الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بمضمون السابقة؛ ومعناه: إنَّما يستقيم عمارة المساجد لهؤلاء الجامعين للكمالات العلمية والعملية، ومن عمارتها: تزيينها بالفرش، وتنويرها بالسرج والمصابيح، ورَمِّ
(1)
ما وَهَى منها وإصلاحه، وقمِّها، وتنظيفها، وتعظيمها، واعتيادها للعبادة والذكر، ومنه: درس العلم؛ بل هو أجلُّه وأعظمه، وصيانتها مما لم تبنَ له من أحاديث الدنيا، فضلًا عن فضول الحديث) انتهى.
قلت: وهذا إشارة إلى قوله تعالى: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ} [التوبة: 13]، وقوله:{فَلَا تَخَافُوَهُمْ وَخَافُونِ} [آل عمران: 175] فإن الخوف من المضار النفسانية أمر جبلِّي لا محذور فيه، وإنما المحذور ترجيح حق نفسه على حق الله تعالى، وأن يجعل فوات حظ نفسه كعذاب الله تعالى.
({فَعَسَى أُوْلَئَكَ أَن يَكُونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ})[التوبة: 18] جمع؛ مراعاة لمعنى {من} بعد الإفراد لمراعاة لفظها، قال البيضاوي:(ذكره بصيغة التوقع؛ قطعًا لأطماع المشركين في الاهتداء والانتفاع بأعمالهم، وتوبيخًا لهم بالقطع بأنَّهم مهتدون، فإن هؤلاء مع كمالهم إذا كان اهتداؤهم دائرًا بين «عسى» و «لعل»، فما ظنك بأضدادهم؟! ومنعًا للمؤمنين أن يغتروا بأحوالهم ويتكلوا على أعمالهم) انتهى، وقال الإمام نجم الدين النسفي:(«عسى» من الله إطماع، وإطماع الكريم إيجاب؛ أي: المستكملون هذه الأوصاف والخصال ثابتون على الهداية خارجون عن الضلالة)، وروى أبو سعيد الخدري عن النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد؛ فاشهدوا له بالإيمان، قال تعالى:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ}
…
» الآية [التوبة: 18]، وقال القشيري:(عمارة المساجد التي هي مواقف العبودية لا تتأتى إلا بتخريب أوطان البشرية، فالعابد يعمِّر المسجد بتخريب أوطان شهوته، والزاهد يعمِّره بتخريب أوطان مُنْيَته، والعارف يعمِّره بتخريب أوطان عِلاقَته، والموحِّد يعمِّره بتخريب أوطان ملاحظته، ولكلٍّ منهم صنف مخصوص، وكذلك رتبتهم في الإيمان مختلفة، فإيمان من حيث البرهان، وإيمان من حيث البيان، وإيمان من حيث العيان، وشتَّان ما هم) انتهى.
قال إمام الشَّارحين: (ثمَّ إنَّ البخاري ذكر هذه الآية من جملة الترجمة، وحديث الباب لا يطابقها، ولو ذكر قوله تعالى:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ} الآية؛ لكان أجدر وأقرب للمطابقة، ولكن يمكن أن يوجه ذلك وإن كان فيه بعض تعسُّف؛ وهو أن يقال: إنَّه أشار به إلى أنَّ التعاون في بناء المساجد المعتبر الذي فيه الأجر إنَّما يكون للمؤمنين، ولم يكن ذلك للكافرين وإن كانوا بنوا مساجد ليتعبدوا فيها بعبادتهم الباطلة، ألا ترى أنَّ العبَّاس لما أُسِر
(2)
يوم بدر وعيَّره علي بن أبي طالب بكفره وأغلظ له؛ ادَّعى أنَّهم كانوا يعمرون المسجد الحرام، فبيَّن ذلك الله تعالى أنَّه غير مقبول منهم؛ لكفرهم؛ حيث أنزل على نبيه:{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ} الآية [التوبة: 17]، ثم أنزل في حق المسلمين الذين يتعاونون في بناء المساجد قوله تعالى:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ}
…
؛ الآية، والمعنى: إنِّما العمارة المعتدة بها: عمارة من آمن بالله، فجعل عمارة غيرهم كلا عمارة؛ حيث ذكرها بكلمة الحصر، وروى عبد بن حميد في «مسنده» عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ عمَّار المسجد هم أهل الله» ورواه أبو بكر البزَّار، ولا شكَّ أنَّ أهل الله هم المؤمنون) انتهى.
