الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فاسد؛ لأنَّه لو كان مقصود المؤلف من إيراد هذا الحديث تأكيد مذهبه في أن الماء لا ينجس بمجرد الملاقاة؛ لكان أورد حديثًا ظاهرَ المناسبة دالًّا على مذهبه، ولما كان يعتمد على حديث المناسبة فيه غير ظاهرة، بل هي خفية، وما هذا إلا تخمين ووهم مع أن المؤلف ليس مراده هنا بيان مذهبه ولا بيان الأحكام، بل مراده بيان الأحاديث الواردة التي استنبط منها العلماء الأحكام، فإن ظهر له منها حكم؛ ترجم به وصدره، وذكر الأحاديث التي أخذ منها العلماء الأحكام، ومع هذا فقد يذكر حديثًا يكون فيه حكم غير مطابق لما ترجم له في الظاهر، والحال أنه له حكم من الأحكام على أنَّ المؤلف قد أنكر حديث القلتين، وضعفه أشياخه من حيث اضطرابه سندًا ومتنًا وغير ذلك، وأنه لا يعتمد عليه كما بسطناه فيما قدمناه.
وأجاب ابن بطال: (بأنه إنَّما ذكر البخاري هذا الحديث في نجاسة الماء؛ لأنَّه لم يجد حديثًا صحيح السند في الماء، فاستدل على حكم المائع بحكم الدم المائع، وهو المعنى الجامع بينهما).
وردَّه في «عمدة القاري» : (بأنَّه وجه غير حسن لا يخفى) انتهى.
قلت: فإن المؤلف قد ذكر أحاديث صحيحة السند في الماء فيما سيأتي، وساقها في باب على حدة بأسانيد صحيحة.
فقوله: (لم يجد
…
) إلخ؛ ممنوع، وإن أراد بما ذكر حديث القلتين؛ فهو ظاهر؛ لأنَّه حديث ضعيف مضطرب من حيث السند والمتن لا اعتماد عليه.
وقوله: (فاستدل على حكم
…
) إلخ؛ هذا ممنوع أيضًا، فأي جامع بين المائع والدم، فإن الفرق بينهما ظاهر؟! وأي دليل على المعنى الجامع بينهما؟! وما هو إلا احتمال بعيد، وتخمين غير سديد؛ فافهم.
وأجاب ابن رشيد: (بأن مراد المؤلف أن انتقال الدم إلى الرائحة الطيبة هو الذي نقله من حالة الذم إلى حالة المدح، فحصل من هذا تغليب وصف واحد، وهو الرائحة على وصفين؛ وهما الطعم واللون، فيُسْتَنْبَطُ منه: أنه متى تغير أحد الأوصاف الثلاثة بصلاح أو فساد؛ تبعه الوصفان الباقيان) انتهى، وبمثله أجاب ابن المنيِّر والقشيري.
وردَّه في «عمدة القاري» : بأنَّ هذا ظاهر الفساد؛ لأنَّه لم يلزم منه إذا تغير وصف واحد بالنَّجاسة ألَّا يؤثر حتى يوجد الوصفان الآخران، وليس كذلك، فإن هذا لم ينقل إلا عن ربيعة، وكل هؤلاء الأوجه خارجون عن الدائرة، ولم يذكر واحد منهم وجهًا صحيحًا ظاهرًا لإيراد هذا الحديث في هذا الباب؛ لأنَّ هذا الحديث في بيان فضل الشهيد على الحكم المذكور فيه من أمور الآخرة، والحكم في الماء بالطهارة والنَّجاسة من أمور الدنيا، وكيف يلتئم هذا بذاك، ورعاية المناسبة في مثل هذه الأشياء بأدنى وجه يلمح فيه كافية، والتكلفات بالوجوه البعيدة غير مستملحة، واعتمد الجواب الذي صدرنا به السؤال في أول البحث، وهو الظاهر من المناسبة لهذا الحديث، وكل هذه الأوجه التي
(1)
قالها هؤلاء الشارحون خارجة عن دائرة المناسبة، فالذي قاله صاحب «عمدة القاري» هو الوجه الصواب، وعليه الاعتماد؛ لحصول وجهه بالنظر الصحيح، والقول الفصيح الذي لا غبار عليه، فلله در هذا المؤلف ما أغزر علمه وأوفر الفهم والذكاء! رحمه الله، ورضي عنه، والله تعالى أعلم.
(68)
[باب الماء الدائم]
(باب الماء الدائم)؛ بالجر صفة للمضاف إليه؛ أي: هذا باب في بيان حكم الماء الراكد؛ وهو الذي لا يجري من حيث البول فيه، والتوضؤ، والاغتسال منه، وفي رواية الأصيلي:(باب لا تبولوا في الماء الراكد؛ وهو الذي لا يجري)، وفي بعضها:(باب البول في الماء الدائم الذي لا يجري)، وتفسير (الدائم) : هو الذي لا يجري، وذكر قوله بعد ذلك:(الذي لا يجري) يكون تأكيدًا لمعناه، وصفة موضحة له، وقيل: للاحتراز عن راكد لا يجري بعضه؛ كالبرك ونحوها.
