الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القبور بعلاماتهم، وهي كونهم سود الوجوه، زرق العيون، يعلوهم الحزن والكآبة، فيؤخذ بنواصيهم وأقدامهم مجموعا بينهما، وتضمّ الأقدام إلى النواصي. فبأي النّعم تكذبان؟ فقد أنذرتم وحذرتم سابقا.
ويقال لهم، أي للمجرمين يوم القيامة توبيخا وتقريعا: هذه نار جهنم التي تشاهدونها وتنظرون إليها، التي كنتم تكذبون بوجودها، ها هي حاضرة أمامكم.
وإنهم يترددون بين نار جهنم وجمرها، وبين حميمها: وهو الماء المغلي في جهنم من مائع عذابها. والحميم: الماء الساخن. فبأي النّعم تكذبان بعد هذا البيان والاعلام السابق؟!
نعم مادية على المتقين في الآخرة
في مقابلة ألوان العذاب على الكفار في الآخرة في سورة الرّحمن، ذكر الله تعالى بعدها ألوان النعيم المادية من الطعام والشراب والفاكهة، والفرش والنساء الحوريات، ترغيبا في التقوى أو العمل الصالح، وتحذيرا من العصيان والمنكرات، فمن خاف ربّه انزجر عن معاصي الله، ومن آمن بالله المستحق للعبودية والطاعة لذاته، أقبل على ساحات الرّضوان الإلهي، وحقق لنفسه السعادة والطمأنينة والهناءة. وأنواع النعيم الأخروي هي ما يأتي في قوله تعالى:
[سورة الرحمن (55) : الآيات 46 الى 61]
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55)
فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَاّ الْإِحْسانُ (60)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61)
«1» «2» «3»
(1) أغصان.
(2)
صنفان.
(3)
ما غلظ من الدّيباج. [.....]
«1» «2» «3» «4» [الرّحمن: 55/ 46- 61] .
لمن خاف قيامه بين يدي ربّه للحساب، بالكفّ عن المعاصي والتزام الطاعات:
نعمتان كبريان: روحية ومادية، أما الروحانية: فهي رضا الله تعالى كما في قوله:
وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التّوبة: 9/ 72] . وأما المادية: فهي جنّتان تشتملان على متع الدنيا في الشكل، لكنها أسمى منها وأفضل، فهما جنّتان لا جنّة واحدة. فبأي نعم الله تكذبان أيها الثّقلان؟ فإن نعم الجنان لا مثيل لها، فضلا عن دوامها. وهذا دليل على أن الجن المؤمنين يدخلون الجنة إذا اتّقوا معاصي ربّهم وخافوه.
وللجنتين الماديتين أغصان الأشجار وأنواع الثمار، فبأي نعم ربّكما أيها الإنس والجنّ تكذّبان؟
وقد نزلت آية: وَلِمَنْ خافَ فيما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن شوذب قال: في أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه.
وفي كل من الجنتين عين جارية، لسقي الأشجار والأغصان، والاثمار من جميع الأنواع، فبأي نعم ربّكما معشر الجنّ والإنس تكذبان؟ فتلك حقيقة قاطعة، وواقع ملموس.
وفي هاتين الجنّتين من كل فاكهة صنفان، يستلذّ بكل واحد منهما، أحدهما:
(1) المجتنى أو ثمر الجنّتين قريب التناول.
(2)
لم يفتضهن أحد، مما يدل على أن الجن يفعلون ذلك.
(3)
جواهر كريمة في صفائها وبياضها، والياقوت: حجر أملس صاف. والمرجان: الخرز الأحمر.
(4)
في الثواب: وهو الجنة.
رطب، والآخر يابس، لا يتميز أحدهما عن الآخر في الفضل والطيب، خلافا لثمار الدنيا، بل فيهما مما يعلم وخير مما يعلم، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فبأي هذه النعم تكذبان أيها الإنس والجنّ؟ وهي نعم واقعية وثابتة.
ثم بعد الطعام ذكر الله الفراش، فهؤلاء الخائفون من عصيان الله يتنعمون على فرش بطائنها (وهي ما تحت الظهائر) من إستبرق (ما غلظ من الدّيباج) وثمر الجنّتين أو المجتنى قريب التناول. فبأي شيء من هذه النّعم يحصل التكذيب والإنكار؟! وكلمة مُتَّكِئِينَ إما حال من محذوف تقديره: يتنعمون متكئين، وإما من قوله تعالى:
وَلِمَنْ خافَ. والاتّكاء: جلسة المتنعّم المتمتّع.
أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قيل له: بطائنها من إستبرق، فما الظواهر؟ قال: ذاك مما قال الله: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السّجدة: 32/ 17] وكذلك قال. والجنى: ما يجتنى من الثمار، ووصف بالدنوّ لأنه فيما روي في الحديث يتناوله الرجل على أي حالة كان، من قيام أو جلوس أو اضطجاع، لأنه يدنو إلى مشتهيه. ثم وصف الله الحور العين في الجنّتين، فقال:
فِيهِنَّ قاصِراتُ.. أي في الجنّتين الحور العين اللاتي قصرن ألحاظهن على أزواجهن، لم يفتضضهنّ قبلهم أحد من الإنس أو الجن. ويقال لدم الحيض ولدم الافتضاض: طمث، فإذا نفي الطمث فقد نفي القرب منهن على جهة الوطء.
والضمير في قوله: فِيهِنَّ عائد للجنات، إذ الجنّتان جنات في المعنى. فبأي النّعم تكذبان أيها الثّقلان؟! ومعنى قوله: وَلا جَانٌّ يحتمل أن يكون اللفظ مبالغة وتأكيدا، كأنه تعالى قال: لم يطمثهن شيء. ويحتمل أن الجن قد تجامع نساء البشر مع أزواجهن إذا لم يذكر الزوج الله تعالى، فنفى في هذه الآية جميع المجامعات.