صحة وحقيقة هذا العدد وفي دين الله، وليقول المنافقون الذين في قلوبهم شكّ وريب، في صدق النّبي صلى الله عليه وسلم، ومعهم الكافرون من أهل مكة وغيرهم: أي شيء أراد بهذا العدد المستغرب استغراب المثل، وما الحكمة في ذكر هذا العدد هنا؟ مثل ذلك المذكور من الإضلال والهداية، يضلّ الله من يريد، بخذلانه عن إصابة الحق، لسوء استعداده، ويهدي إلى الحق والإيمان من يريد، بتوفيقه إلى الصواب، وليس في ذلك إجبار على الضلالة والهدى، لمنافاته للعدل الإلهي. وما يعلم أنصار الله وأعوانه إلا الله وحده، وما سقر وصفتها إلا تذكرة وعظة للناس، ليعلموا كمال قدرة الله.
روي أن الحارث بن كلدة الجمحي قال: أنا أكفيكم سبعة عشر، واكفوني أنتم اثنين، فنزل قوله تعالى: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً أي لم نجعلهم رجالا تستطيعون مغالبتهم.