وردَّه في «عمدة القاري» قال: (قلت: فيه تعسف، والألف واللام في «الماء» إما لبيان حقيقة الجنس، أو للعهد الذهني، وهو الماء الذي يريد المكلف التوضؤ به، والاغتسال منه) انتهى.
[حديث: نحن الآخرون السابقون]
238 -
وبه قال: (حدثنا أبو اليَمَان)؛ بفتح التحتية، وتخفيف الميم: هو الحَكَم -بفتحتين- بن نافع (قال: أخبرنا شعيب) هو ابن أبي جمرة (قال: حدثنا) : وفي رواية: (أخبرنا)(أبو الزِّناد)؛ بكسر الزاي، وتخفيف النُّون: عبد الله بن ذكوان: (أنَّ عبد الرحمن بن هُرْمُزَ)؛ بضمِّ الهاء، وسكون الرَّاء، وضم الميم، والمنع من الصرف؛ لأنَّه أعجمي، ففيه العلمية والعجمة (الأعرج) صفته (حدَّثه)؛ أي: حدَّث أبا الزِّناد: (أنَّه سمع أبا هريرة) عبد الرحمن بن صخر رضي الله تعالى عنه: (أنَّه سمع) : وللأصيلي: (قال: سمعت)، ولابن عساكر:(أنَّه يقول: سمعت)(رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول) جملة محلها نصب على الحال: (نحن الآخِرون)؛ بكسر الخاء المعجمة، جمع الآخر بمعنى المتأخر، يذكر في مقابلة الأول، وبفتحها جمع لآخر أفعل التفضيل، وهذا المعنى أعم من الأول، والرواية بالكسر فقط؛ ومعناه: نحن المتأخرون في الدنيا من حيث الوجود، فإنَّا آخر الأمم وجودًا، ولا توجد بعدنا أمة، بل نحن الآخرون (السابقون)؛ أي: المتقدمون في الآخرة من حيث البعث، والحساب، ودخول الجنة.
قال في «عمدة القاري» : والحكمة في تقديم هذا الحديث فقد اختلفوا فيها؛ فقال ابن بطال: يحتمل أن يكون أبو هريرة سمع ذلك من النبيِّ عليه السلام، وما بعده في نسق واحد، فحدَّث بهما جميعًا، ويحتمل أن يكون همَّام فعل ذلك؛ لأنَّه سمعهما من أبي هريرة، وإلا؛ فليس في الحديث مناسبة للترجمة، قيل: في الاحتمال الأول نظر؛ لتعذره، ولأنَّه ما بلغنا أن النبيَّ عليه السلام حفظ عنه أحد في مجلس واحد مقدار هذه النسخة صحيحًا إلا أن يكون من الوصايا الغير الصحيحة، ولا يقرب من الصحيح، وقال ابن المنير: ما حاصله: أن همَّامًا راويه روى جملة أحاديث عن أبي هريرة استفتحها له أبو هريرة بحديث: «نحن الآخِرون» ، فصار همام كلما حدث عن أبي هريرة؛ ذكر الجملة من أولها، وتبعه البخاري في ذلك، وذلك في مواضع أخرى في كتابه في (الجهاد)، و (المغازي)، و (الأيمان والنذور)، و (قصص الأنبياء) عليهم السلام، و (الاعتصام) ذكر في أوائلها كلها:(نحن الآخرون السابقون)، وقال ابن المنير: هو حديث واحد، فإذا كان واحدًا؛ تكون المطابقة في آخر الحديث، وفيه نظر؛ لأنَّه لو كان واحدًا؛ لما فصله البخاري بقوله:(وبإسناده)، وأيضًا فقوله:(فنحن الآخرون) طرف من حديث مشهور في ذكر يوم الجمعة، ولو راعى البخاري ما ادعاه؛ لساق المتن بتمامه، ويقال: الحكمة في هذا أن حديث: (نحن الآخرون السابقون) أول حديث في صحيفة همَّام عن أبي هريرة، كان همَّام إذا روى الصحيفة؛ استفتح بذكره، ثم سرد
(2)
الأحاديث، فوافقه البخاري ههنا، ويقال: الحكمة فيه: أن من عادة المحدثين ذكر الحديث جملة؛ لتضمنه موضع الدلالة المطلوبة، ولا يكون ما فيه مقصودًا بالاستدلال، وإنما جاء تبعًا لموضع الدليل، وفيه نظر لا يخفى، وزعم الكرماني ناقلًا عن بعض أهل العصر مناسبة صدر الحديث لآخره: أن هذه الأمة آخر من يُدْفَنُ من الأمم، وأول من يُخْرَجُ منها؛ لأنَّ الأرض لهم وعاء، والوعاء آخر ما يوضع فيه، وأول ما يخرج منه، وكذلك الماء الراكد آخر ما يقع فيه من البول أول ما يصادف أعضاء المتطهر منه، فينبغي أن يجتنب ذلك ولا يفعله، قلت: فيه جر الثقيل، ولا يشفي الغليل، انتهى كلام صاحب «عمدة القاري» .
