الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفسير سورة الدخان
ليلة إنزال القرآن وتهديد المشركين
أنزل الله تعالى في ابتداء تنزيله القرآن الكريم بعض السور والآيات في ليلة القدر المباركة، رحمة من الله بعباده، وعلما منه بما يصلحهم، والله سبحانه هو رب كل شيء من السماوات والأرض، وهو الإله الواحد الذي يحيي ويميت، رب الأولين والآخرين، فمن آمن بالقرآن نجا، ومن أعرض عنه هلك، لذا استحق المشركون التهديد بالعذاب، إما في الدنيا بالجوع الشديد والجدب، حتى إن الجائع يرى دخانا بينه وبين الناس، وإما قبيل يوم القيامة حيث يجيء دخان، يصيب المؤمن منه مثل الزكام، ويشوي رؤوس المنافقين والكافرين، وهذا مقرر في مطلع سورة الدخان المكية بالاتفاق:
[سورة الدخان (44) : الآيات 1 الى 16]
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)
أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلهَ إِلَاّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14)
إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
«1» «2» «3» «4»
(1) يفصّل ويبيّن.
(2)
أي محكم لا لبس فيه.
(3)
انتظر.
(4)
يحيط بهم من كل جانب.
[الدخان: 44/ 1- 16] .
ابتداء الله السورة بالأحرف الهجائية للتنبيه على خطر ما فيها، ولتحدي العرب الناطقين بلغة الضاد المتكونة من أمثال هذه الحروف بالإتيان بمثل القرآن أو بمثل بعضه. ثم أقسم الله تعالى بالقرآن الواضح البيّن الشامل لكل أمور الدين والدنيا والمبين هدى الله وشرعه، على أنه أنزل القرآن في ليلة كثيرة الخير، التي هي ليلة القدر، أي إنه تعالى ابتدأ إنزال القرآن في ليلة القدر من ليالي رمضان. وقال العلماء:
إن كتب الله تعالى كلها إنما أنزلت في رمضان، التوراة في أوله، والإنجيل في وسطه، والزبور في نحو ذلك، ونزل القرآن في آخر رمضان في ليلة القدر. ومعنى هذا النزول:
أن ابتداء نزوله كان في ليلة القدر. وإنه سبحانه كان وما يزال ينذر بهذا القرآن الناس من العذاب الأليم في الآخرة، إذا أشركوا بالله واقترفوا المعاصي.
وفي ليلة القدر يفصّل ويبين الأمر المحكم، ويتخلص عن غيره، فيكتب فيها ما يكون في السنة من الآجال والأرزاق، من خير وشر، وحياة وموت وغير ذلك. قال الحسن البصري ومجاهد وقتادة وغيرهم: في ليلة القدر يفصل كل ما في العام المقبل من الأقدار والآجال والأرزاق وغير ذلك، ويكتب ذلك، ويكتب ذلك لهم إلى مثلها من العام المقبل.
أنزل الله القرآن أمرا جازما من عنده، متضمنا وحيه وشرعه، وأرسل الرسول محمدا والأنبياء عليهم الصلاة والسّلام إلى الناس لتلاوة آيات الله البينات، رحمة من عند الله وإنقاذا، لبيان ما ينفعهم وما يضرهم، إن الله هو التام السمع لكل صوت أو قول، الشامل العلم بكل صغيرة وكبيرة.
ودليل السمع والعلم وتنزيل القرآن رحمة: أن الله هو رب السماوات والأرض
وما بينهما من سائر المخلوقات، وخالقها ومالكها وما فيها، إن أردتم معرفة ذلك عن يقين تام، لا شك فيه.
ومن صفات الله بعد إثبات الرّبوبية: اتّصافه بالوحدانية، فهو الإله الواحد الذي لا إله غيره، وهو الذي يحيي الأشياء والمخلوقات، ويميتها، وهو أيضا ربّ الآباء الأوّلين والأجداد الأقدمين، وربّ الموجودين ومن يأتي بعدهم ومدبّر شؤونهم، والرّبوبية تستحقّ العبادة، فالله وحده دون غيره يستحقّ العبادة.
بل هؤلاء المشركون في شكّ من أمر البعث والتوحيد، يلعبون ويعبثون. وهذا إضراب عما قبله من الكلام، ينفي ما تقدّم، كأنه يقول: ليس هؤلاء ممن يؤمن، ولا ممن تنفعه وصية، بل هم شاكّون لاعبون في أقوالهم وأفعالهم.
فانتظر أيها المشرك يوم تأتي السماء إما بدخان حقيقي أو بما يشبه الدخان، والذي يشبهه: هو ما تعرّض له المشركون من شدة الجوع والقحط، حتى كان الرجل يرى من الجدب والجوع دخانا بينه وبين الناس، والآيات الآتية تقوي هذا التأويل،
روى البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: إن قريشا لما استعصوا على النّبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم قحط، حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء، فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، فأنزل الله:
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ.. فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، استسق لمضر، فإنها قد هلكت، فاستسقى، فسقوا، فنزلت.
وطلب الناس قائلين: يا ربّنا اكشف عنا عذابك، إنا مصدّقون بالله ورسوله، ولكنهم لم يكونوا صادقين، ومن أين لهم التّذكر والاتّعاظ والوفاء بالعهد بالإيمان بعدئذ، وكان قد جاءهم رسول مبيّن أدلة الإيمان، ثم أعرضوا عنه، وقالوا: إنما يعلّمه القرآن بشر غيره، إنه مجنون لا عقل له.