الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إن في هذا البيان الإلهي تقريرا لأمرين: الأول- أن الله تعالى هو لا غيره الرازق المتكفّل بأرزاق المخلوقات من بدء الحياة إلى الموت. والثاني- أن قسمة الرّزق بيد الله تعالى، لا تكون مرتبطة بالمهارات وضدّها من العجز، ولا بالإيمان ونقيضه، ولا بالاستقامة والطاعة وعكسها.
طريق التجديد والإصلاح
من المعلوم أن الإنسان مركب على النقض، معرّض للأخطاء، فالخطأ ملازم لكل إنسان، لكن لا يجب ولا يصح استمرار الخطأ، وإنما العلاج سهل ويسير، والتخلص من آثار الزلات والانتكاسات أمر ليس بالعسير ولا بالشاق، ألا وهو العودة إلى الله تعالى، وتجديد الحياة، وتصحيح المسيرة بالتوبة الخالصة بين الإنسان وربه، وإخلاصه العمل له سبحانه، والتوجه الصحيح في فهم حقيقة الوجود، وضرورة الإيمان لكل إنسان، والالتزام بأصول الحق والسداد والاستقامة. قال الله تعالى مبينا هذا المنهاج ليفتح لنا باب الأمل والرجاء:
[سورة الزمر (39) : الآيات 53 الى 59]
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57)
أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59)
«1» «2» «3» «4»
(1) أي تجاوزوا الحد وأفرطوا.
(2)
لا تيأسوا، والقنوط أعظم اليأس.
(3)
أي فجأة وعلى غير موعد.
(4)
أي في تضييع شريعته والإيمان به.
[الزمر: 39/ 53- 59] .
نزلت هذه الآية فيما
رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس: أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمدا صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، أو تخبرنا أن لنا توبة، أو أن لما عملنا كفارة؟ فنزلت الآية:
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إلى قوله: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً
[الفرقان:
25/ 68- 70] ونزل: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ..
وهذه الآية عامة في جميع الناس إلى يوم القيامة، تشمل الكافر والمؤمن.
المعنى: قل أيها النبي لقومك: يا عباد الله الذين أسرفوا أو تجاوزوا الحد في المعاصي، واستكثروا منها، لا تيأسوا من مغفرة الله تعالى، فإن الله تعالى يغفر جميع الذنوب إلا الشرك الذي لم يتب منه صاحبه، كما في آية أخرى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 4/ 48] .
إن الله كثير المغفرة واسع الرحمة، فلا يعاقب بعد التوبة، فإن توبة الكافر تمحو كفره، وتوبة العاصي تمحو ذنبه، ومقتضى ظواهر القرآن: أن الذنب مغفور بالتوبة ولا بد، لكن الشرك ليس بمغفور إجماعا، وكل مغفرة أو عمل مقيد بمشيئة الله.
لكن المغفرة تتطلب أمرين: التوبة الخالصة لله تعالى، وإخلاص العمل لله سبحانه، لذا أمر الله بالإنابة إليه بالتوبة والطاعة، واجتناب المعاصي، وتسليم الأمر لله عز وجل، والرضا بحكمه وبأمره، من قبل مجيء عذاب الدنيا، والوقوع في الهزيمة المنكرة. ومعنى قوله: وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ: ارجعوا وميلوا بنفوسكم.
وإخلاص العمل لله لا يكون إلا باتباع القرآن الكريم بإحلال حلاله، وتحريم حرامه، والتزام طاعته، وتجنب معصيته. ومعنى قوله: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ..
أي التزموا طريق التفهم والطاعة، واتبعوا أوامر الله واجتنبوا نواهيه، فهو أحسن من أن يسلك الإنسان طريق الغفلة والمعصية، وهذا هو المعنى المقصود ب (أحسن) وليس معناه أن بعض القرآن أحسن من بعض، من حيث هو قرآن، وإنما وجه الأحسنية: هو بالإضافة إلى أفعال الإنسان وما يجد من عواقبها، فما يأمر به الله خير مما يفعله الإنسان بهواه وعقله، قال السّدي: الأحسن: هو ما أمر الله تبارك وتعالى به في كتابه.
واتباع أوامر الله: مطلوب قبل مجيء العذاب فجأة من غير موعد، والناس غافلون عنه لاهون، لا يشعرون به، وهذا تهديد ووعيد.
وهذا منهج الحكمة والعقل، فإن المبادرة إلى التوبة والعمل الصالح أمر مطلوب قبل فوات الأوان، وذلك قبل الندم، وقبل أن تقول نفس مفرطة في التوبة: يا حسرتاه على التقصير في الإيمان والطاعة، وتدبّر القرآن والعمل بأوامره وإرشاداته، فلقد كان عملي في الدنيا عمل ساخر مستهزئ بدين الله وكتابه وبرسوله وبالمؤمنين، غير مصدّق بالله وحسابه. أو قبل أن تقول نفس: لو أن الله أرشدني إلى دينه، لكنت ممن يتقي الله ويجتنب الشرك. فهذه الجملة وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ هي من قول الكافر، مفادها الندامة على استهزائه بأمر الله، والسّخر: الاستهزاء. أو قبل أن تقول حين معاينة العذاب: ليت لي رجعة أخرى إلى الدنيا، فأكون من المؤمنين بالله، الموحّدين له، المحسنين في أعمالهم. ثم رد الله تعالى على أصحاب هذه التأملات بأنه قد جاءت آيات الله في قرآنه تنذر وتحذر، فكذبوا بها، وتكبروا عن اتباعها، وكانوا من الجاحدين بها، الكافرين بمضمونها.
إن هذه التحذيرات من سوء العاقبة مفيدة في الدنيا، لا في الآخرة، فإن الدنيا:
هي دار التكليف، والآخرة هي دار الحساب والجزاء، وفي الآخرة لا ينفع الندم، ولا مجال لإصلاح العمل أو العودة للدنيا لتصحيح الأعمال.