الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حساب وجزاء، تنبئ نبأ يقينيا بما يقع في المستقبل في عالم الآخرة، وتكاد تنخلع القلوب من مواضعها من شدة الأهوال، وألوان العذاب في نيران جهنم، علما بأنه حق عدل مطابق للأفعال والأقوال التي صدرت من الكافرين، وأردت بهم إلى جهنم.
أحوال السعداء يوم القيامة
لما ذكر الله تعالى حال أهل النار، عقّب بذكر حال أهل الجنة، ليتبين الفرق. فهم فائزون ناجون، حيث تخلصوا من النار، وأدخلوا الجنة، فضلا من الله وإحسانا.
والمتأمل في حال الفريقين يجد الفرق واسعا، فيرغب المؤمنون العقلاء بالجنة، ويرهبون المخالفة والعصيان، والتورط في أعمال أهل النار. وبيان حال الفريقين يشتمل على وعيد الكفار، ووعد المؤمنين الأخيار، كما يتضح من هذه الآيات:
[سورة النبإ (78) : الآيات 31 الى 40]
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) وَكَأْساً دِهاقاً (34) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35)
جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40)
«1» «2» «3» «4» «5» «6» «7» «8» «9» «10» «11» [النبأ: 78/ 31- 40] .
هذا مصير المؤمنين الطائعين، وهو أن للذين اتقوا ربهم بالعمل بأوامره،
(1) مكان فوز أو فوزا.
(2)
بدل من (مفازا) أي بساتين مثمرة الأشجار، مسورة بالجدران. [.....]
(3)
جمع كاعب: وهي الفتاة المستديرة الثدي، والأتراب جمع ترب: ذوات السن الواحدة كاللدات.
(4)
إناء بلوريا مملوءا يشرب فيه، والدهاق: الممتلئ.
(5)
اللغو: ساقط الكلام، والكذاب: التكذيب.
(6)
إحسانا من الله كافيا على قدر أعمالهم.
(7)
جبريل.
(8)
مصطفين.
(9)
قولا صوابا.
(10)
مرجعا.
(11)
كالتراب لم أخلق.
واجتناب نواهيه، مفازا أي موضع الفوز، لأنهم زحزحوا عن النار، وأدخلوا الجنة يتمتعون بالبساتين المسوّرة ذات الأشجار والثمار والأعناب اللذيذة الطعم، وبحوريات الجنة الكواعب النواهد، وذوات الأثداء التي لم تتكسر ولم تتدلّ، المتساويات في السن، ويتناولون الشراب اللذيذ بالكؤوس المترعة المملوءة بخمر الجنة غير المسكرة، وعطف الأعناب على الحدائق: عطف خاص على عام. لا يسمعون في الجنة الباطل من الكلام، ولا يكذّب بعضهم بعضا، مما يدل على نظافة البيئة وسموها الأدبي، لترتاح النفوس، ولا تخدش بالكلام الشاذ. جازاهم الله تعالى على إيمانهم وصالح أعمالهم، وأعطاهم ذلك عطاء، تفضلا منه وإحسانا، وهو كاف واف على قدر أعمالهم، إنجازا لوعد الله تعالى إياهم.
وهذا الرب المتفضل المجازي جزاء حسنا هو المتصف بالعظمة والجلال، ورب السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما، وهو الرحمن الذي شملت رحمته كل شيء، ولا يقدر أحد على ابتداء خطابه إلا بإذنه، لجلاله وهيبته.
لا يملك الناس خطاب الله تعالى يوم يقوم جبريل عليه السلام وجميع الملائكة مصطفين «1» صفوفا منتظمة، مع رفعة أقدارهم ودرجاتهم، لا يتكلمون أيضا في يوم القيامة الرهيب إلا بشرطين:
الأول- الإذن من الله بالشفاعة، كما جاء في آية أخرى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة: 2/ 255] .
والثاني- أن يقول قولا صائبا: أي موافقا للحق والصدق إذا كان الإذن للشافع، وأن يكون ذلك المشفوع به ممن قال في الدنيا صوابا، أي شهد بالتوحيد بأن قال:
لا إله إلا الله، إذا كان الإذن للمشفوع له.
(1) عطف عام على خاص. ويوم ظرف لفعل (لا يتكلمون) .
والروح: هو جبريل عليه السلام في رأي الأكثرين، لقول الله عز وجل: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشعراء: 26/ 193- 194] . والآية دليل على أن الملائكة وجبريل عليهم السلام أعظم المخلوقات قدرا ومكانة، وعلى عظمة يوم القيامة ورهبته. وعطف الملائكة على جبريل: عطف عام لا خاص.
وذلك اليوم يوم القيامة هو اليوم الحق، أي الثابت الوقوع، المتحقق الذي لا ريب فيه، فمن أراد النجاة، اتخذ إلى ثواب ربه مرجعا وطريقا يهتدي إليه، ويقرّبه منه، ويدنيه من كرامته، ويباعده من عقابه، بالإيمان الحق والعمل الصالح.
ثم هدّد الله تعالى الكافرين، وحذّرهم وخوّفهم من ذلك اليوم يوم القيامة مرة أخرى. إننا يا أهل مكة وأمثالكم من الكفار، حذرناكم وخوفناكم عذابا قريب الوقوع، وهو في يوم القيامة، فإنه لتأكد وقوعه، صار قريبا، ولأن كل ما هو آت قريب، وفي هذا اليوم القريب الوقوع، ينظر كل امرئ ما قدم من خير أو شر في حياته الأولى في الدنيا، ويقول الكافر من شدة ما يعانيه من أنواع الأهوال والعذاب، كأبي بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وأبي جهل، وأبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي: ليتني كنت ترابا كالحيوانات، لم أخلق، فهو يتمنى أن لم يكن إنسانا موجودا أولا، ولا مبعوثا ثانيا أو مرة أخرى. وإنما تصير الحيوانات ترابا بعد الاقتصاص من بعضها لبعض.
وهاتان الآيتان الأخيرتان تدلان على أن الناس يكونون يوم القيامة فريقين: فريق المؤمنين المقربين من ثواب الله وكرامته ورضاه، وفريق الكافرين الجاحدين البعيدين من رحمة الله، الواقعين في صنوف العذاب.
فأي الفريقين أهدى سبيلا، وأرشد طريقا، وأسلم عاقبة، وأحسن قدوة؟! لو سئل صبي عاقل دون البلوغ عن الفرق لأجاب، ولما وسعه إلا اتباع أهل الإيمان والنجاة.