الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أن سليمان كان نبيا ورسولا من الصالحين كأبيه، لم يصدر عنه إلا كل ما هو خير متفق مع مقتضى الرسالة، ودعوة الناس إلى عبادة الله وشكره وليس دعاؤه بطلب ملك يتفرد به مرادا به: أنه لا يعطي الله تعالى نحو ذلك الملك لأحد، وإنما المبالغة في هبة الملك وطلبه.
محنة أيوب عليه السلام
أيوب عليه السلام: هو نبي من أنبياء بني إسرائيل، من ذرية يعقوب عليه السلام، وهو المبتلى في جسده وماله وأهله، ولكن صبر وسلّم معتقده ودينه، ولم يكن ابتلاؤه بمرض معد أو منفّر طبعا، خلافا لما زعم بعضهم، وإنما كان مرضه جلديا مضعفا غير منفر، وبعد أن طال صبره دعا ربه، فأوحى إليه بالاغتسال والشرب من ماء نابع، حفره بقدمه، فشفي وعوفي، ورد الله عليه أهله وزاده مثلهم في الذرية، وافتدى الله يمينه بضرب زوجته بعود فيه مائة قضيب من الشجر الرطب، فيضرب به ضربة واحدة، يبر بها يمينه. وهذه حكاية محنته وبلواه وزوالها عنه. قال الله تعالى:
[سورة ص (38) : الآيات 41 الى 44]
وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
«1» «2» [ص: 38/ 41- 44] .
الاعتبار والاتعاظ بقصص الأنبياء السابقين هو غاية إيراد قصصهم، فمنهم كثير
(1) أي بضر ومشقة وتعب.
(2)
حزمة صغيرة من حشيش أو شجر رطب.
النعمة كداود وسليمان عليهما السلام، ومنهم من ابتلي وامتحن بالمرض كأيوب عليه السلام، ففي حال النعمة شكر وحمد، وفي حال النقمة صبر وتفويض لله.
والمعنى: اذكر أيها النبي محمد لقومك مدى صبر أيوب عليه السلام على مرضه مدة طويلة من الزمان، قيل: هي نحو من ثماني عشرة سنة، اذكره حين دعا ربه: بأنني قد مسني الضر، وألحق بي الشيطان الضر والمشقة والألم. ولم يكن مرضه منفّرا الناس منه، وإنما هو مرض جلدي ظاهري، قابل للشفاء.
أخرج ابن جرير الطبري في تفسيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن أيوب عليه السلام بقي في محنته ثماني عشرة سنة.
فأجاب الله دعاءه، وأمره أن يضرب برجله الأرض، فنبعت عين جارية، فاغتسل فيها، وشرب منها. وقوله: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ الركض: الضرب بالرّجل.
والمعنى اركض الأرض، ولما فعل ذلك عوفي من مرضه.
وأعاد الله له أيضا أهله وولده الذين تركوه، ووهب له ماله في الدنيا ورد ما هلك من ماشيته، وبارك في جميع ذلك، وولد له الأولاد حتى تضاعفت الحال، رحمة من الله به، وتذكرة لأصحاب العقول السديدة، فإن ما بعد الصبر والشدة إلا الفرج، وما بعد العسر إلا اليسر.
وكانت زوجته تتردد عليه مدة مرضه، فيوسوس لها الشيطان ويقول لها: لو سجد هذا المريض للصنم الفلاني لبرئ، ولو ذبح عناقا (أنثى المعز أو الضأن إلى تمام الحول) للصنم الفلاني لبرئ، ويعرض عليها وجوها من الكفر، فكانت ربما عرضت ذلك على أيوب، فيقول لها: ألقيت عدو الله في طريقك؟ فلما أغضبته بهذا ونحوه، حلف لئن برئ من مرضه ليضربنها مائة سوط.
فلما برئ، أمره الله تعالى أن يأخذ بيده قبضة أو حزمة كبيرة من القضبان ونحوها
من الشجر الرطب، فيضربها به ضربة واحدة فتبر يمينه. وهذا حكم ورد في شرعنا حيث
أخرج أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله في حد رجل زمن (مريض مرضا مزمنا) بالزنى، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعذق (عدد من النخيل) فيه مائة شمراخ أو نحوها، فضرب به ضربة.
وقال به بعض الفقهاء وهو الإمام الشافعي.
ثم أثنى الله تعالى على أيوب عليه السلام بقوله: إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ أي لقد وجدناه صابرا على البلاء الذي ابتليناه به في جسده، وذهاب ماله وأهله وولده، نعم الرجل العبد لله أيوب، إنه رجّاع إلى الله تعالى بالتوبة والاستغفار، زيادة في حسناته، ورفع درجته، لا بسبب ذنب ارتكبه، فجازيناه بتفريج كربته، مع أنه ليس في الشكوى إلى الله إخلال بالصبر، ولكن إيمان الأنبياء المطلق الذي يستلهمون منه أن الله تعالى عليم بهم، قد لا يطلبون من الله شيئا، لإذهاب همهم وغمهم، كما فعل إبراهيم عليه السلام حينما ألقي في النار، لم يدع ربه، وإنما قال:«علمه بحالي يغنيه عن سؤالي» .
وروي عن أيوب عليه السلام: أنه كان يقول كلما أصابته مصيبة: «اللهم أنت أخذت، وأنت أعطيت» وكان يقول في مناجاته: «إلهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي، ولم يتبع قلبي بصري، ولم يلهني ما ملكت يميني، ولم آكل إلا ومعي يتيم، ولم أبت شبعان ولا كاسيا، ومعي جائع أو عريان» .
هذه أمثلة عالية من مواقف أيوب عليه السلام، تعدّ ذخرا عظيما، وقدوة حسنة للمؤمنين، فلا يصدر عنهم في وقت المرض أو المحنة أو الأذى إلا ما يتفق مع الأدب مع الله تعالى والتفويض إليه.