قلت: وقيل: ووجهه: أن بني إسرائيل وإن سبقوا في الزمان؛ لكنَّ هذه الأمة سبقتهم
(1)
في الأصل: (الذي)، وليس بصحيح.
(2)
في الأصل: (سود)، وهو تحريف.
باجتناب الماء الراكد إذا وقع فيه البول، فلعلهم كانوا لا يجتنبون.
وردَّ بأنَّ بني إسرائيل كانوا أشدَّ مبالغة في اجتناب النَّجاسة، فكيف يظن بهم التساهل في هذا؟ ألا ترى أن أحدهم إذا أصاب ثوبه نجاسة؛ قرضه بالمقراض؛ تحرُّزًا عن النَّجاسة، وقيل: الصواب أن البخاري يذكر في الغالب الشيء كما سمعه جملة؛ لتضمنه موضع الدلالة وإن لم يكن باقيه مقصودًا، وليس غرضه منها إلا الحديث الأخير، لكنَّه أداهما على الوجه الذي سمعها.
قلت: وفيه نظر؛ لأنَّه لا يلزم من ذكره كما سمعه أن يذكر الجملة المشتملة على الحديثين في سياق واحد، ويكون غرضه منها أحدهما، بل يجوز أن يَذْكُرَ الحديث الواحد المتضمن للدلالة فقط ويَتْرُكَ غيره، ونظير ذلك: ما ذكره في أول باب (النية)، فإنَّه ذكر قطعة من الحديث متضمنة لما ترجم له، وساقه بتمامه في موضع آخر؛ لبيان غرضه؛ فافهم.
والظاهر: أنَّ المؤلف ساق الحديث الأول بسنده، ثم أسند الثاني إلى شيخه، ولم يذكر سنده؛ للاختلاف في سنده وأشياخه من حيث تعدُّد طرقه، فإن الحديث الثاني قد ساقه الإمام الحافظ أبو جعفر الطَّحاوي، وأخرجه من عشرة طرق، وكلها صحيحة كما ستقف عليها، ولأنَّ ذلك يفيد قوَّة على الحديث الأول على أنَّه قد اختلف أيضًا في لفظ متنه كما ستعلمه، فلهذا: المؤلف اقتصر على قوله: (وبإسناده) وساق الحديث الأول؛ فافهم.
239 -
(وبإسناده) : الضمير يرجع إلى الحديث؛ أي: حدثنا أبو اليمان بالإسناد المذكور، قال الحافظ أبو جعفر الطحاوي: حدَّثنا صالح بن عبد الرحمن بن عمرو بن الحارث الأنصاري، وعلي بن شيبة بن الصلَّت البغدادي قالا: حدَّثنا عبد الله بن يزيد المقري قال: سمعت ابن عوف يحدِّث عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة قال:(نهى -أو نهي- أن يبول في الماء الدائم -أي: الراكد - ثم يتوضأ منه، أو يغتسل فيه).
الطريق الثاني: حدثنا علي بن سَعِيْد بن نوح البغدادي قال: حدثنا عبد الله بن بكر السهمي قال: حدثنا هشام بن حسَّان، عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا يبولنَّ أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه» ، وأخرج مسلم نحوه.
الطريق الثالث: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرني أنس بن عياض الليثي، عن الحارث بن أبي ذئاب- وهو رجل من الأزد- عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يبولنَّ أحدكم في الماء الدائم، ثم يتوضأ منه أو يشرب» ، وأخرجه البيهقي بنحوه إسنادًا ومتنًا.
الطريق الرابع: حدثنا يونس قال: أخبرني عبد الله بن وهب قال: أخبرني عمرو بن الحارث: أن بكير بن عبد الله بن الأشبح حدَّثه: أن أبا السائب مولى هشام بن زهرة حدثه: أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يَغْتَسِلُ أحدُكم في الماء الدائم وهو جنب» ، فقال: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولًا، وأخرجه ابن حبان في «صحيحه» نحوه: (عن عبد الله بن مسلم، عن حرملة بن يحيى، عن عبد الله بن وهب
…
) إلى آخره.
الطريق الخامس: حدَّثنا ابن أبي داود قال: حدثنا سَعِيْد بن الحكم بن أبي مريم قال: أخبرني عبد الرحمن بن أبي الزناد قال: حدثني أبي، عن موسى بن أبي عثمان، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا يبولنَّ أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل منه» .
الطريق السادس والسابع: حدثنا حسن بن نصر البغدادي قال: حدثنا محمَّد بن يوسف الفريابي قال: حدثنا سفيان.
(ح) : وحدثنا فهد قال: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا سفيان، عن أبي الزناد؛ فذكر مثله.
الطريق الثامن: حدثنا الربيع بن سليمان المرادي قال: حدثنا أسد بن موسى قال: حدثنا عبد الله بن لهيعة قال: حدثنا عبد الرحمن الأعرج قال: سمعت أبا هريرة يقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يبولنَّ أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل» .
الطريق التاسع: حدَّثنا الربيع بن سليمان الجيزي قال: حدَّثنا أبو زرعة وهبة الله بن راشد قال: أخبرنا حيوَة بن شريح قال: سمعت ابن عجلان يحدِّث عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا يبولنَّ أحدكم في الماء الراكد، ولا يغتسل منه» .
