الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمناكحات؛ كالنكاح، والطلاق، والعدة، والإجارات، والمخاصمات، والدعاوى، وغيرها، فإنه لا يشترط في جميع ذلك النية، لكن إن نوى؛ يثاب على ذلك العمل، وإن لم ينو
(1)
؛ لا يثاب ومضى فعله على الصحة.
فنحن لا ندعي أن النية لا توجد في مثل هذه الأشياء، وإنما ندعي عدم اشتراطها، ومؤدي الدين إذا قصد براءة الذمة وذلك عبادة؛ برئت ذمته، وحصل له الثواب، ولا نزاع فيه، وإذا أدى من غير براءة الذمة؛ هل يقول أحد: إن ذمته لم تبرأ؟
(وقال) وفي رواية: (وقال الله تعالى)، وفي رواية: عز وجل
(2)
: ({قُلْ كُلٌّ}) أي: كل أحد، ({يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84])، قال الليث:(الشاكلة من الأمور ما وافق فاعله)، والمعنى: أن كل أحد يعمل على طريقته التي تشاكل أخلاقه، فالكافر يعمل ما يشبه طريقته من الإعراض عند النعمة، واليأس عند الشدة، والمؤمن يعمل ما يشبه طريقته من الشكر عند الرخاء، والصبر عند البلاء، ويدل عليه قوله:{فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} [الإسراء: 84]، وقال الزجاج ومجاهد: أي: مذهبه وطريقته، وفسره المؤلف بقوله:(على نيته) وهو مروي عن الحسن البصري، ومعاوية بن قرة المزني، وقتادة، فيما أخرجه عبد بن حميد والطبري عنهم.
(ونفقة الرجل على أهله)؛ زوجته، وأولاده، وكل من تلزمه النفقة عليه، (يحتسبها صدقة) حال كونه مريدًا بها وجه الله تعالى، فـ (يحتسبها) حال متوسطة بين المبتدأ والخبر، وفي رواية: بحذف الواو، وجملة (نفقة
…
) إلخ ساقطة في رواية.
(وقال النبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس المروي عند المؤلف، ولفظه:«لا هجرة بعد الفتح» (ولكن) طلب الخير (جهاد ونية)«وإذا استُنفرتم؛ فانفروا» ، أخرجه هنا معلقًا، وأخرجه مسندًا في (الحج)، و (الجهاد)، و (الجزية).
[حديث: الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى]
54 -
وبه قال: (حدثنا عبد الله بن مَسْلَمَة)؛ بفتح الميمين واللام، (قال: أخبرنا)، وفي رواية:(حدثنا)، (مالك)؛ هو ابن أنس، (عن يحيى بن سعيد)؛ هو الأنصاري، (عن محمد بن إبراهيم)؛ هو ابن الحارث التيمي، (عن علقمة بن وقَّاص)؛ بتشديد القاف: الليثي، (عن عمر)؛ هو ابن الخطاب رضي الله عنه:(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الأعمال) الصادرة من المكلفين تكمُل ويثاب عليها، (بالنية) بالإفراد وحذف (إنما)، فإن لم ينو
(3)
فيها؛ تكون غير كاملة ولا يثاب عليها؛ لأنَّ الكمال والثواب منوط بالنية، وتقدير الكمال والثواب هو المطَّرد، ولأنه متفق عليه، وهذه الصيغة لا تفيد الحصر؛ لأنها غير محصورة بـ (إنما)، على أن الصيغة المصدرة بـ (إنما) اختلف فيها هل تفيد الحصر أم لا؟ فهذه عدم إفادتها الحصر بالأَولى، والجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره: كاملة ومثاب عليها.
وما قيل: إن الأحسن تقدير صحيحة أو مجزئة؛ ممنوع؛ لأنَّه لا دليل يدل عليه، ولو سُلِّم فيلزم منه نسخ الكتاب بخبر الواحد، وهو لا يجوز، فتقدير الكمال أحسن وأولى؛ فافهم.
(ولكل امرئ ما نوى)؛ أي: الذي نواه إذا كان المحل قابلًا؛ كما تقدم، (فمن كانت هجرته)؛ بكسر الهاء: خروجه من أرض إلى أخرى (إلى الله ورسوله) نية وعقدًا (فهجرته إلى الله ورسوله) حكمًا وشرعًا، وإنَّما أبرز الضمير؛ لقصد الاستلذاذ بذكره تعالى ورسوله عليه السلام، (ومن كانت هجرته لدنيا) وفي رواية:(إلى دنيا)(يصيبها) يحصِّلها (أو امرأة يتزوَّجها؛ فهجرته إلى ما هاجر إليه)؛ أي: إلى ما ذكر.
