الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفسير سورة الحاقّة
التخويف بيوم القيامة وجزاء المكذبين بها
القيامة أو الحاقّة أعظم وأخطر بكثير مما نتصور، وحينما كذبت أقوام بها كثمود وعاد وفرعون وقومه وقرى قوم لوط، دمّرهم الله تدميرا شديدا، جعل عبرة بالغة للأجيال الآتية من بعدهم. وهذا ما تحكيه لنا سورة الحاقّة المكّية بالإجماع، التي سمعها عمر رضي الله عنه من النّبي صلى الله عليه وسلم، فقال في أوائلها في نفسه: إنه لشاعر، كما تقول قريش، حتى بلغ إلى قوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) ثم مرّ حتى انتهى إلى آخر السورة فأدخل الله تعالى في قلبي الإسلام. وهذا مطلع هذه السورة:
[سورة الحاقة (69) : الآيات 1 الى 12]
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4)
فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9)
فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9»
(1) القيامة المتحققة الوقوع، وما مبتدأ، والحاقة الثانية خبرها، والجملة خبر الأولى.
(2)
القيامة التي تقرع القلوب بالإفزاع.
(3)
الواقعة التي جاوزت الحدّ في الشدة وهي الصيحة أو الرجفة.
(4)
بريح شديدة الصوت والبرد، شديدة القوة والعصف.
(5)
متتابعة.
(6)
موتى مطروحين على الأرض.
(7)
أصول نخيل ساقطة فارغة.
(8)
قرى قوم لوط.
(9)
بالخطإ الشديد الفاحش.
«1» «2» «3» «4» «5» [الحاقّة: 69/ 1- 12] .
البعث والقيامة، وما أدراك ما القيامة، وهي التي يتحقق فيها الوعد والوعيد، وسميت بالحاقّة لأن أمور الحساب مثبتة فيها، وحقّقت لكل عامل عمله، ومتحققة الوقوع من غير شك ولا ريب. وكلمة (الحاقّة) اسم فاعل من (حق الشيء يحق) إذا كان صحيح الوجود. وقوله: وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) مبالغة في أهوالها وصفاتها.
ونوع العقاب ببعض الأمم السابقة التي كذبت بيوم القيامة، تخويفا لأهل مكة وغيرهم: هو:
كذبت قبيلة ثمود قوم صالح وقبيلة عاد قوم هود بالقيامة التي هي القارعة التي تقرع الناس بأهوالها. فأما جماعة ثمود فأهلكوا هلاكا تامّا بالطاغية: وهي الصيحة أو الصاعقة أو الرجفة التي جاوزت الحدّ في الشدة. قال قتادة: الطاغية: معناه الصيحة التي خرجت عن حدّ كل صيحة. وهذا أولى الأقوال وأصوبها.
وأما قبيلة عاد قوم هود، فأهلكوا هلاكا ساحقا بريح شديدة الصوت والبرد، قاسية شديدة الهبوب، جاوزت الحدّ، لشدة هولها، وطول زمنها وشدة بردها، سلّطها الله عليهم طوال مدة سبع ليال وثمانية أيام متتابعة، لا تنقطع ولا تهدأ، وكانت تقتلهم بالحجارة، تحسمهم حسوما، أي تفنيهم وتذهبهم. فتشاهد إن حضرت أولئك القوم في ديارهم موتى مصروعين على الأرض، كأنهم أصول نخل ساقطة أو بالية، لم يبق الله منهم أحدا، فهل تحس منهم من أحد من بقاياهم؟ بل
(1) زائدة في الشدة.
(2)
جاوز الحدّ المعتاد.
(3)
السفينة التي تجري في الماء.
(4)
عظة.
(5)
حافظة لما تسمع. [.....]
بادوا عن آخرهم، ولا خلف لهم.
ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «نصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدّبور» .
وقوله: مِنْ باقِيَةٍ إما مبالغة كعلّامة ونسّابة، والمعنى: من باق، أو من فئة باقية، وإما مصدر، أي من بقاء.
وأتى بالفعلة الخاطئة الطاغية فرعون ومن تقدّمه من الأمم الكافرة، وأهل المنقلبات (المؤتفكات) قرى قوم لوط، وخطؤهم: الشّرك والمعاصي الكبائر.
فعصت كل أمة من هؤلاء رسولها المرسل إليها، فأهلكهم الله ودمّرهم، وأخذهم أخذة أليمة شديدة، زائدة على عقوبات سائر الأمم الأخرى. و (الرّابية) النامية التي قد عظمت جدا.
ثم عدد الله تعالى نعمته على الناس في قصة الطوفان.
إننا لما تجاوز الماء حدّه وارتفع بإذن الله، وجاء الطوفان في زمن نوح عليه السلام، حملنا آباءكم المؤمنين وأنتم في أصلابهم، في السفينة التي تجري في الماء، لتتحقق لهم النجاة من الغرق، ولنجعل نجاة المؤمنين، وإغراق الكافرين عبرة وعظة، تستدلون بها على عظيم قدرة الله، وبديع صنعه، وشدة انتقامه، ولتحفظها بعد سماعها أذن حافظة لما سمعت ووعت. فقوله تعالى: لِنَجْعَلَها
ووَ تَعِيَها
عائد إلى الواقعة المعلومة، وهي نجاة المؤمنين، وإغراق الكافرين، أي: من تذكرها ازدجر.
أخرج ابن أبي حاتم وابن جرير عن مكحول مرسلا قال: لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سألت ربّي أن يجعلها أذن عليّ» ، قال مكحول: فكان علي يقول: ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط، فنسيته.
هذا أنموذج من أوصاف العقاب الأليم الذي أوقعه الله ببعض الأقوام الغابرة، اتصفت بأقسى ألوان الشدة في الدنيا، لتكون درسا بليغا، وعظة بالغة للأقوام