الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قومه، وفتنتهم المؤمنين وغير ذلك، وتثبيته على أذى الكفرة، وفي ذلك عبرة ووعيد لكفار قريش بتشبيه أمرهم بأمر قوم نوح، ولتأكيد ما جاء في مطلع السورة من جعل الابتلاء سنة الحياة.
وهذه آيات توجز بيان مهمة نوح عليه السلام أطول الأنبياء عمرا، وأول رسول للبشرية، وأبي البشر الثاني بعد آدم عليه السلام، قال الله تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 14 الى 15]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَاّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15)
[العنكبوت: 29/ 14- 15] .
إن إيراد قصص الأنبياء السابقين على هذا النحو من التأكيد والتشديد، ذو مغزى عميق ودلالة واضحة، فمغزاه العبرة والعظة، ودلالته الإنذار والتحذير لكفار قريش وأمثالهم، حين كذبوا رسولهم محمدا صلى الله عليه وسلم بأنهم سيتعرّضون لعقاب مماثل لمن تقدّمهم من الأقوام الغابرة الذين كذّبوا رسلهم، فجاءهم عذاب الاستئصال. وتظهر صورة هذا التأكيد في العرض والبيان بقسم من الله تعالى على ما جاء في قصّة كل نبي.
وهنا يقول الله تعالى ما معناه: وتالله لقد أرسلنا نوحا عليه السلام إلى قومه الكافرين العصاة، عبدة الأصنام، فبقي فيهم يدعوهم إلى توحيد الله ألف سنة إلا خمسين عاما، فلم يؤمن بدعوته إلا قليل من الناس كما قال تعالى: وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود: 11/ 40] ، وكذبوه وآذوه، وأفحشوا له القول، فصبر نوح عليه السلام على أذاهم، ومضى زمان طويل، وهو يدعوهم إلى أن يتركوا عبادة الأصنام، ويؤمنوا بالله الواحد الأحد، وبيوم القيامة والحساب، فلم يفلح، ولم يستجيبوا لدعوته، وأمعنوا في الإعراض والاستكبار، كما جاء في آية أخرى: قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً [نوح: 71/ 21] .
ولما يئس نوح عليه السلام من إيمان قومه، دعا عليهم بوحي من الله تعالى، فقال: وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26)[نوح: 71/ 26] . فألهمه الله صنع سفينة ليركبها مع المؤمنين، وترك الكفار في العذاب.
وجاء الأمر الإلهي بالإغراق بعد هذه المدة الطويلة من الصبر والإنذار، فأخذهم الطوفان، وهم ظالمون أنفسهم بالكفر، وأنجى الله نوحا ومن آمن معه في الفلك المشحون، التي مخرت عباب البحر، حتى استقرّت على جبل الجودي، وغرق الكفار جميعا بطوفان الماء، وجعل الله سفينة نوح آية وعبرة للعالمين، كما جاء في آية أخرى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12)[الحاقّة: 69/ 11- 12] .
وضمير الفعل: وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ يعود على السفينة المذكورة. وأما الغرق ففي رأي فرقة مقصور على قوم نوح، وقال الجمهور: إنما غرقت المعمورة كلها، أي العالم القديم، والرأي الثاني هو الراجح بسبب إعراض الناس كلهم عنه، أي عن دعوة نوح. فليتّعظ كفار قريش وأمثالهم بهذه العقوبة الشديدة التي يمكن أن تصيبهم، إذا ظلّوا رافضين لدعوة النّبي محمد صلى الله عليه وسلم، مكذّبين له، مفترين على دعوته وعلى القرآن وعلى المؤمنين، فإن العاقل من اتّعظ بغيره.
إن قصة السفينة عبرة وعلامة على قدرة الله تعالى في شدة بطشه، وعقابه عتاة أهل الضلال والتمرد والعصيان، كما أنها نعمة خارقة، في وقت لم يعرف الناس ركوب البحر ولا وجود السّفن عابرة المياه، فقد نجى الله تعالى نوحا ومن آمن معه، حفاظا على النوع البشري من الانقراض العددي والنوعي، حيث تناسل الناس من ذرّية هؤلاء المؤمنين، وبدأت حياة جديدة تظهر فيها مآس وألوان أخرى من الفسوق والعصيان، والكفر والطغيان، فتجدد العقاب في أمم أخرى بعد إرسال رسل آخرين