الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لأنَّه لو سمع ولم يفهم؛ لا يمكنه أن يجيب، فحاصله اشتراط سماع أكثر ما يتكلم بحضرته، بحيث لو سئل عنه؛ أجاب، كذا في «منهل الطلاب» .
وقال الزركشي: الترجمة مشعرة بأن النعاس لا يوجب الوضوء، والحديث مشعر بالنهي عن الصلاة ناعسًا، والجواب: بأنه استنبط عدم الانتقاض بالنعاس من قوله عليه السلام: «إذا صلى وهو ناعس» ، والواو للحال، فجعله مصليًا مع النعاس، فدل على بقاء وضوئه، ثم قال: ويجوز أن يريد المؤلف بقوله: (الوضوء من النوم) انقسام النوم إلى ما لا ينقض؛ كالنعاس، وإلى ما ينقض؛ كالمستغرق غير ممكن مقعدته، انتهى، قال في «المصابيح» :(وفيه ضعف؛ إذ لا يمتنع مثل قولك: إذا صلى الإنسان وهو محدث؛ كان كذا، فيحمل على أنه إذا فعل صورة الصلاة؛ فلا يقوي دلالة الحديث على ما أراده) انتهى، فتأمل.
وفي الحديث: الأخذ بالاحتياط؛ لأنَّه علل بأمر محتمل، والحث على الخشوع، وحضور القلب، واجتناب المكروهات في الطاعات، وجواز الدعاء في الصلاة، وضابطه: أنه إن دعا بما جاء في الصلاة، أو في القرآن، أو في المأثور؛ لا تفسد صلاته، وإن لم يكن في القرآن أو المأثور، ولا يستحيل سؤاله من العباد؛ تفسد، كذا في «البحر» .
اللهم فرج عنا وعن المسلمين بجاه سيد المرسلين، واكشف عنا هذا البلاء، فإنك على كل شيء قدير.
(54)
[باب الوضوء من غير حدث]
هذا (باب الوضوء من غير حدث)؛ أي: استحباب تجديد الوضوء للنوم، ولمسِّ الكتب الشرعية، وللمداومة عليه، وللصلاة فرضًا أو واجبًا أو نفلًا، أو لمسِّ مصحف أو تفسير، فإن لم يكن واحد من هؤلاء المذكورين؛ فبشرط أن يتبدَّل المجلس؛ لأنَّه مع التبدل يكون نورًا على نور، وإن لم يتبدل مجلسه؛ يكون إسرافًا، وهو مكروه بالإجماع، وقيد بالوضوء؛ لأنَّ الغسل على الغسل والتيمم على التيمم يكون عبثًا؛ لعدم وروده في السنة عن النبي الأعظم عليه السلام.
[حديث: كان النبي يتوضأ عند كل صلاة]
214 -
وبه قال: (حدثنا محمد بن يوسف)؛ أي: الفريابي (قال: حدثنا) : وفي رواية: (أخبرنا)(سفيان) : هو الثوري، (عن عَمرو) بفتح العين (بن عامر) : الكوفي الأنصاري (قال: سمعت أنسًا)؛ أي: ابن مالك، كما في رواية، ومفعول (قال) : (كان النبي
…
) إلخ الواقع بعد الإسناد الثاني قاله الكرماني.
(ح) : إشارة إلى التحويل على الأصح، أو إلى الحائل، أو إلى (صح)، أو إلى الحديث، كما سبق (قال) أي: المؤلف: (وحدثنا) : وسقطت الواو في رواية (مسدد) : هو ابن مسرهد (قال: حدثنا يحيى) : هو ابن سعيد القطان، (عن سفيان) : هو الثوري (قال: حدثني) بالإفراد (عَمرو) بفتح العين (بن عامر)؛ أي: الأنصاري السابق، (عن أنس) : وللأصيلي زيادة: (ابن مالك) رضي الله عنه، وفائدة الإسناد الثاني وإن كان الأول أعلى التصريحُ من سفيان فيه بالتحديث؛ لأنَّ سفيان مدلِّس، وعنعنة المدلِّس لا يحتج بها (قال: كان النبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة)؛ أي: مفروضة من الأوقات الخمسة، زاد الترمذي من طريق حميد عن أنس: (طاهرًا أو
(1)
غير طاهر) ولفظة: (كان) تدل على الدوام والاستمرار، فيكون عادته الوضوء لكل صلاة من الخمس المعلومة، وروى ابن أبي شيبة بسنده إلى ابن سيرين قال:(كان الخلفاء يتوضؤون لكل صلاة)، وفي لفظ آخر:(كان أبو بكر وعمر وعثمان يتوضؤون لكل صلاة، فإذا كانوا بالمسجد؛ دعوا بالطشت، فقال: كان فرضًا، ثم نسخ بالتخفيف) انتهى.