الطريق العاشر: حدَّثنا إبراهيم بن منقذ العضوي قال: حدثني إدريس بن يحيى قال: حدثنا عبد الله بن عياش، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مثله غير أنه قال:«ولا يغتسل فيه جنب» ، وتمامه في «عمدة القاري» .
(قال) أي: النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم: (لا يبولَنَّ)؛ بفتح اللام، وبنون التأكيد الثقيلة، وفي رواية ابن ماجه:(لا يبول)؛ بغير نون التأكيد (أحدكم) : خطاب خاص المراد به العام (في الماء الدائم) : من دام الشيء يدوم ويدام، يقال: ديمًا ودوامًا وديمومة، قال ابن سيده: وأصله من الاستدارة؛ لأنَّ أصحاب الهندسة يقولون: إن الماء إذا كان بمكان؛ فإنه يكون مستديرًا في الشكل، ويقال: الدائم: الثابت الواقف الذي لا يجري، فقوله:(الذي لا يجري) إيضاح لمعناه، وتأكيد له، ولهذا لم يذكر هذا القيد في رواية مسلم عن جابر، ولا في بعض الروايات، وقيل: احترز به عن الماء الدائر وإن كان جاريًا من حيث الصورة، ساكن من حيث المعنى، وقيل: الدائم: الراكد، كما جاء في بعض الروايات، وفي «تاريخ نيسابور» :(الماء الراكد: الدائم)، وقيل: الدائم والراكد مقابلان للجاري، لكن الدائم: هو الذي له نبع، والراكد: لا نبع له، ويطلق الدائم أيضًا على الجاري؛ كالأنهار التي لا ينقطع ماؤها؛ لديمومة مائها واستمراره، لكنه غير مراد هنا، واحترز به عن الجاري كلًّا أو بعضًا؛ كالبرك التي يجري بعضها، وكالبحرات التي في ديارنا الشريفة الشامية، فإن الجاري إذا خالطه الشيء النجس؛ دفعه الجزء الثاني الذي يتلوه فيغلبه، فيصير في معنى المستهلَك، ويخلفه الطاهر الذي لم يخالطه النجس، فلا ينهى عنه نهي تحريم، بل تنزيه، وأما الراكد؛ فلا يدفع النجس عن نفسه إذا خالطه، بل يتداخله، فمهما أراد استعمال شيء منه؛ كان النجس فيه قائمًا، فالنهي فيه للتحريم، ولهذا قال العلماء: النهي عن البول في الماء يرجع إلى الأصول، فإن كان الماء جاريًا أو ما في حكمه؛ فالنهي للتنزيه، وإن كان راكدًا قليلًا؛ فالنهي للتحريم.
وزعم ابن الأنباري أن الدائم من الأضداد، يقال للساكن والدائر، انتهى.
قلت: لكنه للساكن حقيقة، وللدائر وغيره مجازًا، فهو من باب عموم المجاز بأن تجعل الحقيقة فردًا من أفراد ذلك المجاز، فالحمل في قوله:(الذي لا يجري) على التأكيد أو التوضيح أولى وأوجه؛ لأنَّ الذي لا يجري هو الساكن حقيقة؛ فليحفظ، لا يقال: لو لم يقل: (لا يجري)؛ لكان مجملًا؛ لأنَّا نقول: الدائم: هو الذي لا يجري حقيقة، فهو إيضاح لمعناه، وتأكيد له؛ لأنَّ الدائم هو الساكن الذي لا يجري، كما لا يخفى؛ فافهم، على أنه قد فسر النبيُّ الأعظم عليه السلام الدائم: بأنَّه هو الذي لا يجري، فلا يجوز العدول عن هذا التفسير، والدائم: يشمل القليل؛ كالبحرات التي في ديارنا، والكثير: وهو الذي لم يبلغ عشرًا في عشر، فإن النجس ينجِّسه وإن لم يتغير في الظاهر، لكنه متغير من حيث إنَّ النجس اختلط في أجزاء الماء، والله تعالى أعلم.
(ثم يغتسل فيه)؛ أي: أو يتوضأ؛ أي: في الدائم الذي لا يجري، وتفرد المؤلف بلفظ:(فيه) هنا،
وفي رواية ابن عيينة عن أبي الزناد: (ثم يغتسل منه)؛ بكلمة (من)، وكل واحد من اللفظين يفيد حكمًا بالنص وحكمًا بالاستنباط، كذا في «عمدة القاري» ، وذلك لأنَّ لفظة (فيه) تدل على منع الانغماس بالنص، وعلى منع التناول بالاستنباط، ولفظة:(منه)؛ بعكس ذلك، ويدل لهذا ما قدَّمنا عن أبي هريرة حيث قال:(يتناوله تناولًا)؛ أي: بإناء صغير أو بأصابعه مضمومة، كما سبق البحث فيه، قال في «عمدة القاري» : يجوز في (يغتسل) ثلاثة أوجه: الجزم: عطفًا على (لا يبولنَّ)؛ لأنَّه مجزوم الموضع بـ (لا) التي للنهي، ولكنه بني على الفتح؛ لتوكيده بالنُّون، والرفع: على تقدير: ثم هو يغتسل فيه، وهو المشهور في الرواية، والنصب: على إضمار (أن)، وإعطاء (ثم) حكم واو الجمع، ونظيره في الأوجه الثلاثة قوله تعالى:{ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ} [النساء: 100]، فإنه قرئ بالجزم للسبعة، والرفع والنصب على الشذوذ.