واعترضه العجلوني فزاد في الطنبور نغمة، فزعم أنَّ الآيتين
(3)
مذكورتان في رواية أبي ذر التي ذكرها، وهما دالتان على فضيلة تعمير المساجد ومدح العامرين بها، انتهى.
قلت: وهذا كلام فاسد الاعتبار، وليس لقائله مسٌّ بفهم المعاني، فإنَّ كون الآيتان مذكورتين
(4)
في رواية أبي ذر لا ينافي أنَّ الآية الأولى من جملة الترجمة، وأنَّها لا تطابق حديث الباب، فكم ذكر المؤلف آية أو حديثًا في باب مترجم وهو لا يطابق الترجمة؟! لكن يجب على المؤلف أن يصدِّر بآية:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ} ؛ لأنَّ مراد المؤلف: الاستدلال على ما ترجم له، وهذه الآية صريحة في الدلالة على ذلك، وأن الآية الأخرى لا يُستدلُّ بها؛ لأنَّ العمارة المقبولة إنَّما هي من المؤمنين، وأمَّا الكفار؛ فلا يُعتدُّ بفعلهم، كيف يجعل فعل الكفار دليلًا على حكم من أحكام الله مع أنَّه تعالى قد ذمَّ فعلهم ذلك بقوله:{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ} الآية [التوبة: 17]؟!، فهذا ذمٌّ وعدم رضًا بهذا الفعل منهم فالآية الأولى تطابق الترجمة، وأمَّا الثاني؛ فإنَّها قريبة من التطابق لما ذكره إمام الشَّارحين من الوجه المذكور، على أنَّ الحديث المروي عن أنس صريح في أنَّ الذي يمدح في عمارة المسجد إنَّما هو المؤمن لا الكافر، فكيف يقول: (وهما دالَّتان
…
) إلخ؟ فمن أين جاءت الدلالة المذكورة؟ ومن أين جاء المدح للعامرين؟ نعم؛ مدح الله المؤمنين في الآية الثانية، وذمَّ ومنع المشركين في الآية الأولى، وما هذا إلا قول أضعف من [بيت] العنكبوت، فلا تغتر بكلام العجلوني، فإنَّه مشهور بالتعصب على إمام الشَّارحين، ولم يصل إلى مرتبة علمه في العالمين؛ فافهم.
وروى البغوي «بسنده» إلى أبي هريرة أنَّ النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم قال: «من غدا إلى المسجد وراح؛ أعدَّ الله له منزلة من الجنة كلَّما غدا وراح» ، وروى أيضًا بسنده إلى عثمان بن عفان أنَّه أراد بناء المسجد، فكره الناس ذلك وأحبُّوا أن يدعه، فقال عثمان: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من بنى لله مسجدًا؛ بنى الله له قصرًا كهيئته في الجنة» ، وفي لفظ له من طريق آخر:«بنى الله له بيتًا في الجنة» ، وقال صاحب «الكشاف» : وعن النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: «يأتي في آخر الزمان أناس من أمتي يأتون المساجد، يقعدون فيها حِلَقًا ذكرهم الدنيا وحب الدنيا، لا تجالسوهم، فليس لله فيهم حاجة» ، وعنه عليه السلام:«الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش» ، وقال عليه السلام:«من أَلِفَ المساجد؛ أَلِفَه الله» ، وعن أنس بن مالك: «من أَسْرَج في مسجد سراجًا؛ لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له ما دام في ذلك
(1)
في الأصل: (وذم)، وهو تحريف.
(2)
في الأصل: (أسرى).
(3)
في الأصل: (الآيتان)، وليس بصحيح.
(4)
في الأصل: (مذكورتان)، وليس بصحيح.
المسجد ضوءه» انتهى.