وحديث سويد الآتي يدل على أن ذلك غالب أحواله عليه السلام، وحينئذ فيدل على الاستحباب، وإلا لما وسعه الترك، ولأنَّ الأصل عدم الوجوب، وقال الحافظ الطحاوي: يحتمل أنه كان واجبًا عليه خاصة، ثم نسخ يوم الفتح؛ لحديث بريدة المروي في «صحيح مسلم» : أنه عليه السلام صلَّى يوم الفتح الصلوات الخمس بوضوء واحد، ومسح على خفيه، فقال له عمر: صنعْتَاليوم شيئًا لم تكن تصنعه، فقال:«عمدًا صنعْتُه يا عمر» ، ولهذا ذهب النخعي إلى أنه لا يصلي بوضوء واحد أكثر من خمس صلوات، وادعاء النسخ نقله ابن عبد البر عن جماعة؛ منهم: عكرمة، وابن سيرين، وغيرهما من السلف، واستدلوا بحديث عامر وبريدة.
(قلت: كيف كنتم تصنعون؟) : القائل (قلت) : هو عَمرو بن عامر مخاطبًا لأنس ومن معه من الصحابة، (قال) أي: أنس: (يُجزئُ)؛ بضم التحتية، وضم الهمزة؛ لأنَّ (أجزأ)؛ بالهمزة أولًا وآخرًا؛ بمعنى: يكفي، وهي رواية الأصيلي، (أحدَنا)؛ بالنصب مفعول مقدم (الوضوءُ)؛ بالرفع فاعل مؤخر (ما لم يحدث)؛ أي: مدة دوام عدم حدثه، فـ (ما) : مصدرية، وعند ابن ماجه:(وكنا نصلي الصلوات كلها بوضوء واحد)، وهذا مذهب الجمهور، وقال ابن شاهين: ولم يبلغنا أن أحدًا من الصحابة والتابعين كانوا يتعمدون الوضوء لكل صلاة إلا ابن عمر، فالجمهور على أنَّه لا يجب الوضوء إلا من حدث، وقدروا في الآية: إذا قمتم إلى الصلاة محدثين، واستدل الدارمي في «مسنده» على ذلك بقوله عليه السلام:«لا وضوء إلا من حدث» ، وذهب قوم إلى وجوبه لكل صلاة، ولو كان من غير حدث، وهو ظاهر آية الوضوء؛ لأنَّ الأمر فيها مشروط بالقيام إلى الصلاة، وهو يدل على تكرار الوضوء لكل صلاة وإن لم يحدث، وأجاب الفاضل جار الله الزمخشري في «الكشاف» :(بأنه يحتمل أن يكون الخطاب للمحدثين، أو أن الأمر فيه للندب لا للوجوب)، ولا يصح الحمل عليهما معًا؛ بناءً على قواعد مذهب الإمام الأعظم في عدم جواز حمل المشترك على معنييه؛ لأنَّ تناول الكلمة الواحدة إلى معنيين مختلفين من باب الإلغاز والتعمية، وهو لا يجوز) انتهى، خلافًا للشافعي، وخص بعض الظاهرية وجوبه لكل صلاة بالمقيمين دون المسافرين.
واختلف العلماء هل نسخ أو استمر حكمه؟ والجمهور على النسخ، ويدل له ما أخرجه أبو داود، وصححه ابن خزيمة من حديث عبد الله بن حنظلة:(أنَّ النبي عليه السلام أمر بالوضوء لكل صلاة، فلمَّا شق عليه؛ أمر بالسواك)، وفي «صحيح ابن خزيمة» من حديث حنظلة بن أبي عامر الغسيل:(أنه عليه السلام أُمِر بالوضوء عند كل صلاة، فلمَّا شق ذلك عليه؛ أُمِر بالسواك عند كل صلاة، ووُضِع عنه الوضوء إلا من حدث).
