الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والتسليم، وحسن الظن والثقة بالله، ووجوب الاعتماد على الله بعد اتّخاذ الأسباب، والقيام بالأعمال المطلوبة شرعا.
فتنة الأزواج والأولاد والأموال
حذّر الله تعالى من فتنة الأزواج والأموال والأولاد الذين يكونون سببا في التقصير بالطاعة، والتورّط أحيانا في المعصية، وناسب ذلك أن يأمر الله بالتقوى والإنفاق في سبيل الله، لأن ذلك هو رأس مال الإنسان، وسبيل إسعاده في الدنيا والآخرة، فلكل مرض علاج، وعلاج الانحراف المبادرة إلى الاستقامة، والتزام جادة الامتثال والطاعة، كما توضح هذه الآيات الآتية:
[سورة التغابن (64) : الآيات 14 الى 18]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
«1» «2» «3» «4» [التّغابن: 64/ 14- 18] .
أخرج الترمذي والحاكم وابن جرير عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ في قوم من أهل مكة، أسلموا، فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم (أن يهاجروا) ، فأتوا المدينة، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأوا الناس قد فقهوا، فهمّوا أن يعاقبوهم، فأنزل الله: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا
(1) اختبار لكم.
(2)
الشح: البخل مع الحرص.
(3)
أي تتصدقوا.
(4)
بإخلاص وطيب نفس من غير ربا. [.....]
الآية، أي إن سبب الآية أن قوما آمنوا بالله تعالى، وثبّطهم أزواجهم وأولادهم عن الهجرة، فلم يهاجروا إلا بعد مدة، فوجدوا غيرهم قد تفقّه في الدين، فندموا وأسفوا وهموا بمعاقبة أزواجهم وأولادهم يا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله، إن بعض أزواجكم وأولادكم عدو لكم عداوة أخروية، في غير صالحكم، يشغلونكم عن الخير والعمل الصالح المفيد لكم في الآخرة، فاحذروا أن تؤثروا حبّهم وشفقتكم عليهم على طاعة الله تعالى. ثم رغّب الله تعالى بالعفو عنهم، فإن تعفوا عن ذنوب أزواجكم وأولادكم، وتصفحوا بترك اللوم عليها، وتستروا الأخطاء تمهيدا لمعذرتهم فيها، فالله واسع المغفرة لذنوب عباده، شامل الرحمة بهم، يعامل الناس بأحسن مما عملوا.
ثم أخبر الله تعالى أن الأموال والأولاد فتنة أي موضع اختبار ومحنة، تشغل المرء عن مراشده، وتحمله على إيثار الدنيا على الآخرة، والوقوع فيما لا يحمد عليه، ومنه
قوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أبو يعلى في مسنده-: «الولد مبخلة مجبنة» .
والله عنده الثواب الجليل لمن آثر طاعة الله تعالى، وترك التورّط في المعصية، بسبب محبة ولده وماله. وهذا تزهيد في الدنيا، وترغيب في الآخرة.
أخرج أحمد والترمذي والحاكم والطبراني عن كعب بن عياض قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن لكل أمّة فتنة، وإن فتنة أمّتي المال» .
والتخلّص من الفتنة: بالتقوى والطاعة، فأمر الله بالتقوى: وهي التزام الأوامر واجتناب النواهي، بقدر الطاقة والجهد، وأمر بالاستماع للأوامر وإطاعتها، والإنفاق من الأموال التي رزق الله بها العباد في وجوه الخير. وقوله: خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ منصوب بقوله: أَنْفِقُوا. والخير هنا: المال، أو نعت لمصدر محذوف تقديره: إنفاقا خيرا. ففي الإنفاق خير للأنفس في الدنيا والآخرة.
ومن وقاه الله وحفظه من داء الشح (البخل مع الحرص) فأنفق في سبيل الله ووجوه الخير، فأولئك هم الفائزون بما يطلبون.
أخرج البخاري في تاريخه وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «شرّ ما في الرجل: شحّ هالع، وجبن خالع» .
أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ «1» [آل عمران: 3/ 102] اشتدّ على القوم العمل، فقاموا حتى ورمت عراقيبهم، وتقرّحت جباههم، فأنزل الله تخفيفا على المسلمين: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ.
جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه» .
ثم أكّد الله تعالى الحث على النفقة، بقوله: فيما معناه: إن تتصدقوا صدقة حسنة بإخلاص وطيب نفس، يضاعف الله الثواب لكم أضعافا مضاعفة، ويغفر لكم أيضا ذنوبكم، والله يجزي الكثير على القليل، تام الشكر، أي يعطي على الطاعة الجزيل بالقليل، واسع الحلم، أي لا يعاجل بالعقوبة على المعصية. وقوله: شَكُورٌ إخبار بمجازاته تعالى على الشيء، وأنه يحط به عمن شاء عظائم الأمور.
ثم رغّب الله ترغيبا زائدا بالنفقة، وهو أن الله تعالى شامل العلم بما غاب عنكم وما حضر، غالب قاهر، ذو حكمة بالغة، يضع الأمور في مواضعها الصحيحة. إن التحذير من فتنة المال والتعلّق به، ثم توالي تأكيدات ثلاثة على الإنفاق بأساليب متنوعة، ترويض على اقتلاع داء البخل من النفس، وحمل للنفس على ادّخار ثواب النفقة في سبيل الخير والمعروف عند الله تعالى الذي لا تضيع عنده الودائع.
(1) أي فيما استطعتم، إذ لا يطيع أحد فوق طاقته واستطاعته.