وزعم النووي أنَّه لا يجوز النصب؛ لأنَّه يقتضي أنَّ المنهيَّ عنه الجمع بينهما دون إفراد أحدهما، وهذا لم يقلْه أحدٌ، بل البول فيه منهيٌّ عنه سواء أراد الاغتسال فيه أو منه أم لا.
وردَّه في «عمدة القاري» بأنه أراد تشبيه (ثم) بـ (الواو) في جواز النصب بعدهما لا في اقتضاء الجمع، ولئن سلمنا ذلك؛ فلا يضرنا؛ إذ كون الجمع منهيًّا عنه يعلم من دليل آخر؛ كما في قوله تعالى:{وَلَا تَلْبِسُوا الحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الحَقَّ} [البقرة: 42] : على تقدير النصب، انتهى، ومثله كحديث مسلم مرفوعًا:(نهى النبيُّ عليه السلام عن البول في الماء الراكد)، وكحديثه عن أبي هريرة:«لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب» ، وذكر مثله في «المغني» ، وقال: إن إجراء (ثم) مجرى (الفاء) و (الواو) هو مذهب الكوفيين.
ومنع القرطبي النصب أيضًا فقال: إذ لا تُضْمَرُ (إن) بعد (ثم)، ولو أراد النهي؛ لقال: ثم لا يغتسل، فحينئذٍ يتساوى الأمران في النهي عنهما؛ لأنَّ المحل الذي توارد عليه شيء واحد، وهو الماء، قال: فعدوله عن ذلك يدلَّ على أنَّه لم يرد العطف، بل (فيه) على مآل الحال؛ والمعنى: أنه إذا بال فيه قد يحتاج إليه، ويمتنع عليه استعماله، ومثَّله بقوله عليه السلام:«لا يضربنَّ أحدكم امرأته ضرب الأمة، ثم يضاجعها» ، فإنه لم يروِه أحد بالجزم؛ لأنَّ المراد: النهي عن الضرب؛ لأنَّه يحتاج إليه في مثل حاله إلى مضاجعتها، فتمتنع لإساءته إليها، فلا يحصل له مقصوده، وتقديره: ثم هو يضاجعها، وفي حديث الباب:(ثم هو يغتسل منه).
وردَّ بأنَّه لا يلزم من تأكيد النهي ألا يُعْطَفَ عليه نهيٌ آخر غير مؤكد؛ لاحتمال أن يكون للتأكيد في أحدهما معنًى ليس للآخر، وهذا ظاهر؛ فافهم.
فالحاصل: أنَّه يجوز في (يغتسل) ثلاثة أوجه؛ فليحفظ.
قال إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» : احتج بالحديث أصحابنا على أن الماء الذي لا يبلغ الغدير العظيم إذا وقعت فيه نجاسة؛ لم يجز الوضوء به قليلًا كان أو كثيرًا، وعلى أنَّ القلَّتين تحمل النَّجاسة؛ لأنَّ الحديث مطلق، فبإطلاقه يتناول القليل، والكثير، والقلتين، والأكثر منهما، ولو قلنا: إنَّ القلتين لا تحمل النجاسة؛ لم يكن للنهي فائدة، على أنَّ هذا الحديث أصح من حديث القلَّتين، انتهى.
قلت: بل حديث القلَّتين مما لا يثبت، كما صرَّح به الحفَّاظ، فهو بالجملة ضعيف واه لا يُعْمَلُ به.
وزعم ابن قدامة: أن حديث القلَّتين وحديث بئر بضاعة نصٌ يخالف ما ذهب إليه الأئمَّة الحنفية، وبئر بضاعة لا يبلغ إلى الحدِّ الذي يمتنع التنجيس عندهم.
وردَّه إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» فقال: (لا نسلم أن هذين الحديثين نصٌ في خلاف مذهبنا، أمَّا حديث القلَّتين؛ فلأنَّه مضطرب سندًا ومتنًا، والقلَّة في نفسها مجهولة، والعمل بالصحيح المتَّفق عليه أولى وأقرب، وأمَّا حديث بئر بضاعة؛ فإنَّا نعمل به، فإنَّ ماءها كان جاريًا) انتهى.
قلت: وبِضاعة: اسم امرأة، وهي بكسر الموحدة وضمها: بئر قديمة بالمدينة، يلقى فيها الجيف ومحايض النساء، فذكر ذلك للنبيِّ عليه السلام حين توضأ منها، فقال:«الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو ريحه أو طعمه» ، وقد كان ماؤها جاريًا في البساتين يسقى منه خمسة بساتين، وفي الماء الجاري لا ينجس بوقوع النَّجاسة عندنا.