فإن قلت: قد استعمل (دنيا) بالتأنيث مع كونه منكَّرًا، وأجيب: بأن (دنيا) جعلت عن الوصفية غالبًا، وأجريت مجرى ما لم يكن قط وصفًا مما وزنه:(فُعْلى) كرجعى وبهمى، فلهذا ساغ فيها ذلك، ومراد المؤلف بهذا الحديث الرد على المرجئة؛ حيث قالوا: إن الإيمان قول باللسان دون عقد القلب، والجملة الأولى سقطت عند المؤلف من رواية الحميدي أول الكتاب، فذكر في كل باب ما يناسبه.
[حديث: إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة]
55 -
وبه قال: (حدثنا حجاج بن مِنهال)؛ بكسر الميم، وفي رواية: بالتصريف فيهما، وفي أخرى: بتنكير الأول وتعريف الثاني، أبو محمد الأَنْماطي؛ بفتح الهمزة وسكون النون، نسبة إلى الأنماط؛ ضرب من البسط، السُّلَمي؛ بضم المهملة وفتح اللام، المتوفى بالبصرة سنة ست عشرة أو سبع عشرة ومئتين.
(قال: حدثنا شعبة)؛ هو ابن الحجاج، (قال: أخبرني) بالإفراد (عدي بن ثابت) الأنصاري الكوفي، المتوفى سنة ست عشرة ومئة، (قال: سمعت عبد الله بن يزيد) بن حصين الأنصاري الخَطْمي؛ بفتح الخاء المعجمة وسكون المهملة، المتوفى زمن ابن الزبير، (عن ابن مسعود) عقبة بن عمرو؛ بفتح العين وسكون الميم، ابن ثعلبة الأنصاري، الخزرجي، البدري، المتوفى بالكوفة قبل الأربعين، سنة إحدى وثلاثين، أو اثنين وأربعين.
(عن النبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم قال: إذا أنفق الرجل) ومثله المرأة نفقة من دراهم أو غيرها، (على أهله)؛ زوجته، وولده، ومَن تجب نفقته عليه حال كون الرجل والمرأة (يحتسبها)؛ أي: يريد بها وجه الله (فهو)؛ أي: الإنفاق، وفي رواية:(فهي)؛ أي: النفقة، (له صدقة)؛ أي: كالصدقة في الثواب، لا حقيقة، وإلا حرمت على الهاشمي والمطلبي، والصارف له عن الحقيقة الإجماع، وإطلاق الصدقة على النفقة مجاز، أو المراد بها الثواب، كما علمت.
فالتشبيه واقع على أصل الثواب لا في الكمية ولا في الكيفية، وأفاد أن الثواب في الإنفاق إنَّما يحصل بقصد القربة، سواء كانت واجبة أم مباحة، وأنَّ مَن لم يقصد القربة؛ لم يحصّل الثواب الكامل، وأنَّ براءة ذمته من النفقة الواجبة عليه، وحذف المعمول؛ ليفيد العموم؛ أي: أيَّ نفقة كانت كثيرة أم قليلة؛ كذا قرره في «عمدة القاري» .
[حديث: إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها]
56 -
وبه قال: (حدثنا الحَكَم)؛ بفتح الكاف، هو أبو اليمان، (ابن نافع قال: أخبرنا شعيب) بن أبي حمزة القرشي، (عن الزهري) أبي بكر محمد بن شهاب، (قال: حدثني) بالإفراد، (عامر بن سعْد)؛ بسكون العين، (عن سعد بن أبي وقَّاص)؛ بتشديد القاف: المدني أحد العشرة، (أنه أخبره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال) مخاطبًا لكلِّ مَن يصحُّ منه الإنفاق: (إنك) ظاهره الخطاب لسعد، (لن تنفق نفقة) قليلة أو كثيرة، (تبتغي)؛ أي: تطلب، (بها وجه الله) تعالى؛ أي: ذاته بإخلاص وطيب نفس من غير رياء، ولا سمعة، ولا مَنٍّ، و (الباء) في (بها) للمقابلة، أو بمعنى (على)، ووقع في بعض النسخ:(عليها) بدل (بها)، أو للسببية؛ أي: لن تنفق نفقة تبتغي بسببها وجه الله تعالى (إلا) نفقة (أُجرت عليها)؛ بضمِّ الهمزة وكسر الجيم، وفي رواية:(إلَّا أجرت بها).
