الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يعذب أو يفني بما به البقاء والوجود، من عناصر الحياة الأربعة: وهي التراب والماء والهواء والنار، فعذب الله قوم لوط بالتراب، وعذّب قوم نوح وقوم فرعون بالماء أو الإغراق في البحر، وعذب قوم عاد بالريح الشديدة العاتية (الهواء) وعذب قبيلة ثمود بالنار الصاعقة النازلة من السماء، ولا يقتصر الأمر على هذه النماذج، فالله قادر على كل شيء، وابتكار أصناف أخرى من العذاب، ردعا للظالمين، وتمكينا لهم من التوبة والعدول عن موجبات العذاب.
وهكذا حكم الله وسنته مع جميع الأمم والأقوام والأفراد والجماعات، ولن تجد لسنة الله تبديلا أو تحويلا.
إثبات التوحيد وإنذار المكذبين
بعد بيان مصائر الأقوام الغابرين المكذبين برسالات رسلهم، والمنكرين وحدانية الله تعالى، أورد الله سبحانه بعض الأدلة القاطعة الدالة على توحيده وقدرته، وأنذر المشركين المعاندين في بطاح مكة وما حولها من عبدة الأصنام، حتى لا ينالهم مثل عذاب من تقدمهم، وكأن التكذيب للرسل شيء موصول بين الناس، فإذا أرادوا الخير لأنفسهم والنجاة من مثل ذلك العذاب المتقدم، فليس عليهم إلا الإقرار بوجود الله ووحدانية الذات الإلهية، وعبادته وحده، فإن أصروا على موقفهم، فإن العذاب واقع بهم حتما، كما جاء في الآيات الآتية:
[سورة الذاريات (51) : الآيات 47 الى 60]
وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)
كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ (56)
ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
«1» «2» «3»
(1) بقوة ومقدرة.
(2)
لقادرون على خلقها وخلق غيرها. [.....]
(3)
فروا إلى ثواب الله ورضاه بتوحيده وعبادته.
«1» «2» «3» [الذاريات: 51/ 47- 60] .
لقد بنينا السماء بقوة ومقدرة، وإنا لذوو قدوة وسعة على خلقها وخلق غيرها، فنحن قادرون، لا نعجز عن ذلك، ولا يمسنا تعب، فقوله: لَمُوسِعُونَ نوسع الأشياء قوة وقدرة.
والأرض مهدناها وبسطناها كالفراش، لصلاحية العيش عليها والاستقرار فيها، فنعم الماهدون، أي الباسطون الموطئون، نحن جعلناها مهدا لأهلها ومترعة بالخيرات على سطحها وجوفها.
وأوجدنا من جميع المخلوقات صنفين: ذكرا وأنثى، مصطحبين متلازمين، وهذا إشارة إلى المتضادات والمتقابلات من الأشياء كالليل والنهار، والشقاوة والسعادة، والهدى والضلال، والسماء والأرض، والسواد والبياض، والصحة والمرض، والكفر والإيمان، ونحو هذا. وهذا أدل على القدرة التي توجد الضدين، بخلاف ما يفعل بطبعه فعلا واحدا كالتسخين والتبريد. خلقنا هذه الأصناف المتلازمة، على هذا النحو لتعلموا وتتذكروا أن الخالق واحد لا شريك له. وكلمة (لعلكم) بحسب خلق البشر وعرفهم.
(1) متجاوزون الحد في الظلم.
(2)
نصيبا من العذاب.
(3)
هلاك لهم وشدة عذاب.
فالجئوا إلى أمر الله، بالدخول في الإيمان وطاعة الله تعالى، فإني لكم منذر واضح الإنذار، ومخوّف من عذابه وعقابه. ولا تشركوا مع الله إلها آخر سواه، فإن الإله المعبود بحق: هو واحد، ولا تصلح العبادة لغيره.
وعبر الله تعالى عن الأمر بالإيمان والطاعة بلفظ الفرار، لينبه على أن وراء الناس عقابا وعذابا وأمرا، حقه أن يفر منه، فجمعت لفظة (فروا) بين التحذير والاستدعاء.
ثم نهى الله تعالى عن عبادة الأصنام والشياطين، وكل مدعو من دون الله تعالى، وفائدة تكرار قوله تعالى: إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ الإبلاغ وهزّ النفس وتحكيم التحذير.
وكما كذّبك قومك من العرب أيها الرسول، ووصفوك بالسحر أو الجنون، فعلت الأمم المتقدمة التي كذبت رسلها، فهذا شأن الأمم في القديم، ولست أنت وحدك الذي كذّب.
ومن العجب كأن أفراد الأمم أوصى أولهم آخرهم بالتكذيب، وتواطؤوا عليه، والواقع أنهم لم يتواصوا بذلك لتباعد زمانهم، لكنهم قوم طغاة، جمعهم الطغيان:
مجاوزة الحد في الكفر. وهذا توقيف وتعجيب من توطؤ نفوس الكفرة في تكذيب الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام، مع تباعد أزمانهم، لكنهم فعلوا فعلا كأنه فعل من تواصى. والعلة في ذلك أن جميعهم طاغ، والطاغي: المستعلي في الأرض المفسد العاتي على الله تعالى.
فأعرض عنهم أيها الرسول، وكفّ عن جدالهم، فقد فعلت ما أمرك الله به، وبلّغت الرسالة، فما أنت بملوم عند الله بعد هذا؟ وليس عليك إلا البلاغ.
أخرج ابن منيع وابن راهويه والهيثم بن كليب في مسانيدهم عن علي رضي الله
عنه قال: لما نزلت فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) لم يبق منا أحد إلا أيقن بالهلكة، إذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتولى عنهم، فنزلت وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ فطابت أنفسنا، أو فسّروا بذلك.
وغاية إيجاد الخلق: العبادة، فما خلقت الإنس والجن إلا للعبادة، ولمعرفتي، لا لاحتياجي إليهم. والغاية من هذا الخلق سامية، فلا أريد من خلقهم جلب نفع لي، ولا دفع ضرر عني، ولا أريد منهم إطعامي، على عادتهم، إن الله هو واسع الرزق، يرزق جميع مخلوقاته، وهو ذو القوة والقدرة الهائلة، والشديد القوة. وبعبارة أخرى:
ما خلقت الجن والإنس إلا لآمرهم بعبادتي، وليقرّوا لي بالعبودية.
ثم هدد الله مشركي مكة وأمثالهم على وثنيتهم، فإن للظالمين أنفسهم بالكفر والشرك وتكذيب الرسول، نصيبا من العذاب، مثل عذاب أمثالهم القدامى، فلا يطلبوا مني تعجيل العذاب لهم، فإن حظهم من العذاب آت لا ريب فيه.
فهلاك وشدة عذاب: للكافرين في يوم القيامة، الذي كانوا يوعدون به.