لا يقال: العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، فكيف اختص بئر بضاعة مع وجود دليل العموم فيه، وهو الألف واللام؟
لأنَّا نقول: هذا ليس من باب الخصوص في شيء، وإنَّما هو من باب الحمل للتوفيق، فإن الحديثين إذا تعارضا وجُهل تاريخهما؛ جُعل كأنهما وردا معًا، ثم بعد ذلك إن أمكن العمل بهما؛ يحمل كلٌّ منهما على محمل، وإن لم يمكن؛ يطلب الترجيح، وإن لم يمكن؛ تهاترتا، وههنا: أمكن العمل بأن يحمل هذا الحديث على بئر بضاعة، وحديث المستيقظ وحديث الباب على غيرها، فعلمنا بذلك دفعًا للتناقض على أنَّ حديث بئر بضاعة لم يثبت، كما ذكره الدارقطني وغيره، فلا يعارض الصحيح القوي، وقال البيهقي: إنه غير قوي، فلا يصحُّ الاستدلال به، وإنما صحَّ بدون استثناء، وظاهره: أنه غير مراد إجماعًا؛ لأنَّه إذا تغيَّر بالنَّجاسة؛ تنجَّس إجماعًا، كذا قرره في «منهل الطلاب» .
فقول ابن قدامة: (وبئر بضاعة لا يبلغ
…
) إلخ فاسد؛ لما علمت، على أنَّ البيهقي روى عن الشافعي: أن بئر بضاعة كانت كثيرة الماء واسعة، وكان يُطرح فيها من الأنجاس ما لا يغيِّر لها لونًا، ولا طعمًا، ولا ريحًا؛ فافهم.
ثم قال إمام الشارحين: فإن قالوا: حديثكم عامٌّ في كل ماء، وحديثنا خاصٌّ فيما يبلغ القلَّتين، وتقديم الخاصِّ على العام متعين، كيف وحديثكم لا بدَّ من تخصيصه، فإنَّكم وافقتمونا على الماء الكثير الذي يزيد على عشرة أذرع، وإذا لم يكن بدٌّ من التخصيص، فالتخصيص بالحديث أولى؟
قلنا: لا نسلِّم أنَّ تقديم الخاص على العام متعين، بل الظاهر من مذهب الأئمَّة الحنفية ترجيح العام على الخاص في العمل به، كما في تحريم
(1)
بئر الناضح، فإنَّه رجح قوله عليه السلام:«من حفر بئرًا؛ فله مما حولها أربعون ذراعًا» على الخاص الوارد بقوله عليه السلام: «ليس فيما دون خمس أوسق صدقة» ، ونُسخ الخاص بالعام.
وقولهم: (التخصيص بالحديث أولى) قلنا: هذا إنَّما يتمُّ ويكون؛ إذا كان الحديث المخصص غير مخالف للإجماع، وحديث القلَّتين خبر آحاد، ورَدَ مخالفًا لإجماع الصحابة، فيُرَدُّ.
وبيانه: أن ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهما أفتيا في زنجيٍّ وقع في بئر زمزم بنزح الماء كله، ولم يَظْهَرْ أثرُه في الماء، وكان الماء أكثر من قلَّتين، وذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم، ولم يُنْكِرْ عليهما أحد منهم؛ فكان إجماعًا، وخبر الواحد إذا ورد مخالفًا للإجماع؛ يُردُّ، ويدلُّ لهذا أنَّ علي ابن المديني قال:(لا يثبت هذا الحديث عن النبيِّ عليه السلام، وكفى به قدوة في هذا الباب، وقال أبو داود: (لا يكاد يصحُّ لواحد من الفريقين حديث عن النبيِّ عليه السلام في تقدير الماء)، وقال صاحب «البدائع» :(ولهذا رجع أصحابنا في التقدير إلى الدَّلائل الحسِّية دون الدلائل السَّمعية) انتهى.
ثم قال إمام الشارحين: فهذا الحديث عامٌّ، فلا بدَّ من تخصيصه اتفاقًا بالماء المستبحر الذي لا يتحرك أحد طرفيه بتحرك الطرف الآخر؛ لما قلنا، أو بالعمومات الدَّالة على طهورية الماء ما لم يتغير أحد أوصافه الثلاثة، كما ذهب إليه مالك، أو بحديث القلَّتين، كما ذهب إليه الشافعي، وزعم ابن حجر: أن التفصيل بالقلَّتين أقوى؛ لصحة الحديث فيه، وقد اعترف الطحاوي من الحنفية بذلك، لكنه اعتذر عن القول به: بأنَّ القلَّة في العرف تطلق على الكبيرة والصغيرة والجرَّة، ولم يثبت في الحديث تقديرها، فيكون مجملًا، فلا يُعْمَلُ به، وقوَّاه ابن دقيق العيد، قال إمام الشارحين: هذا القائل ادَّعى، ثم أبطل دعواه بما ذكره، فلا يحتاج إلى ردِّ كلامه بشيء آخر.
(1)
في الأصل: (حريم).
واعترضه العجلوني، فقال:(ليتأمل كلامه من أين أبطل دعواه بما ذكره؟) انتهى.