(حتى) ابتدائية (ما تجعل)؛ أي: الذي تجعله، مبتدأ، (في فم امرأتك) والخبر محذوف تقديره: فأنت مأجور فيه، وما ذكره ابن حجر: من أنَّ (حتى) هنا عاطفة، وما بعدها منصوب المحل، ردَّه في «عمدة القاري» ؛ فليحفظ، وفي رواية:(في فِي امرأتك) وهي رواية الأكثرين؛ كما قاله الشيخ الإمام بدر الدين العيني.
وقال القاضي عياض: حذف الميم هو الصواب، وبالميم لغة قليلة، والمستثنى محذوف؛ كما علمت؛ لأنَّ الفعل لا يقع مستثنى، والتقدير: لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلَّا نفقة أُجرت عليها، ويكون (أُجرت عليها) صفة للمستثنى، والمعنى على هذا؛ لأنَّ النفقة التي يثاب عليها؛ التي تكون ابتغاء وجه الله تعالى، وإلَّا لا يثاب عليها الثواب الكامل.
والاستثناء متَّصل؛ لأنَّه من الجنس، والتنكير في (نفقة) في سياق النفي، فيعم القليل والكثير، والخطاب للعموم، كذا قرره في «عمدة القاري» .
والمرائي بعمل الواجب غير مثاب وإن سقط عقابه بفعله، كذا قاله البرماوي كالكرماني، واعترضهما الشيخ الإمام بدر الدين العيني بأن سقوط العقاب مطلقًا غير صحيح؛ بل الصحيح التفصيل فيه؛ وهو أن العقاب الذي يترتب على ترك الواجب يسقط؛ لأنَّه أتى بعين الواجب، ولكنه كان مأمورًا أن يأتي بما عليه بالإخلاص وترك الرياء، فينبغي أن يعاقب على ترك الإخلاص؛ لأنَّه مأمور به، وتارك المأمور به يعاقب.
قلت: وهو وجيه، وإنما خص المرأة بالذكر؛ لأنَّ عود منفعتها إلى المنفق الزوج، ومع ذلك فله الثواب، فغيرها يثاب عليه من باب أولى، هذا الحديث قطعة من حديث طويل، أخرجه المؤلف في (الجنائز) وغيرها، كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى.
(42)
[باب قول النبي: الدين النصيحة لله ولرسوله
ولأئمّة المسلمين]
هذا (باب قول النبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم مبتدأ، وخبر، ومضاف، (الدين النصيحة)؛ أي: عماد الدين أن يمتثل الأوامر ويجتنب النواهي، (لله) تعالى ظاهرًا وباطنًا، لا خوفًا من ناره ولا طمعًا في جنته، مبتدأ وخبر، والجملة مقول القول، و (اللام) في (لله) صلة؛ لأنَّ الفصيح أن يقال: نصح له، (و) النصيحة (لرسوله) عليه السلام بأن يصدِّق برسالته، ويؤمن بجميع ما جاء به، ويمتثل ما أمر به، ويجتنب ما نَهى عنه.
(و) النصيحة (لأئمَّة المسلمين) بإعانتهم على الحقِّ وكفِّهم عن الباطل، وأمَّا أئمَّة الاجتهاد؛ فتقليدهم في الأحكام، وإظهار علومهم، ونشر مناقبهم، وتحسين الظن بهم، (و) نصيحة (عامتهم) بإرشادهم في آخرتهم ودنياهم، وكفَّ الأذى عنهم، وتعليم ما جهلوا فيه، وإنَّما ترك اللام فيه؛ لأنَّهم كالاتباع للأئمَّة لا استقلال لهم، وإعادة اللام تدل على الاستقلال.
وهذا الحديث وصله مسلم عن تميم الداري، وزاد فيه:(النصيحة لكتاب الله)، وذلك بتعلُّمِه وتعليمه، وإقامة حروفه، والإيمان بأنه كلام الله، وتنزيهه، والتصديق بما فيه، والتسليم لمشابهه، وإقامة حدوده.
وإنَّما لم يذكره المؤلف مسندًا وذكره ترجمة؛ لكونه ليس على شرطه؛ لأنَّ راويه تميم، وأشهر طرقه فيه سُهيل بن أبي صالح؛ وهو منسوب إلى النسيان وسوء الحفظ، والله أعلم.