وقد انعقد الإجماع واستقر على أنه يصلي بالوضوء ما شاء وأن تجديده لكل صلاة مندوب، فالإجماع استقر على عدم الوجوب، كما حكاه النووي، ثم قال:(ويمكن حمل الآية على ظاهرها من غير نسخ، ويكون الأمر في حق المُحْدِثين على الوجوب، وفي حق غيرهم على الندب) انتهى، واعترضه في «عمدة القاري» ، فقال:(هذا لا يصح؛ لأنَّه يكون من باب الإلغاز، فلا يجوز) انتهى، أي: والتعمية فلا يجوز، على أنه لا حاجة إلى هذا الحمل بعد استقرار الإجماع؛ فإنه حجة من حجج الشرع؛ فليحفظ.
[حديث سويد بن النعمان: خرجنا مع رسول الله عام خيبر]
215 -
وبه قال: (حدثنا خالد بن مَخْلد) بفتح الميم، وسكون الخاء المعجمة (قال: حدثنا) : ولابن عساكر: (أخبرنا)(سليمان)؛ يعني: ابن بلال، كما في رواية (قال: حدثني) بالإفراد، وفي رواية: بالجمع (يحيى بن سعِيد)؛ بكسر العين: هو القطان (قال: أخبرني) بالإفراد (بُشير)؛ بضم الموحدة، تصغير بشر (بن يَسَار)؛ بفتح المثناة التحتية، وتخفيف السين المهملة (قال: أخبرني) بالإفراد (سُويد بن النُّعمان)؛ بضم أولهما: الأوسي المدني (قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عامَ خيبر)؛ بالنصب على الظرفية؛ أي: سنة غزوة النبي الأعظم عليه السلام لها، وكانت سنة سبع، و (خيبر) : منصرفة؛ للعلمية والتأنيث، كما تقدم، (حتى إذا كنا)؛ أي: النبي عليه السلام وأصحابه (بالصَّهْباء)؛ بفتح المهملة، وسكون الهاء، والموحدة الممدودة؛ وهي أدنى خيبر؛ أي: أسفلها من جهة المدينة؛ (صلَّى لنا)؛ أي: بنا أو لأجلنا (رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر)؛ أي: صلاة العصر، (فلمَّا صلَّى)؛ أي: فرغ من صلاة العصر؛ (دعا بالأطعمة)؛ أي: التي يتخذها
(2)
المسافر في سفره، (فلم يؤت إلا بالسويق) المعلوم مما مر؛ لعدم وجود غيره معهم، (فأكلنا)؛ أي: من السويق بعد أن بُلَّ بالماء، (وشربنا)؛ أي: من الماء أو من مائع السويق، وعند المؤلف في (الجهاد) :(فلكَّينا وأكلنا وشربنا)؛ أي: لككنا السويق، (ثم قام النبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم إلى المغرب)؛ أي: إلى أداء صلاة المغرب، فطلب ماء، (فمضمض) فاه بالماء من أثر السويق، وزاد في الرواية السابقة:(ومضمضنا)، (ثم صلى لنا) : ولأبي ذر: (وصلى لنا)؛ أي: بأصحابه (المغرب)؛ أي: صلاتها (ولم يتوضأ)؛ فأفادت هذه الطريقة التصريح بالإخبار من يحيى وشيخه.
والجمع بين حديثي الباب: أن وضوءه عليه السلام لكل صلاة كان في غالب أحواله؛ لأنَّه الأفضل، فأعطى الراوي
(1)
في الأصل: (و)، والمثبت موافق لما في «سنن الترمذي» .
(2)
في الأصل: (يتخذه).
معظم الشَّيء حكم كله، أو أنَّه لم يشاهد التَّرك كما شاهده غيره، وأنَّ فعله الثاني لبيان الجواز، وليري أمَّته أنَّ ما التزمه في خاصَّته من الوضوء لكلِّ صلاة ليس بلازم لكلِّ مكلَّف، وليس عند المؤلِّف حديث لسويد بن النعمان إلا هذا الحديث الواحد، وقد أخرجه في مواضع، وهو أنصاري حارثي، شهد بيعة الرضوان، وذكر ابن سعيد أنه شهد أحُدًا
(1)
، وتمامه في «عمدة القاري» .