قلت: كيف خفي عليه ذلك، وهو ظاهر لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم؟ فإن قوله: (القلة في العرف تطلق
…
) إلخ؛ دليل ظاهر على إبطال مدَّعاه، وذلك لأنَّ القلَّة في نفسها مجهولة؛ لأنَّها تذكر ويراد بها: قامة الرجل، وتذكر ويراد بها: رأس الجبل، كما روي ذلك عن علي رضي الله عنه، وتذكر ويراد بها: الجرَّة، وتطلق على الكبيرة والصغيرة، فلا ريب أنَّها مجهولة، وبالمجهول لا يثبت الأحكام.
وقوله: (ولم يثبت في الحديث تقديرها) : ظاهر أيضًا في إبطال دعواه؛ لأنَّه إذا لم يثبت تقديرها في الحديث؛ كيف يصح ويجوز العمل به؟!
وقوله: (فيكون مجملًا، فلا يعمل به) : ظاهر أيضًا في إبطال دعواه؛ لأنَّ المجمل لا يجوز العمل به.
وقول الشافعي: (بقلال هجر) منقطع للجهالة التي ذكرناها، والتعيين لـ (قلال هجر)، إنَّما جاء من قول جرير، وهو غير ثابت من غيره، فالتَّعيين بقول جرير لا يثبت؛ لأنَّه مقلِّد فيبقى الاحتمال، ويبطل الاستدلال؛ فافهم.
ونقل العجلوني عن القاسم بن سلام: أن المراد بالقلة: الكبيرة، إذ لو أراد الصغيرة؛ لم يحتج لذكر العدد، فإن الصغيرتين قدر واحدة كبيرة، ويُرجع في الكبيرة إلى العرف، والظاهر: أن الشارع ترك تحديدهما على سبيل التوسعة، والعلم محيط بأنَّه ما خاطب الصحابة إلا بما يفهمونه، فانتفى الإجمال، لكن لعدم التحديد وقع الخلف بين السلف في مقدارهما على تسعة أقوال حكاها ابن المُنْذِر، ثم حدَّث بعد ذلك تحديدهما بالأرطال، انتهى.
قلت: وهذا فاسد، فأيُّ دليل دلَّه على أنَّ المراد بالقلة: الكبيرة، وما هي إلا دعوى باطلة؟
وقوله: (إذ لو أراد الصغيرة
…
) إلخ؛ ممنوع، فإن ذكر العدد يحتاج إليه في الكبيرة قطعًا؛ إذ لا فرق بين الكبيرة والصغيرة من حيث العدد.
وقوله: (فإن الصغيرتين
…
) إلخ؛ هذا دليل فاسد، فإنَّ المقادير لا تقدَّر بالرأي، بل بالدليل الظاهر، وهنا ليس كذلك.
وقوله: (ويرجع في الكبيرة
…
) إلخ؛ فاسد، فإن العرف في هذا لا مجال له؛ لأنَّه يختلف باختلاف الأزمان، والبلدان، والأشخاص، فيلزم أن تكون في زمن مقدرة بشيء، وفي غيره بعده بشيء آخر، وكذا في بلد وبلد، وهذا تناقضٌ وقولٌ بالرأي بعينه، وهو مردودٌ لا يُعْمَلُ به.
وقوله: (والظاهر
…
) إلخ، من أين جاءه هذا الظاهر وما هو إلا دعوى من غير دليل؟! فأي ظاهر ظهر له من غير دليل؟!
وقوله: (على سبيل التوسعة) : ممنوع، فإنَّ الشارع لو كان مراده التوسعة؛ لبين مقدارها، ولكن علم أنَّها مجهولة في لسان العرب، تطلق ويراد بها: قامة الرجل إلى غير ذلك كما تقدم.
وقوله: (والعلم محيط
…
) إلخ؛ هذا فاسد، فإن الصحابة رضي الله عنهم كان لهم إطلاقات في القلَّة، فإن عليًّا رضي الله عنه كان يطلق القلَّة، ويريد بها: قامة الرجل، ويطلقها ويريد بها: رأس الجبل.
فقوله: (فانتفى الإجمال)؛ ممنوع، بل ثبت الإجمال، وثبتت الجهالة، كما لا يخفى.
وقوله: (لكن لعدم
…
) إلخ؛ استدراك لما قدمه، وفيه إبطال لما ادعاه من عدم الإجمال، وقد رجع إلى القول بالإجمال والجهالة، فإنَّ عدم تحديدها هو عين الإجمال والجهالة.