(1)
في الأصل: (ينوي).
(2)
في الأصل تأخر قوله: (وفي رواية عز وجل عن قوله الآتي: ({قُلْ كُلٌّ}).
(3)
في الأصل: (ينوي).
(وقوله تعالى) وفي رواية: عز وجل، وفي أخرى:(وقول الله في سورة براءة) : ({إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ})[التوبة: 91] بالإيمان بهما وإطاعتهما في السر والعلانية.
[حديث: بايعت رسول الله على إقام الصلاة]
57 -
وبه قال: (حدثنا مُسَدَّد) : هو ابن مُسرهِد، (قال: حدثنا يحيى) : هو ابن سعيد القطان، (عن إسماعيل) بن أبي خالد البَجَلي التابعي، (قال: حدثني) بالإفراد (قيس بن أبي حازم)؛ بالحاء المهملة والزاي المعجمة، البَجَلي؛ بفتح الموحدة والجيم، نسبة إلى بَجيلة بنت صعب، الكوفي التابعي المخضرم، المتوفى سنة أربع وثمانين أو ثمان وتسعين، (عن جرير بن عبد الله) بن جابر البَجَلي الأحمسي؛ بالحاء والسين المهملتين، المتوفى سنة إحدى وخمسين، (قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: عاهدته وعاقدته، وكان قُدُومه عليه سنة عشر في رمضان، وأسلم، وبايعه (على إقام الصلاة)؛ أي: أدائها على وجهها، (وإيتاء)؛ أي: إعطاء (الزكاة و) على (النصح لكل مسلم) ومسلمة.
وفيه تسمية النصح دينًا وإسلامًا؛ لأنَّ الدين يقع على العمل كما يقع على القول، وهو فرض كفاية على قدر الطاقة إذا علم أنه يقبل نصحه ويأمن على نفسه المكروه، فإن خشي؛ فهو في سعة، فيجب على من علم بالمبيع عيبًا أن يُبيِّنه بائعًا كان أو أجنبيًا، وعلى أن ينصح نفسه بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، وحذف التاء من (إقامة)؛ تعويضًا عنها بالمضاف إليه، ولم يذكر الصوم وغيره؛ لدخوله في السمع والطاعة في الرواية الأخرى؛ فافهم.
[حديث: أما بعد أتيت النبي قلت أبايعك على الإسلام]
58 -
وبه قال: (حدثنا أبو النعمان) محمد بن الفضل السَّدوسي؛ بفتح السين الأولى، نسبة إلى سدوس بن شيبان البصري، المعروف بعارم؛ بمهملتين، المختلط بأخرة، المتوفى بالبصرة سنة أربع عشرة ومئتين، والعارم: الشرير المفسد، فهو لقب رديء (قال: حدثنا أبو عوانة)؛ بفتح العين والنون: الوضاح اليشكري، (عن زياد بن عِلاقة)؛ بكسر العين المهملة وبالقاف: ابن مالك الثعلبي؛ بالمثلثة والمهملة، الكوفي، المتوفى سنة خمس وعشرين ومئة (قال: سمعت جرير بن عبد الله) البَجَلي الأحمسي السابق آنفًا رضي الله عنه؛ أي: سمعت كلامه؛ فالمسموع هو الصوت والحروف، فلما حذف هذا؛ وقع ما بعده تفسيرًا له، وهو قوله:(يقول يومَ)؛ بالنصب على الظرفية، أضيف إلى الجملة؛ أعني: قوله: (مات المغيرة بن شعبة) سنة خمسين من الهجرة، وكان واليًا على الكوفة في خلافة معاويةَ كاتبِ الوحي، واستناب عند موته ولده عروة، وقيل: استناب جريرًا ولذا خطب، وقد (قام) على المنبر (فحمِد الله)؛ أي: أثنى عليه بالجميل، وجملة (قام) استئنافية لا محل لها، (وأثنى عليه)؛ أي: ذكره بالخير، ويَحتمل أن يُراد بـ (الحمد) وصفه متحليًا بالكمالات، وبـ (الثناء) وصفه متخليًا عن النقائص، فالأول إشارة إلى الصفات الوجودية، والثاني إلى الصفات العدمية؛ أي: التنزيهات؛ كذا في «عمدة القاري» ، (وقال: عليكم باتقاء الله) اسم فعل؛ بمعنى: الزموا اتقاء الله (وحده)؛ أي: حال كونه منفردًا (لا شريك له) في ذاته، ولا في أفعاله، ولا في صفاته، (والوَقارِ)؛ أي: الرزانة؛ بفتح الواو: مجرور بالعطف على (اتقاء)؛ أي: وعليكم بالوقار (والسكينة)؛ أي: السكون، وإنَّما أمرهم بذلك؛ لأنَّ الغالب أنَّ وفاة الأمراء يؤدي إلى الفتنة، والهرج، والاضطراب، والمرج (حتى يأتيكم أمير) بدل أميركم المغيرة المتوفى، (فإنما يأتيكم الآنَ)؛ بالنصب على الظرفية؛ أي: المدة القريبة من الآن، فيكون الأمير زيادًا؛ إذ ولَّاه معاوية بعد وفاة المغيرة بالكوفة، أو المراد: الآن حقيقةً، فيكون الأمير جريرًا بنفسه؛ لما روي: أنَّ المغيرة استخلف جريرًا على الكوفة عند موته؛ على ما ذكرنا، كذا في «عمدة القاري» ، و (حتى) للغاية، والفعل بعدها منصوب بـ (أن) مقدرة بعد (حتى)، ومفهوم الغاية من (حتى) هنا -وهو أنَّ المأمور به وهو الاتقاء- ينتهي بمجيء الأمير ليس مرادًا؛ بل يلزم عند مجيء الأمير بالطريق الأولى، وشرط اعتبار مفهوم المخالفة ألَّا يعارضه مفهوم الموافقة، انتهى، «قسطلاني» بزيادة.
(ثم قال) جرير: (استعفوا)؛ بالعين المهملة؛ أي: اطلبوا العفو (لأميركم) المتوفى من الله تعالى، (فإنه)؛ أي: الأمير، و (الفاء) للتعليل (كان يحب العفو) عن ذنوب الناس، فالجزاء من جنس العمل، وفي رواية:(استغفروا لأميركم)؛ بغين معجمة؛ أي: اطلبوا الغفران له من الله، (ثم قال: أما بعدُ)؛ بالبناء على الضم: ظرف زمان حذف منه المضاف إليه ونوي معناه، وفيه معنى الشرط، تلزم الفاء في تاليه، والتقدير: أمَّا بعد كلامي هذا؛ (فإنِّي أتيت النبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم قلت) وإنما لم يأت بأداة العطف؛ لأنَّ الجملة من الفعل والفاعل بدل من (أتيت) أو هي استئناف، وفي رواية:(فقلت له) : (يا رسول الله؛ أبايعك على الإسلام، فشَرَطَ) عليه السلام (عليَّ)؛ بتشديد المثناة؛ أي: الإسلام (والنصحِ)؛ بالجرِّ عطفًا على قوله: (الإسلام)، وبالنصب عطفًا على المقدر؛ أي: شَرَطَ عليَّ الإسلام وشَرَطَ النصح (لكل مسلم) ومسلمة، وذمي؛ بدُعائه إلى الإسلام وإرشاده إلى الصواب إذا استشار، فالتقييد بـ (المسلم) أغلبي، (فبايعته على هذا) المذكور من الإسلام والنصح، (ورب هذا المسجد)؛ أي: مسجد الكوفة إن كانت خطبته ثَمَّ، أو أشار به إلى المسجد الحرام، ويؤيِّده ما في «الطبراني» بلفظ:(ورب الكعبة)؛ تنبيهًا على شرف المقسم به؛ ليكون أقرب إلى المطلوب، كذا في «عمدة القاري» ، قلت: لكن ظاهر السياق يدل على أنه كان في مسجد الكوفة؛ فتأمل، (إني لناصح لكم) فيه إشارة إلى أنَّه وفَّى بما بايع به النبي عليه السلام، وأنَّ كلامه عارٍ عن الأغراض النفسانية، والجملة جواب القسم مؤكد بـ (أن) واللام، والجملة اسمية.
(ثم استغفر) الله تعالى (ونزل) عن المنبر، أو معناه: قعد؛ لأنَّه في مقابلة قام، كذا في «عمدة القاري» ، قلت: والظاهر الأول؛ لأنَّ النزول لا يستعمل بمعنى القعود وإن كان يطلق عليه لغة؛ فافهم، والله أعلم.
