الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إن هذه النعم المادية لا شك في أهميتها والحاجة إليها، لكن أعظم نعمة وأول نعمة وأخلدها وأجدها هي نعمة القرآن، كما افتتحت بها السورة، وكما وصف هذا الكتاب في آية أخرى مثل: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 16/ 89] . ومثل: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً (82)[الإسراء: 17/ 82] .
نعم إلهية أخرى
يذكّرنا الله تعالى بنعمه على الدوام، ليدلنا على قدرته العظمى ووحدانيته الخالدة، فهو سبحانه خلق الإنسان في أصله من الطين اليابس، وخلق أصل الجن من النار، وهو رب المشارق والمغارب، وهو الذي حجز بين البحرين: العذب والملح، وسيّر السفن في أعالي البحار، وأعد كل ذلك لخير الإنسان ما دام في الحياة، ثم يفنى كل شيء، ويبقى الله ذو الجلال والعظمة والإكرام. وهذا ما نصت عليه الآيات الآتية:
[سورة الرحمن (55) : الآيات 14 الى 28]
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18)
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23)
وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28)
«1» «2» «3» «4» «5» [الرحمن: 55/ 14- 28] .
(1) هو الطين اليابس الذي له صلصلة أي صوت.
(2)
لهب خالص لا دخان فيه. [.....]
(3)
أرسلهما.
(4)
حاجز بين الأشياء.
(5)
السفن الرافعات الشرع في البحر لتتحرك بالهواء كالجبال ونحوها من المرتفعات.
من دلائل القدرة الإلهية: أن الله تعالى خلق أصل الإنسان وهو آدم من طين يابس له صلصلة، أي صوت مثل الخزف: وهو الطين المطبوخ بالنار، ليتماسك ويصير صلبا.
وخلق الله تعالى أصل الجن: وهو إبليس من طرف النار، أي من لهب خالص لا دخان فيه، فبأي نعم الله يا معشر الثقلين: الإنس والجن تكذبان أو تنكران هذا الواقع المشاهد؟
والله تعالى رب مشرقي الشمس في الصيف والشتاء، ورب مغربي الشمس في الصيف والشتاء، وبهما تتكون الفصول الأربعة، وتختلف أحوال المناخ من حر وبرد واعتدال. فبأي نعم الله هذه تكذبان أو تنكران؟! وخص الله تعالى ذكر المشرقين والمغربين بالتشريف في إضافة الرب إليهما، لعظمهما في المخلوقات، وأنهما طرفا آية عظيمة وعبرة، وهي: الشمس وجريها. ومتى ذكر المشرق والمغرب: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [المزمل: 73/ 9] فيراد منهما جنس المشرق والمغرب في الجملة، ومتى ذكر المشارق والمغارب فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ [المعارج: 70/ 40] فيراد به مشارق كل يوم ومغاربه، ومتى ذكر المشرقان والمغربان كما هنا فيراد بهما نهايتا المشارق والمغارب، لأن ذكر نهايتي الشيء ذكر لجميعه. وقال مجاهد: هو مشرق الصيف ومغربه، ومشرق الشتاء ومغربه. والله تعالى أرسل البحرين، والمراد بهما نوعا الماء العذب والأجاج، أي خلطهما في الأرض وأرسلهما متداخلين، قريب بعضهما من بعض، ولكن بينهما حاجز يحجزهما ويمنعهما من الاختلاط، فلا يبغي أحدهما على الآخر، بالامتزاج، والاختلاط. فبأي نعم ربكما أيها الإنس والجن تكذبان أو تنكران؟
يخرج من أحد البحرين- على حذف مضاف- وهو الأجاج: اللؤلؤ وهو: كبار
الجوهر المتكون في الصدف، والمرجان: صغاره، وهو حجر أحمر. وتتكون هذه الأشياء في البحر بنزول المطر «1» فبأي نعم الله الظاهرة لكم أيها الجن والإنس تكذبان؟ ففي ذلك من دلائل القدرة الإلهية ما لا يستطيع أحد تكذيبه، وخروج هذه الأشياء إنما هو من الملح، لكنه تعالى قال: مِنْهُمَا تجوّزا.
والله الذي خلق وألهم صنع الجواري: وهي السفن، جمع جارية، الرافعات أشرعتها في الهواء كالجبال الشواهق ونحوها من المرتفعات من الظراب والآكام.
ولفظة الْمُنْشَآتُ تعم الكبير والصغير. وقوله كَالْأَعْلامِ هو الذي يقتضي الفرق بينهما هنا. وإنما قال: وَلَهُ الْجَوارِ خاصة، مع أن الله السماوات والأرض وما بينهما، لأن أموال الناس وأرواحهم في قبضة قدرة الله تعالى، فبأي نعم الله تكذبان يا معشر الجن والإنس؟ لقد خلقت لكم هذه النعم، أيمكنكم إنكار صناعة السفن الضخمة أو كيفية إجرائها في البحر، أو منافعها في تقريب المسافات، ونقل الحمولة وأنواع التجارة والصناعات، ليستفاد منها في بلاد أخرى.
ومما يؤكد كون هذه الأشياء من دلائل القدرة الإلهية: أن وجودها وزوالها بيد الله تعالى، فجميع من على الأرض من الناس والدواب، وجميع أهل السماوات إلا من شاء الله، سيتعرضون للفناء والموت، وتزول الحياة، ولا يبقى إلا الله سبحانه وتعالى، ذو العظمة والكبرياء، وصاحب الفضل والإكرام الذي يسبغ به على من يشاء من عباده، فبأي شيء من نعم الله هذه تكذبان أيها الجن والإنس؟! والضمير في قوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) عائد للأرض، ولم يتقدم لها ذكر لوضوح المعنى، كما قال تعالى: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: 38/ 32] . والآية تشمل بالفناء جميع الموجودات الأرضية من حيوان وغيره. وغلّبت عبارة من يعقل في قوله
(1) لأن الصدف وغيرها تفتح أجوافها للمطر.