الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نعم الله على داود عليه السلام وفصله في الخصومة بين رجلين
توالت الأخبار وإيراد قصص الأنبياء السابقين في القرآن الكريم، لتذكّر أحوالهم، والتأسي بهم في صبرهم على أذى أقوامهم، محتسبين الأجر عند الله تعالى. وكان الخطاب فيها للنبي صلى الله عليه وسلم ليتأسى بهم، ويهوّن عليه إعراض قومه عن دعوته، فتلك هي سيرة الأقوام الماضين مع رسلهم، وفي تلك القصص بيان أنواع النعم الإلهية التي أنعم الله بها على أولئك الأنبياء في صراعهم مع أقوامهم، وصبرهم عليهم، ثم نجاتهم وتدمير أعدائهم.
وهذه قصة نبي الله داود عليه السلام، وهي قصة مثيرة للعجب والعبرة، قال الله تعالى:
[سورة ص (38) : الآيات 17 الى 26]
اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20) وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21)
إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (24) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26)
«1» «2» «3» «4» [ص: 38/ 17- 26] .
(1) أي صاحب القوة والجلد.
(2)
أي كثير التوبة والرجوع إلى الله.
(3)
أي مجموعة.
(4)
أي الشركاء.
تضمنت الآيات بيان عشر صفات لداود عليه السلام أنعم الله بها عليه، وهي:
اصبر أيها النبي محمد على ما يتقوله قومك من الأقاويل التي يريدون بها الاستخفاف، ولا تلتفت إليها، واذكر عبدنا داود ذا القوة في الدين والصّدع به، فتأسّ به وتأيد كما تأيد. والأيد: القوة، وهي في داود متضمنة قوة البدن وقوة الطاعة. وهو الأوّاب: الرجاع إلى طاعة الله تعالى في جميع أموره وشؤونه. وهو الصبور على طاعة الله تعالى.
وهو عبد الله محقّق معنى العبودية بمعنى التذلل والخضوع والانقياد والاجتهاد في الطاعة. وهذه أربع صفات، والخامسة والسادسة: أن الله تعالى سخر الجبال والطير معه وذللها، تسبح معه عند إشراق الشمس وآخر النهار.
والسابعة: جمع الطيور وجعلها مع الجبال مطيعة له، تسبح الله تبعا له، حال كون الطيور محبوسة في الهواء، فكلما سبّح داود جاوبته، وهذا يدل على أن داود عليه السلام كان حسن الترتيل، جميل الصوت.
والثامنة: قوة الملك، فقد قوينا ملكه وأيدناه بكل ما وهبناه إياه من قوة وجند ونعمة.
والتاسعة: إيتاء الحكمة، فإنا أعطيناه الفهم والعقل والفطنة وفهم الدين وجودة النظر، والعلم الذي لا ترده العقول، والعدل، وإتقان العمل والحكم السديد.
والعاشرة: حسن الفصل في الخصومات، فإنا ألهمناه حسن الفصل في القضاء بين الناس بالحق، وإصابته وفهمه، وإيجاز البيان، ومنها إيجاب اليمين على المدعى عليه، والبينة على المدعي، وكان إذا خاطب في مسألة، فصّل المعنى وأوضحه، لا يتلكأ، ولا يعجز عن البيان، ولا يعتريه ضعف، فكان كلامه عليه السلام فصلا.
ومن قضائه أنه تسلق عليه المحراب في يوم العبادة وفي غير يوم المحاكمة رجلان،
ففزع منهم، فقالا له: لا تخف، نحن متخاصمان جار بعضنا على بعض، فاحكم بيننا حكما عادلا، ولا تتجاوز الحق في الحكم ولا تبعد في الحكم، واهدنا أو أرشدنا إلى طريق الحق والعدل. وسواء الصراط: وسطه والواضح منه.
واستفتحت الآيات بالاستفهام: وَهَلْ أَتاكَ.. تعجبا من القصة وتفخيما لها. وعبر عن الاثنين بالجمع: تَسَوَّرُوا ودَخَلُوا وقالُوا على جهة التجوز في العبارة عن الاثنين، بلفظ الجمع. والمحراب: الموضع الأرفع من القصر أو المسجد، وهو موضع التعبد. وفزعه بسبب دخولهم من غير الباب ودون استئذان.
وموضوع الخصومة: إن هذا أخ لي في الدين والإنسانية، يملك تسعا وتسعين شاة، وأملك أنا شاة واحدة، فقال: ملّكنيها، وغلبني في المخاصمة والجدال، والحجة. والنعجة: أنثى الضأن. فقال داود عليه السلام بعد إقرار المدعى عليه بالدعوى: لقد ظلمك بهذا الطلب، وطمع عليك. وإن كثيرا من الشركاء في المال ليعتدي ويستطيل بعضهم على بعض، إلا من آمن بالله وخاف ربه، وعمل صالح الأعمال، وهؤلاء المؤمنون الصالحون قلة، وشعر داود وعلم أنما اختبرناه وامتحناه، بهذه الواقعة، فاستغفر ربه لذنبه وهو سوء ظنه بالخصمين، وأنهما أتيا لاغتياله، لوقوع اغتيالات في أنبياء بني إسرائيل، وخرّ ساجدا، وعبّر بالركوع عن السجود، لأن القصد منهما التعظيم، ورجع إلى الله بالتوبة من ذنبه.
والعرب تعبر بالظن عن المعلومات الناجمة من غير الحواس، ولا يستعمل الظن بمعنى اليقين التام البتّة، كما ذكر ابن عطية في تفسيره.
فغفر الله له سوء ظنه، لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين، وإن له عند ربه لقربى ومكانة رفيعة وحسن مرجع في الآخرة وهو الجنة.
يا داود إنا جعلناك حاكما بين الناس في الأرض، فاقض بين الناس بالعدل، ولا