اللهم إنِّي أسألك بجاه حبيبك ونبينا محمد وبقدوتنا الإمام الأعظم عليهما الصلاة والسلام أن تمُنَّ علينا بالعلم والعمل، اللهم إنِّي أسألك علمًا نافعًا، ورزقًا واسعًا، وعملًا متقبلًا، وعمرًا طويلًا، وجاهًا عريضًا، وأولادًا كثيرة، ودخول الجنة برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين آمين.
((3))
[كتاب العلم]
هذا (كتاب العلم)؛ أي: في بيان ما يتعلق به، وقدَّمه على غيره؛ لأنَّ مدار تلك الكتب كلِّها على العلم، وهو مصدر (علمت وأعلم علمًا)؛ نقيض الجهل، وهو إدراك الكليات، والمعرفة: إدراك الجزئيات، فلا يجوز أن يقال: الله عارف كما يقال: عالم، واختُلف في حدِّه؛ فقيل: إنه لا يُحدُّ؛ لعسر تحديده، وقيل: لا يُحدُّ؛ لأنَّه ضروري؛ إذ لو لم يكن ضروريًّا؛ لزم الدور، واللازم باطل، فالملزوم مثله، وقيل: إنه يُحدُّ؛ واختُلف في حدِّه؛ والأصحُّ: أنَّه صفة من صفات النفس توجب تمييزًا لا يحتمل النقيض في الأمور المعنوية، فقوله:(صفة) جنس؛ لتناوله لجميع صفات
(1)
النفس، وقوله:(يوجب تمييزًا) احتراز عما لا يوجب تمييزًا كالحياة، وقوله:(لا يحتمل النقيض) احتراز عن مثل الظن، وقوله:(في الأمور المعنوية) يخرج إدراك الحواس؛ لأنَّ إدراكها في الأمور الظاهرة المحسوسة، كذا قرره في «عمدة القاري» .
(1)
[باب فضل العلم]
(بسم الله الرحمن الرحيم) وفي رواية: ثبوتها قبل (كتاب).
(باب فضل العلم) وإنما قال: (فضل العلم)، ولم يقل: فضل العلماء؛ لأنَّ بيان فضل العلم يستلزم بيان فضل العلماء؛ لأنَّ العلم صفة قائمة بالعالم، فذِكْر بيان فضل الصفة يستلزم بيان فضل من هي قائمة به.
(وقول الله تعالى)؛ بالجرِّ عطفًا على المضاف إليه، إمَّا (فضل العلم) أو على (العلم) في (كتاب العلم) بناء على إثبات الباب وحذفه، وقال ابن حجر: ضبطناه في الأصول بالرفع على الاستئناف، قلت: هذا ليس بشيء، كما لا يخفى على أنه قد رده الشيخ الإمام بدر الدين العيني بما يطول، إلى أن قال: فتعين بطلان دعوى الرفع؛ فليحفظ: ({يَرْفَعِ})؛ بالكسر في الفرع والتلاوة؛ للساكنين ({اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ}) بالنصر وعلوِّ الكلمة، ودخول الجنة في الآخرة ({وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ})؛ منصوب بالكسرة، مفعول {يَرْفَعِ}؛ أي: ويرفع العلماء منكم خاصة درجات بما جمعوا من العلم والعمل، قال ابن عباس: درجات العلماء فوق المؤمنين بسبع مئة درجة، ما بين الدرجتين خمس مئة عام، ({وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}) [المجادلة: 11] تهديد لمن لم يمتثل الأمر أو استكرهه.
(وقوله) عز وجل: ({رَّبِّ}) وللأصيلي: {وقل رب} ، ({زِدْنِي عِلْمًا}) [طه: 114]؛ أي: سَلْهُ الزيادة منه؛ أي: بالقرآن؛ لأنَّه عليه السلام كلما نزل عليه شيء من القرآن ازداد به علمًا، وإنما اقتصر على هاتين
(2)
الآيتين في الاستدلال لما ترجم له؛ إمَّا لأنَّ القرآن العظيم أعظم الأدلة، أو لأنَّه لم يقع له حديث من هذا النوع على شرطه؛ لأنَّه أوَّلًا كان يكتب الأبواب والتراجم ثم يلحق فيها ما يناسبها من الأحاديث التي على شرطه، ولو لم يكن من فضيلة العلم وأهله إلَّا آية {شَهِدَ اللهُ} [آل عمران: 18] فبدأ الله
(1)
في الأصل (الصفات)، ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
في الأصل (هذين)، ولعل المثبت هو الصواب.