[حديث: ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة]
447 -
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا مسدد) : هو ابن مسرهد الأسدي البصري، (قال: حدثنا عبد العزيز بن مختار) أبو إسحاق الدباغ البصري الأنصاري، وفي بعض الأصول:(المختار)؛ باللام؛ للمح الأصل، (قال: حدثنا خالد الحَذَّاء)؛ بفتح المهملة، وتشديد المعجمة، هو ابن مهران البصري، (عن عكرمة) : هو مولى ابن عبَّاس، المفسِّر المشهور، وقد سكن البصرة (قال لي)؛ أي: قال: قال لي: (ابن عبَّاس) : هو عبد الله، حَبر هذه الأمة وترجمان القرآن، قال إمام الشَّارحين:(وهذا الإسناد كلُّه بصري؛ لأنَّ ابن عبَّاس أقام على البصرة أميرًا مدة وعكرمة معه) انتهى، (ولابنه) : معطوف على الياء بإعادة الجار؛ ليكون جائزًا اتفاقًا، والضمير فيه يرجع إلى ابن عبَّاس، وقوله:(عليٍّ)؛ بالجر بدل من ابنه، أو عطف بيان، هو ابن عبد الله بن عبَّاس بن عبد المطلب القرشي الهاشمي، وكنيته أبو الحسن، ويقال: أبو محمد، وكان مولده ليلة قتل علي بن أبي طالب؛ فسمي باسمه وكني بكنيته، وكان غاية في العبادة، والزهادة، والعلم، والعمل، وحسن الشكل، والثقة، وكان يدعى السجَّاد-بتشديد الجيم-؛ لكونه كثير الصلاة، فقد كان يصلِّي كلَّ يوم ألف ركعة، وكان له خمس مئة أصل زيتون، فيصلي في كل يوم عند أصل كل شجرة ركعتين، وهو جدُّ السفاح والمنصور الخليفتين، المتوفى قبل العشرين ومئة، إمَّا سنة أربع عشرة، أو سبع عشرة، أو عشرة، عن ثمان أو تسع وسبعين سنة، أفاده إمامنا الشَّارح، قلت: وقول العجلوني: (مات بعد العشرين ومئة) خطأ ظاهر: (انطلِقا)؛ بكسر الهمزة واللام: فعل أمر مثنَّى (إلى أبي سعيد) : هو سعد بن مالك بن سنان الخدري الأنصاري الخزرجي، (فاسمعا) ولأبي ذر:(واسمعا) بالواو (من حديثه)؛ أي: المطلق الذي يسمعه الناس، وزعم العجلوني: أنَّه يحتمل أنَّه عيَّن لهما الحديث يسألانه عنه أو أطلق، انتهى، قلت: ظاهر اللفظ يدل على الإطلاق، ويدل عليه أنَّه أتى به بصيغة التنكير، والاحتمال الأول بعيد جدًّا؛ لأنَّه لو كان مراده التعيين لعيَّن لهما الحديث لأجل السؤال عنه، وظاهر اللفظ يخالفه؛ فافهم، وقوله:(فانطلقنا) من مقول عكرمة؛ (فإذا هو) أي: أبو سعيد، وكلمة (إذا) ههنا للمفاجأة (في حائط) أي: بستان له وسمِّي به؛ لأنَّه لا سقف له كذا في «عمدة القاري» (يصلحه) جملة محلها الرفع؛ لأنَّها خبر لقوله: (هو)، وهل المراد بالإصلاح السقي أو الزراعة وحفر الأرض ونحوها؟ فإن اللفظ عام، وقد بيَّن المؤلف في (الجهاد) أنَّ المراد به الأول، ولفظه:(فأتيناه وهو وأخوه في حائطهما يسقيانه)، قال إمام الشَّارحين:(قيل: أخوه هذا لأمه وهو قتادة بن النعمان، ورُدَّ بأن هذا لا يصح؛ لأنَّ علي بن عبد الله بن عباس ولِد في آخر خلافة علي بن أبي طالب ومات قتادة بن النعمان قبل ذلك في أواخر خلافة عمر بن الخطاب، وليس لأبي سعيد أخ شقيق ولا أخ من أبيه ولا من أمه إلا قتادة، فيحتمل أن يكون المذكور هو أخوه من الرَّضاعة، والله أعلم) انتهى، (فأخذ رِدَاءه)؛ بكسر الراء وفتح الدال المهملتين، وهو ما يستر النصف الأعلى؛ أي: فأخذ أبو سعيد رداء نفسه.
قال العجلوني: كأنَّه بعد أن سألاه الحديث أو اتفق له ذلك، انتهى.
قلت: وهو غير ظاهر؛ لأنَّ المراد: سماع الحديث لا السؤال عنه، فإنَّه لم يقل لهما ابن عبَّاس: اذهبا فاسألانه؛ بل أَخْذُ الرداء قد اتفق له في هذه الحالة كما ذكرنا؛ فافهم.