ووجه مطابقة الحديثين للترجمة ما قاله الكرماني: من أن لفظ الحكم مقدر في الترجمة؛ أي: باب حكم الوضوء من غير حدث ثبوتًا وانتفاءً، والدلالة عليها حينئذ ظاهرة، وقال بعضهم: وقد يقال: دلالة الحديث الأول عليها من قول أنس: (كان عليه السلام يتوضأ عند كل صلاة)، فإنه صادق بتجديد الوضوءلا سيما وقد زاد الترمذي كما تقدم: (طاهرًا أو
(2)
غير طاهر)، وأمَّا الحديث الثاني؛ فذكره للتنبيه على بيان حالتي النبي عليه السلام في الوضوء؛ تكميلًا للفائدة؛ فتأمل.
قلت: وللتنبيه على اختلاف ألفاظه عن الحديث الأول، كما لا يخفى على من تفحص.
وفي يوم السبت الحادي عشري صفر سنة سبع وسبعين ومئتين وألف أمر فؤاد باشا بقتل أحمد عزت باشا سر عسكر، فقُتِل بالنيشان، ومعه أربعة من أمراء
(3)
الآي؛ منهم: علي بيك، وصالح بيك رحمهم الله تعالى، وحفنا بلطفه، وفرج وعنا وعن المسلمين بجاه الحبيب الأعظم وأصحابه الكرام عليه وعليهم السلام.
(55)
[باب من الكبائر أن لا يستتر من بوله]
هذا (باب)؛ بالتنوين، كما في «الفرع» ، وفي «عمدة القاري» :(باب؛ بالسكون؛ لأنَّ الإعراب لا يكون إلا بالعقد والتركيب، اللهم إلا إذا قُدِّر شيء يكون حينئذ معربًا؛ نحو: هذا باب؛ لأنَّه يكون حينئذ خبر مبتدأ، وقول ابن حجر: «باب؛ بالتنوين»؛ غلط) انتهى؛ أي: لعدم تركيبه مع المبتدأ المقدر؛ فافهم.
(من الكبائر ألَّا يستتر)؛ بمثناتين فوقيتين؛ أي: لا يستبرئ (من بوله) : و (أن) : مصدرية في محل رفع على الابتداء، و (من الكبائر) : خبره مقدمًا؛ والتقدير: ترك استتار الرجل من بوله من الكبائر؛ جمع كبيرة، وهي الفعلة القبيحة من الذنوب المنهي عنها شرعًا العظيم أمرها؛ كالقتل والزنى والفرار من الزحف وغير ذلك، وهي من الصفات الغالبة؛ يعني: صار اسمًا لهذه الفعلة القبيحة، وفي الأصل: هي صفة؛ والتقدير: الفعلة القبيحة أو الخصلة القبيحة.
واختلف في الكبائر؛ فقيل: سبع، وهو ما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة: أنه عليه السلام قال: «اجتنبوا السبع الموبقات» ، فقيل: يا رسول الله؛ وما هنَّ؟ قال: «الإشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والسحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» ، وقيل: الكبائر تسع، وروى الحاكم في حديث طويل:«الكبائر تسع» ، فذكر السبعة المذكورة، وزاد: «عقوق الوالدين المسلمين، واستحلال
(4)
البيت الحرام»، وقيل: الكبيرة كل معصية، وقيل: كل ذنب قرن بنار أو لعنة أو غضب أو عذاب، وقال رجل لابن عباس رضي الله عنهما: الكبائر سبع؟ فقال: هي إلى سبع مئة.
قلت: الكبيرة أمر نسبي، فكل ذنب فوقه ذنب، فهو بالنسبة إليه كبيرة، وبالنسبة إلى ما تحته صغيرة، كذا في «عمدة القاري» ؛ فليحفظ.