وقوله: (وقع الخلف
…
) إلخ؛ فإن الخلاف الواقع بين السلف في مقدارها على الأقوال المذكورة دليل ظاهر على الإجمال والجهالة؛ لأنَّها لو كانت معلومة؛ لم يقع الخلاف في مقدارها، والتقدير الذي حدث بعد ذلك بالأرطال هو قولٌ بالرأي بعينه، وهو مردودٌ غير مقبول؛ لأنَّه لم يثبت عن النبيِّ الأعظم عليه السلام، ولم يُنْقَل عنه أصلًا، ولا عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولا عن أحد من التابعين، بل اختراع ورأي فاسد على أن قدمنا عن علي ابن المديني شيخ المؤلِّف أنَّه قال:(حديث القلَّتين مما لا يثبت)، وقال البيهقي:(إنه غير قوي)، وقد تركه الغزالي والروياني مع شدَّة تعصبهما للشافعي؛ لشدَّة ضعفه، فلا يعارض القوي الصحيح، وإذا كان كذلك؛ فالاشتغال بردِّه لا حاجة إليه؛ لأنَّه لا يعمل به، ولا يعتمد عليه، لا سيما ومسائل الطهارة مبنيَّة على الاحتياط، وهنا ليس كذلك، بل فيه عدمه؛ فليحفظ.
واستدلَّ بالحديث الإمام الثاني أبو يوسف قدس سره على نجاسة الماء المستعمل، فإنه قرن فيه بين الغسل فيه والبول فيه، أمَّا البول فيه؛ فينجسه، فكذلك الغسل، وفي دلالة القران بين الشيئين مع استوائهما في الحكم خلاف بين العلماء، فالمذكور عن الإمام أبي يوسف وتبعه المزني ذلك، وخالفهما غيرهما.
واعترض ابن حجر، فزعم أن دلالة القران ضعيفة.
وردَّه في «عمدة القاري» : بأنَّ هذا عجيب منه، فإذا كانت دلالة القران صحيحة عندهم؛ فقوله:(وهي ضعيفة) يردُّ على قائله على أنَّ مذهب أكثر أصحاب إمامه مثل مذهب الإمام أبي يوسف على تنجُّس الماء المستعمل، فإنَّ البول ينجِّس الماء، فكذلك الاغتسال فيه.
ثم قال ابن حجر: وعلى تقدير تسليمها قد يلزم التسوية، فيكون النهي عن البول؛ لئلا ينجسه، وعن الاغتسال؛ لئلا يسلبه الطهورية.
وردَّه في «عمدة القاري» : بأنَّ هذا أعجب من الأول؛ لأنَّه تحكم حيث لا يفهم هذه التسوية من نظم الكلام، والذي احتجَّ به في نجاسة الماء المستعمل يقول بالتسوية من نظم الكلام.
ثم قال ابن حجر: ويزيد ذلك وضوحًا ما في رواية مسلم: (كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولًا)، فدلَّ على أنَّ المنع عن الانغماس فيه؛ لئلا يصير مستعملًا، فيمتنع على الغير الانتفاع به، والصحابي أعلم بموارد الخطاب من غيره، وهذا من أقوى الأدلة على أنَّ المستعمل غير طهور، انتهى.
قلت: هذا أعجب مما تقدم، فإن رواية مسلم:(يتناوله تناولًا) تدل على النَّجاسة صريحًا؛ لأنَّه دلَّ على منع الانغماس فيه، وأنَّه يأخذ منه بإناء صغير حتى يُفْرِغَ على بدنه وأعضائه، فالمنع عن الانغماس فيه لئلا يصير نجسًا، فيمتنع على الغير الانتفاع به بالكلية، فهذا دليل ظاهر على النَّجاسة، وزاد دليل النَّجاسة وضوحًا، لا كما زعم، فإنه يفهم الشيء بالعكس.
وقوله: (والصحابي أعلم
…
) إلخ سلَّمنا أنه أعلم، لكنَّه هنا لم نسلِّم أنَّه فهم من كلامه أنَّ المستعمل طاهر، بل قوله:(يتناوله تناولًا) : يعمُّ معنيين: النَّجاسة وهو الأظهر، والطهارة وهو بعيد؛ لأنَّ التناول الأخذ بإناء من إناء آخر، وهو يدلُّ على كمال التحرُّز، وهو يفيد أنَّه ينجس.
وقوله: (وهذا من أقوى
…
) إلخ، بل هذا دليل واهٍ أوهى من بيت العنكبوت، فإن الأدلة على النَّجاسة ظاهرة؛ كالشمس في رابعة النهار، تقدَّم لنا الكلام عليها، وهذا منها؛ فليحفظ.
وقال إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» : (في الحديث: التأديب بالتنزُّه عن البول في الماء الراكد، وقد أخذ داود الظاهري بظاهر هذا الحديث، وقال: النهي مختصٌّ بالبول، والغائط ليس كالبول، ومختص ببول نفسه، وجاز لغير البائل أن يتوضأ بما بال فيه أيضًا، وجاز أيضًا للبائل إذا بال في إناء، ثم صبه في الماء، أو بال بقرب الماء، ثم جرى إليه، وهذا أقبح ما نُقِلَ عنه) انتهى.
قال العجلوني: تخصيصه الحكم بالبول دون الغائط غير ظاهر، بل هو أشد وأكره، وكذا تخصيصه الحكم ببول نفسه، وأمَّا كونه أقبح ما نقل عنه، فهو ظاهر إن كان هذا الحكم مع فرض الماء كثيرًا ولم يتغير، وأمَّا إذا كان الماء قليلًا أو كان كثيرًا لكنَّه تغير؛ فلا قبح