الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والودّ واحترام الآخرين. وكل ذلك لإشعار المسلمين أنهم في الواقع إخوة أمناء وأحبّاء، وصف واحد أمام الأعداء، حديثهم واضح لا غش فيه، ومجلسهم قائم على المساواة وتبادل الاحترام، وكان في صدر الإسلام الأمر بالتصدّق قبل مكالمة النّبي صلى الله عليه وسلم توقيرا له وتعظيما، ثم رفع ذلك، دفعا للحرج وتيسيرا على جميع المؤمنين.
وهذا مقرر في الآيات الآتية:
[سورة المجادلة (58) : الآيات 11 الى 13]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13)
«1» «2» «3» [المجادلة: 58/ 11- 13] .
قال زيد بن أسلم وقتادة: نزلت (آية الأمر بالتّفسح) بسبب تضايق الناس في مجلس النّبي صلى الله عليه وسلم وذلك أنهم كانوا يتنافسون في القرب منه وسماع كلامه والنظر إليه، فيأتي الرجل الذي له الحق والسّن والقدم (التقدم) في الإسلام، فلا يجد مكانا، فنزلت الآية بسبب ذلك.
يا أيها المصدّقون بالله ورسوله، إذا طلب منكم التوسع في المواضع أو المجالس، فليفسح بعضكم لبعض، وليوسع أحدكم للآخر، يوسع الله لكم في جنته ورحمته.
فالسّنة المندوب إليها هي التفسّح،
أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي
(1) توسّعوا فيها يوسّع الله عليكم في رحمته وجنّته.
(2)
انهضوا أو ارتفعوا وتنحّوا عن مواضعكم للتوسعة على القادمين.
(3)
أخفتم الفقر من ذلك؟
والدارمي وأحمد، عن أبي هريرة: أن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقم الرجل الرجل من مجلسه، فيجلس فيه، ولكن تفسّحوا وتوسّعوا» .
فيكون القيام من المجلس منهيّا عنه، لهذا الحديث. أما القيام إجلالا للقادم فجائز بالحديث الذي
أخرجه البخاري وأبو داود وأحمد، عن أبي أمامة بن سهل: أن النّبي صلى الله عليه وسلم حين أقبل سعد بن معاذ رضي الله عنه قال: «قوموا إلى سيدكم» .
وواجب على المعظّم ألا يحبّ ذلك ويأخذ الناس به، لحديث أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن معاوية:«من أحبّ أن يتمثّل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار» .
وإذا قيل لكم ارتفعوا وقوموا من المجلس، فافعلوا ذلك، وقد نزلت الآية آمرة بالقيام من المجلس، متى فهم ذلك بقول أو فعل، تمكينا من جلوس آخرين.
أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل: أنها نزلت يوم الجمعة، وقد جاء ناس من أهل بدر، وفي المكان ضيق، فلم يفسح لهم، فقاموا على أرجلهم، فأقام صلى الله عليه وسلم نفرا بعدّتهم، وأجلسهم مكانهم، فكره أولئك النفر ذلك، فنزلت آية وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا.
وعلّة الأمر بالقيام للآخرين، وهو جواب الأمر بالنشوز أو النهوض: هو أن الله تعالى يرفع منازل المؤمنين في الدنيا والآخرة، بتوفير نصيبهم فيها، ويرفع أيضا بصفة خاصة منازل العلماء درجات عالية، في الكرامة في الدنيا، والثواب في الآخرة، فمن جمع الإيمان والعمل رفعه الله بهما درجات، ومنه الرفع في المجالس، والله خبير بمن يستحق ذلك وبمن لا يستحقه، مطّلع على أحوال ونوايا جميع عباده، ومجازيهم عليها بما يناسب، من خير أو شرّ.
ثم أمر الله تعالى بالصدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقّوا عليه، فأراد
الله أن يخفف عن نبيّه، فأنزل: إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً
فلما نزلت، صبر كثير من الناس، وكفّوا عن المسألة، فأنزل الله بعد ذلك: أَأَشْفَقْتُمْ الآية.
والمعنى: يا أيها الذين صدّقوا بوجود الله وتوحيده، وصدقوا برسالة رسوله، إذا أردتم مناجاة النّبي صلى الله عليه وسلم أو مساررته في أمر من أموركم، فقدّموا قبل المناجاة صدقة، تصدّقوا بها، لتعظيم النّبي صلى الله عليه وسلم، والتّخفيف عنه، ونفع الفقراء. ذلك، أي تقديم الصدقة قبل المناجاة، خير لكم، لما فيه من طاعة الله وامتثال أمره، والثواب الأخروي، وأزكى لنفوسكم بتطهيرها من الشّح والبخل وحبّ المال، ونفع الفقراء، فإن لم يجد أحدكم تلك الصدقة، فلا حرج عليكم بالمناجاة بدون صدقة، والله واسع المغفرة والرحمة لأهل الطاعة.
ثم رفع الله تعالى الحكم السابق بقوله: أَأَشْفَقْتُمْ أي أخفتم الفقر من تقديم الصدقات قبل مناجاة نبيّكم صلى الله عليه وسلم، قال مقاتل: إنما كان ذلك عشر ليال، ثم نسخ، بما يلي.
ومعناه: وحين لم تفعلوا ما أمرتكم به من الصدقة قبل النجوى لثقلها عليكم، ورخّص الله لكم في الترك والمناجاة من غير صدقة، فثابروا واثبتوا على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وإطاعة الله ورسوله، والله خبير محيط بأعمالكم، فمجازيكم عليها.
وليس في الآية ما يدلّ على وقوع تقصير من الصحابة في تقديم الصدقة، فقد يكون عدم الفعل، لأنهم لم يناجوا. ولا يدلّ قوله:«فتاب عليكم» على أنهم قصّروا، لأن المعنى أنه تاب عليهم برفع التكليف عنهم تخفيفا، ومثل هذا يمكن التعبير عنه بالتوبة.