[حديث: مر النبي بحايط من حيطان المدينة]
216 -
وبه قال: (حدثنا عثمان) : هو ابن أبي شيبة الكوفي (قال: حدثنا جَرير)؛ بفتح الجيم: هو ابن عبد الحميد، (عن منصور) : هو ابن المعتمر، (عن مُجاهد)؛ بضم الميم: ابن جَبر -بفتح الجيم وسكون الموحدة- الإمام في التفسير، وهذا الحديث رواه الأعمش عن مجاهد، فأدخل بينه وبين ابن عباس طاووسًا، كما يأتي عن قريب أن المؤلف أخرجه هكذا، وإخراجه بهذين الوجهين يقتضي أن كليهما صحيح عنده، فيحمل على أن مجاهدًا سمعه من طاووس عن ابن عباس، وسمعه أيضًا من ابن عباس بلا واسطة أو العكس، ويؤيد ذلك أن في سياق مجاهد عن طاووس زيادة على ما في روايته عن ابن عباس، وصرح ابن حبان بصحة الطريقين معًا، وقال الترمذي:(رواية الأعمش أصح)، وقال الترمذي في «العلل» : (سألت محمدًا أيهما
(5)
أصح؟ فقال: الأعمش أصح)، فإن قيل: إذا كان حديث الأعمش أصح؛ فَلِمَ لمْ يخرجه وخرج الذي هو غير صحيح؟ قلت له: كلاهما صحيح، فحديث الأعمش أصح، فالأصح يستلزم الصحيح، كما لا يخفى، ويؤيده: أن شعبة بن الحجاج رواه عن الأعمش كما رواه منصور ولم يذكر طاووسًا، كذا في «عمدة القاري» ، وتبعه ابن حجر.
قلت: ولا مانع من جعلهما حديثين مستقلين لا سيما مع الاختلاف في كثير من المسند وألفاظ المتن، فيكون هذا رواه مجاهد عن ابن عباس بدون واسطة، والآتي رواه عنه بواسطة طاووس؛ فتأمل.
(عن ابن عباس) رضي الله عنهما: أنَّه (قال: مرَّ النبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم بحائط)؛ بالحاء والطاء المهملتين؛ أي: بستان من النخل إذا كان عليه جدار، ويجمع على حيطان وحوائط، وأصله: حواوط؛ بالواو، قلبت ياء؛ لأنَّه من الحوط؛ وهو الحفظ والحراسة، والبستان إذا عمل حواليه جدران؛ يحفظ من الداخل، لا يسمى البستان حائطًا إلا إذا كان عليه جدران، (من حيطان المدينة) المنورة، وعند المؤلف في (الأدب)، ولفظه:(خرج رسول الله عليه السلام من حيطان المدينة)، وبين هذه وبين ما هنا منافاة، أجاب في «عمدة القاري» :(بأن معناه: أن الحائط الذي خرج منه غير الحائط الذي مرَّ به، وفي «أفراد الدارقطني» من حديث جابر: «أن الحائط كان لأم مبشر الأنصارية») انتهى، (أو مكة) : شك من جرير، وأخرجه المؤلف في (الأدب) :(من حيطان المدينة)؛ بالجزم من غير شك، ويؤيده رواية الدارقطني؛ لأنَّ حائط أم مبشر كان بالمدينة، وإنما عرَّف (المدينة) ولم يعرِّف (مكة)؛ لأنَّ مكة عَلَم، فلا يحتاج إلى التعريف، والمدينة اسم جنس، فعرفت بالألف واللام؛ ليكون معهودًا عن مدينة النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم.
فإن قلت: هذا الحديث رواه ابن عباس، وعلى تقدير كون هذه في مكة على ما دل عليه السند كيف يتصور هذا؟ وكان ابن عباس عند هجرة النبي عليه السلام من مكة ابن ثلاث سنين، فكيف ضبط ما وقع في مكة؟
الجواب فيه من وجوه؛ الأول: أنه يحتمل وقوع هذه القضية بعد مراجعة النبي عليه السلام إلى مكة سنة الفتح أو سنة الحج، الثاني: أنه يحتمل أنه سمع من النبي عليه السلام ذلك، الثالث: أنه يكون ما رواه من مراسيل الصحابة، الرابع: أنه يحتمل أن يكون ابن عباس سمع ذلك من صحابي، فأسقط ذكره من بينه وبين النبي عليه السلام، ونظائره كثيرة، وفي الحقيقة هذا داخل في الوجه الثالث، كذا قرره في «عمدة القاري» ؛ فافهم.