(فاحتَبَى)؛ بالحاء المهملة، وفتح المثناة الفوقية، وفتح الموحدة؛ يقال: احتبى الرجل؛ إذا جمع ظهره وساقيه بعمامته، وقد يحتبي بيديه، كذا في «عمدة القاري» .
قال العجلوني: ويحتمل أنَّه احتبى بردائه.
قلت: واحتباء الرجل أن يقعد على أليتيه، وينصب ساقيه ملتفًّا في ثوبه الواحد، والظاهر أنَّه احتبى بردائه؛ لأنَّه كان في حائطه يصلحه، والغالب أن يكون غير محبيٍّ به، فلما فرغ من ذلك؛ أخذ ردائه، فاحتبى به، وهذه الاحتمالات من أجل عدم وجود لفظة (به)، فلو كانت؛ لتعين ما قلناه؛ فافهم.
(ثم أنشأ)؛ أي: شرع أبو سعيد، قال إمام الشَّارحين: وهي بمعنى: طفق، وهما من أفعال المقاربة، وضعا للدلالة على الشروع في الخبر، ويعملان عمل (كان) إلا أنَّ خبرهما يجب أن يكون جملة، ويشاركهما في هذا:(جعل) و (علق) و (أخذ)، انتهى، فقوله:(يحدثنا)؛ جملة محلها النصب خبر (أنشأ)(حتى أتى) أي: أبو سعيد (ذِكْرَ)؛ بالنصب مفعول (أتى)، وفي رواية كريمة والأربعة:(حتى إذا أتى على ذِكْرِ)، وفي رواية الأصيليوأبي ذر عن المستملي والكشميهني:(حتى أتى على ذكر)(بناء المسجد) أي: النبوي، فالألف واللام فيه للعهد (فقال) أي: أبو سعيد (كنا) أي: معشر الصحابة (نحمل لَبِنةً)؛ بفتح اللام، وكسر الموحدة، بعدها نون، وهي: الطوب النيئ، فإذا شوي بالنار؛ فهو الآجر؛ بالمد، وانتصابها على المفعولية لـ (نحمل)، وقوله:(لبنةً) بالتكرار؛ منصوب على التأكيد، وأفاد التكرار أنَّ كل واحد يحمل في كل مرة لبنة، (وعمَّار)؛ بتشديد الميم: هو ابن ياسر (لبنتين لبنتين)؛ بالتكرار أيضًا؛ يعني: يحمل عمَّار في كلِّ مرة لبنتين، وزاد معمر في روايته:(لبنة عنه ولبنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه زيادة أيضًا لم يذكرها البخاري، ووقفت عليها عند الإسماعيلي وأبي نعيم في «المستخرج» من طريق خالد الواسطي، عن خالد الحذَّاء؛ وهي: (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عمَّار؛ ألا تحمل كما يحمل أصحابك؟ قال: إني أريد من الأجر»)، قاله إمام الشَّارحين، قلت: يعني: يريد الزيادة في الثواب بحمله أكثر من أصحابه، (فرآه النبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ الضمير المنصوب فيه يرجع إلى عمَّار رضي الله عنه، (فينفض)؛ بالمضارع موضع الماضي؛ لاستحضار صورة النفض في نفس السامع حتَّى كأنَّه شاهده، ولابن عساكر وأبي الوقت:(فنفض)؛ بالماضي، وللأصيلي وعزاها إمام الشَّارحين للكشميهني:(فجعل ينفض)(التراب عنه)؛ أي: عن عمَّار، وزاد المصنف في (الجهاد) :(عن رأسه)، وكذا هي رواية مسلم، (ويقول)؛ أي: النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم في هذه الحالة (ويح عمَّار!)؛ بفتح الحاء المهملة لا غير، يحتمل أنَّه منادى بحذف حرف النداء على حد:{يَا حَسْرَةً عَلَى العِبَادِ} [يس: 30]، و (ويح) : كلمة رحمة، بخلاف (ويل)؛ فإنَّها كلمة عذاب، لكن كلام الجوهري وغيره صريح في أنَّ نصبه بفعل مقدَّر، فإنَّه قال: (تقول: ويحٌ لزيد وويلٌ له، برفعهما على الابتداء، ولك أن تقول: ويحًا لزيد وويلًا له، فتنصبهما بإضمار فعل، ولك أن تقول: ويحك وويلك، وويل زيد وويحه