الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفسير سورة الدّهر
خلق الإنسان ومصيره
من أعاجيب الخلق الإلهي: خلق الكون من السماء والأرض، وخلق الإنسان بعد العدم، ثم تكاثر النوع الإنساني، وتكليف الإنسان بالتكاليف الرّبانيّة المسماة بالأمانة، ثم يمرّ في أطوار الحياة بعد الولادة، وتبدأ مرحلة البلوغ والخطاب الإلهي له، ليكون موضع اختبار في مدى الحياة أو العمر، ويكون في أعقاب الامتحان إما كافرا جاحدا، وإما مؤمنا شاكرا. ولكلّ جزاؤه، فللكافرين السعير والسلاسل والأغلال، وللمؤمنين الأبرار جنان الخلد والنعيم بسبب ما قدموا من صالح الأعمال، وهذا صريح الآيات الآتية في مطلع سورة الدّهر أو الإنسان المكّية في رأي بعضهم، والأصح أنها مدنيّة:
[سورة الإنسان (76) : الآيات 1 الى 12]
بسم الله الرحمن الرحيم
هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4)
إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9)
إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» «10» «11» «12» «13»
(1) جزء محدود من الزمان. [.....]
(2)
زمان ممتد غير محدود.
(3)
قليل من الماء.
(4)
أخلاط.
(5)
نختبره.
(6)
بيّنا له طريق الخير والشّر وأرشدناه.
(7)
هيّأنا.
(8)
قيودا في الأرجل.
(9)
أطواق في الأيدي.
(10)
الذين هم أهل الصدق والطاعة والإخلاص.
(11)
إناء الخمر.
(12)
ما تمزج به.
(13)
طيب معروف له رائحة جميلة.
«1» «2» «3» «4» «5» «6» [الإنسان: 76/ 1- 12] .
هل: في كلام العرب قد تجيء بمعنى قد، مع التقرير، وقال أكثر المتأوّلين:(هل) تقرير. أي لقد أتى على جنس الإنسان فترة من الزمان، كان فيه منسيا غير موجود ولا مخلوق، ولا مذكور لأحد من الخليقة المتقدمين عليه: وهم الملائكة والجنّ. وهذا إخبار عن فترة ما قبل خلق الإنسان، حيث كان معدوما لا يذكر. أي إذا تأمل كل إنسان نفسه، علم بأنه قد مرّ حين من الدّهر عظيم، لم يكن هو فيه شيئا مذكورا، أي لم يكن موجودا.
ثم أخبر الله تعالى عن بدء تكاثر الخلق، إننا نحن الخالق أوجدنا ابن آدم من ماء قليل من المني، مختلط بين ماءي الرجل والمرأة، من أجل اختباره، بالخير والشّر، وبالتكاليف الشرعية، بعد البلوغ، وزودناه بطاقات الفهم والوعي والإدراك وهي السمع والبصر، ليتمكن من حمل رسالة التكليف واجتياز مرحلة الاختبار.
ودللنا الإنسان وأرشدناه، وبيّنا له طريقي الخير والشّر، والهدى والضّلال، ويكون حاله إما مؤمنا شاكرا لأنعم الله، مهتديا بهديه، وإما كافرا جاحدا للنعمة معرضا عن الطاعة، متنكّرا للهدي الإلهي. وهذا مثل قوله تعالى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10)[البلد: 90/ 10] . أي بيّنا له طريق الخير وطريق الشّر، فهو باختياره بعدئذ إما شقي أو سعيد.
(1) تنبع بحسب أمرهم.
(2)
منتشرا فاشيا في كل مكان. [.....]
(3)
المسكين: المحتاج، واليتيم: من لا أب له، والأسير: المأسور في أيدي الأعداء.
(4)
العبوس: شديد الهول، والقمطرير: الشديد الظلمة.
(5)
أعطاهم.
(6)
حسنا وفرحا.
وجزاء الفريقين بداهة مختلف في قانون العدل الدنيوي والإلهي. لقد هيّأنا وأعددنا لكل كافر بالله وبنعمه، سلاسل في أرجلهم يقادون بها إلى النار، وقيودا تشدّ بها أيديهم إلى أعناقهم، ونارا تستعر وتتوقد، لنعذبهم ونحرقهم بها.
وأما المؤمنون الأبرار الذين جمعوا بين الصدق والطاعة (التقوى) والإخلاص فهم يشربون شرابا ذا رائحة أو كأسا من خمر الجنة، الممزوجة بالكافور (وهو طيب معروف له رائحة جميلة) وهذا الشراب نابع من عين جارية عذبة يشرب منها عباد الله الصالحون، تنبع بأمرهم، ويجرونها إلى حيث أرادوا من منازلهم وقصورهم. وقوله تعالى: عَيْناً بدل من قوله تعالى: كافُوراً أو مفعول به لفعل (يشربون) أي يشربون ماء هذه العين من كأس عطرة كالكافور.
وأسباب ثواب الأبرار ثلاثة أشياء أو خصال ثلاث: هي الوفاء بالواجب، وخوفهم الحساب، وتخلّقهم بالخلق الفاضل كإطعام الطعام للمحتاجين.
1-
2- أنهم يوفون بالنّذور التي التزموها وأوجبوها على أنفسهم، تقرّبا إلى الله تعالى. ويتركون المحرّمات التي نهى الله عنها، خوفا من عذاب يوم القيامة، الذي تكون شدائده وأهواله منتشرة في كل جهة، وعامة على الناس، إلا من رحم الله.
فقوله: يَوْماً كانَ شَرُّهُ أي يوم القيامة الذي كان ضرره متّصلا شائعا كاستطارة الفجر.
3-
ويطعمون الطّعام في حال محبّتهم إياه لمحتاج فقير عاجز عن الكسب، وليتيم حزين فقد أباه، ولأسير مأسور عند الأعداء. وخصّ الطعام بالذكر لكونه إنقاذا للحياة، وإصلاحا للإنسان. قال القرطبي: والصحيح أن الآية نزلت في جميع الأبرار، ومن فعل فعلا حسنا، فهي عامة.
وهم في حال إطعام الطعام لهؤلاء يقولون وينوون: إنما نطعمكم هذا الطعام