الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إن هذه البيعة تعد وقفة مشرفة، وتضحية بالغة، وتصميما عاليا من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، لتحقيق أعظم الغايات، لذا كان هذا الموقف مما يغبطون عليه، وقد أكرمهم الله تعالى بهذا الرضوان الإلهي على مدى الدهر، وجعله قرآنا يتلى، وأنموذجا عظيما للأبطال والشجعان، في سجلات اللقاءات والإعداد للمعارك الفاصلة الخالدة.
أوضاع المتخلفين عن الحديبية
تخلف عن الذهاب مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرته يوم الحديبية قوم من الأعراب «1» : هم جهينة ومزينة ومن كان حول المدينة من القبائل وهم غفار وأشجع والدّليل، رأوا أنه يستقبل عدوا عظيما من قريش وثقيف وكنانة والقبائل المجاورة وهم الأحابيش، ولم يكن الإيمان قد تمكن من قلوبهم، وقالوا: لن يرجع محمد ولا أصحابه من هذه السفرة، ففضحهم الله تعالى في الآيات الآتية، وأعلم محمدا صلى الله عليه وسلم باعتذارهم في الظاهر قبل أن يصل إليهم، وبطلبهم المشاركة في وقعة خيبر وغنائمها، ودعوتهم إلى قتال قوم أولي بأس شديد. قال الله تعالى:
[سورة الفتح (48) : الآيات 11 الى 17]
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَاّ قَلِيلاً (15)
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17)
«2» «3»
(1) قال الرّمّاني: لا يقال أعرابي إلا لأهل البوادي خاصة.
(2)
هم المتخلفون عن صحبة النبي.
(3)
أي هلكى عند الله بسبب هذا الظن الفاسد.
[الفتح: 48/ 11- 17] .
هذه أخبار أنبّأ الله تعالى بها نبيه قبل وقوعها، أولها اعتذار المتخلفين عن الذهاب معه في عمرته يوم الحديبية، فإنهم سيقولون له بعد عودته: شغلتنا الأموال والأهلون، فاستغفر لنا، لكنهم لم يصدقوا في هذا الاعتذار، وإنما قالوا ذلك بألسنتهم في الظاهر، وبما لا يعبر عن حقيقة نواياهم وقلوبهم، في أن محمدا وصحبه سينهزمون أمام قريش وثقيف والقبائل المجاورة لمكة وهم الأحابيش، فقل أيها النبي لهم: من يحمي أموالكم وأهليكم إن أراد الله بكم سوءا، أو أراد بكم نفعا، ثم رد الله عليهم بقوله: بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً.
ثم فسر لهم علة تخلفهم بقوله: بَلْ ظَنَنْتُمْ أي لم يكن تخلفكم تخلف معذور، بل ظننتم أنه لن يعود الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه إلى أهليهم وأوطانهم أبدا، وأن العدو سيقتلهم، وزين الشيطان ذلك الظن في قلوبكم، فقبلتموه، وظننتم أن الله تعالى لن ينصر رسوله، وكنتم قوما هلكى أو هالكين عند الله تعالى، بسبب فساد هذا الاعتقاد.
ثم أخبر الله تعالى عن عقاب أهل الكفر: وهو أن من لم يصدّق بالله تعالى ورسوله، ولم يخلص عمله لربه، كما صنع هؤلاء المتخلفون عن الحديبية، فجزاؤهم ما أعده الله لهم من عذاب السعير المتلظية بهم.
وقدرة الله شاملة، فهو مالك السماوات والأرض، وسلطانه مطلق فيهما، يتصرف فيهما كيف يشاء، يغفر لمن شاء مغفرة ذنوبه، ويعذب من أراد تعذيبه على كفره وعصيانه، وكان الله وما يزال غفورا لذنوب عباده التائبين رحيما يرحم جميع خلقه.
وسيقول لك أيها النبي هؤلاء الأعراب المتخلفون عنك في عمرة الحديبية: إذا سرتم إلى خيبر، وظفرتم بمغانمها: اتركونا نتبعكم في السير، ونشهد معكم الموقعة، وهذا دليل آخر على كذبهم في اعتذارهم بعد كشف أمرهم: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ إنهم يريدون في شأن غنائم خيبر تبديل حكم الله ووعده لأهل الحديبية، بتخصيصهم بمغانم خيبر، فقد أمر الله رسوله ألا يسير معه إلى خيبر أحد من غير أهل الحديبية، ووعدهم بمغانمها وحدهم، فقوله: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ معناه: أن يغيروا وعده لأهل الحديبية بغنيمة خيبر.
فقل أيها النبي لهم: لن تسيروا معنا إلى خيبر، وقد قال الله ذلك سابقا: وهو أن غنائم خيبر لمن شهد الحديبية خاصة، لا نصيب فيها لغيرهم. وحينئذ سيقول المخلفون عند سماع هذا القول: بل إنكم تحسدوننا في المشاركة في الغنيمة، فلذا لم تأذنوا لنا في الخروج، فرد الله عليهم: ليس الأمر أمر حسد كما تزعمون، بل إنكم لا تفهمون إلا فهما قليلا، أي لا تفهمون شيئا من أحكام الدين: وهو جعل القتال من أجل الله تعالى، والإخلاص فيه.
ومع ذلك، ميدان القتال متسع، فإنكم إن أردتم صدق الانتماء للمسلمين، فإنكم ستطالبون إلى قتال قوم أولي شدة وبأس، تخيرونهم بين أحد أمرين: إما القتال وإما الإسلام، لا ثالث لهما. وهذا يشمل مشركي العرب والمرتدين. قال عكرمة وابن جبير وقتادة: هم هوازن ومن حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حنين ثم وعد الله وأوعد،