الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفسير سورة الصّف
وحدة الصّف وتطابق القول مع العمل
نظّم الإسلام المجتمع تنظيما دقيقا على أسس متينة، وأخلاق ومبادئ رصينة، لتكون الأمة كتلة واحدة متراصّة، فأمر بوحدة الصّف في القتال، ومواجهة الأعداء، ودعا إلى العمل المطابق للقول، فلا يكون هناك ازدواج أو تنافر بين الكلمة وبين الفعل، لأن ظهور مثل هذه الظاهرة يهدم الثقة، ويزعزع بنية الأمة، ويشيع تصوّرا كئيبا على عدم الصدق في الإيمان وصحّة الاعتقاد، وضعف الفكر وانعدام التخطيط للمستقبل. وهذا ما حذّر منه القرآن الكريم في الآيات الآتية في مطلع سورة الصّف، التي هي مدنيّة على الصحيح عند جمهور العلماء:
[سورة الصف (61) : الآيات 1 الى 9]
بسم الله الرحمن الرحيم
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4)
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
«1» «2» «3» «4» «5» «6»
(1) المقت: أشد البغض.
(2)
صافين أنفسهم.
(3)
متراص متلائم الأجزاء.
(4)
مالوا عن الحق.
(5)
لما تقدمني من الكتب كالتوراة والزبور.
(6)
من أسماء النّبي صلى الله عليه وسلم، ومعناه: أنه أحمد الناس لربّه.
[الصّف: 61/ 1- 9] .
أخرج التّرمذي والحاكم وصححه والدارمي، عن عبد الله بن سلام قال: قعدنا نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتذاكرنا، فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحبّ إلى الله لعملناه، فأنزل الله: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ختمها.
المعنى: نزّه الله ومجّده لعظمته وقدرته ووحدانيته وجميع صفات كماله: جميع ما في السّماوات وما في الأرض، من العقلاء وغيرهم، وهو في سلطانه وقدرته القوي الغالب القاهر فوق عباده الذي لا يغالب، الحكيم في أفعاله وأقواله، وفي تدبيره خلقه وتصريف أمورهم وفي أفعاله كلها.
يا أيها المصدّقون بالله ورسوله، لأي شيء تقولون قولا وتخالفون عملا؟ وهذا إنكار شديد على كل من وعد وعدا أو قال قولا، ثم لا يفي به.
ثم ذمّ الله تعالى كل من يخالف فعله قوله: لقد عظم جرما أن تقولوا قولا، وتفعلون غيره، فإن خلف الوعد دليل على حبّ الذات فقط، وإهدار مصلحة الآخرين وكرامتهم ووقتهم. وكل من يقول ما لا يفعل فهو ممقوت مذموم كذوب غير مخلص. والمقت: البغض من أجل ذنب أو ريبة أو دناءة، يصنعها الممقوت.
ثم مدح الله تعالى الذين أقدموا على قتال عدوّهم صفّا واحدا، حيث ذكر أن الله يرضى عن المقاتلين المتّحدين صفا واحدا، وكتلة متراصّة لا تتزحزح من المواقع،
كأنهم بناء راسخ شامخ. وهذا تأكيد لمحبة الله للمقاتلين صفّا. ومحبة الله: هي ما يظهر عليهم من نصره وكرامته. والمحبة: صفة فعل، وليست بمعنى الإرادة، لأن الإرادة لا يصح أن يقع ما يخالفها، والمقاتلون على غير هذه الصفة كثيرون.
ثم ذكّر الله تعالى بمقالة موسى وعيسى حين كذّبهما القوم، ليكون ذلك ضرب مثل للمؤمنين الذين يقولون ما لا يفعلون، لأن التكذيب تصادم مع الواقع.
واذكر أيها الرسول لقومك خبر موسى عليه السلام حين قال لقومه بني إسرائيل:
يا قوم لم تلحقون الأذى بي بمخالفة ما آمركم به من الشرائع التي افترضها الله عليكم، أو لم تؤذونني بالشّتم والتعييب، وأنتم تعلمون يقينا صدقي فيما جئتكم به من الرسول، فلما زاغوا، أي تركوا الحقّ ولم يتبعوا نبيّهم، أمال الله قلوبهم عن الهدى، والله لا يوفّق للحق ولا يرشد للهداية القوم الكافرين الذين كفروا بأنبيائهم، وعصوا رسلهم. فاحذروا أيها المؤمنون أن يصيّركم العصيان وقول الباطل إلى مثل حالهم.
واذكر أيضا أيها النّبي لقومك خبر عيسى حين قال: يا بني إسرائيل، إني رسول الله إليكم بالإنجيل، لم آتكم بشيء يخالف التوراة، وإنما أؤيدها وأكملها، فكيف تعصونني؟ وإن التوراة بشّرت بي، وأنا مبشّر بمن بعدي: وهو الرسول العربي أحمد، أي أحمد الناس لربّه، وهو محمد عليه الصلاة والسلام، فلما جاء أحمد المبشّر به في الكتب المتقدمة بالمعجزات والأدلّة القاطعة، قال الكفار: هذا سحر واضح لا شك فيه.
أخرج البخاري ومسلم عن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن لي أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي (أي بعدي) وأنا العاقب» .
أي الآخر الآتي بعد الأنبياء.