(فسمع)؛ أي: النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (صوت إنسانين)؛ أي: بشرين، تثنية إنسان، يستوي فيه المذكر والمؤنث، والعامة تقول: إنسانة، ويجمع على أناسي، قال الله تعالى:{وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} [الفرقان: 49]، وقد خفي هذا الجمع على من تصدر في زماننا؛ ليقال له أعلم العلماء وأفقه الفقهاء؛ فليحفظ، وقال الجوهري: الإنس: البشر
(6)
، الواحد إِنْسي وأَنَسي؛ بالتحريك، والجمع: أناسي، وإن شئت جعلته إنسانًا، ثم جمعته أناسي، فتكون الياء عوضًا عن النُّون، وقال قوم: أصل إنسان: إنسيان على وزن (إفعلان)
(7)
، فحذفت الياء؛ استخفافًا لكثير ما يجري على ألسنتهم، وإذا صغروها؛ ردوها، وقال ابن عباس: إنَّما سمي إنسانًا؛ لأنَّه عهد إليه فنسي، ويقال: من الإنس خلاف الوحشة، ويقال للمرأة أيضًا: إنسان، ولا يقال: إنسانة، والعامة تقوله، كذا في «عمدة القاري» ، (يعذبان) : جملة وقعت حالًا من (إنسانين) أو صفة لهما (في قبورهما)؛ أي: حال كونهما يعذبان وهما في قبورهما، وإنما قال:(في قبورهما) مع أن لهما قبرين؛ لأنَّ في مثل هذا استعمال التثنية قليل، والجمع أجود، كما في قوله تعالى:{فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]، والأصل فيه: أن المضاف إلى المثنَّى إذا كان جزء ما أضيف إليه، يجوز فيه الإفراد والجمع، ولكن الجمع أجود؛ نحو: أكلت رأس الشاتين، وإن كان غير جزئه؛ فالأكثر مجيؤه بلفظ التثنية؛ نحو: سلَّ الزيدان سيفيهما
(8)
، وإن أمن اللبس؛ جاز جعل المضاف بلفظ الجمع، كما في قوله:(في قبورهما)، وقد يجتمع التثنية والجمع في قوله: ظهراهما مثل ظهور الترسين، وفي رواية الأعمش:(مر بقبرين)، وزاد ابن ماجه في روايته:(بقبرين جديدين، فقال: «إنهما يعذبان»).
فإن قلت: [المعذب] ما في القبرين، فكيف أسند العذاب إلى القبرين؟
قلت: هذا من باب ذكر المحل وإرادة الحال، وزعم ابن حجر أنه يحتمل أن يكون الضمير عائدًا على غير مذكور؛ لأنَّ سياق الكلام يدل عليه، ورده في «عمدة القاري» : بأن هذا ليس بشيء؛ لأنَّ الذي يرجع إليه الضمير موجود، وهو القبران، ولو لم يكن موجودًا؛ لكان لكلامه وجه، والوجه ما ذكرناه؛ فافهم.
ولم يعرف اسم المقبورين ولا أحدهما.
قال في «عمدة القاري» : (والحكمة في عدم بيان اسمي المقبورين ولا أحدهما
(1)
في الأصل: (أحُد).
(2)
في الأصل: (و)، والمثبت موافق لما في «سنن الترمذي» .
(3)
في الأصل: (أمراة)، ولعل المثبت هو الصواب.
(4)
في الأصل: (واستهلال)، وهو تحريف.
(5)
في الأصل: (أيما).
(6)
في الأصل: (الشيء)، والمثبت موافق لما في «الصحاح» .
(7)
في الأصل: (إفعال).
(8)
في الأصل: (سيفهما)، ولعل المثبت هو الصواب.
يحتمل أنه عليه السلام لم يبين ذلك؛ قصدًا للتستر عليهما خوفًا من الافتضاح، وهو عمل مستحسن، ولا سيما من حضرة النبي الأعظم عليه السلام الذي من شأنه الرحمة والرأفة على عباد الله تعالى، ويحتمل أنه قد بينه؛ ليحترز عنه غيره عن مباشرة ما باشر صاحب القبرين، ولكن الراوي أبهمه عمدًا، كما ذكرنا) انتهى.
قلت: ويؤيد الأول أن عادته عليه السلام الإبهام عن مثل ذلك، فإن عائشة رضي الله عنها حين أرادت شراء بريرة وشرطوا عليها الولاء؛ فأخبرت بذلك النبي عليه السلام، فأمرها بالشراء، وصعد المنبر، وقال: «ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله عز وجل
…
» إلى آخر القصة، فأبهم الشارط، وهذه عادته عليه السلام؛ سترًا على أمَّته.
فإن قلت: قد ذكر القرطبي عن بعضهم: أن أحدهما كان سعد بن معاذ رضي الله عنه.
قلت: قد ردَّه في «عمدة القاري» : (بأن هذا قول فاسد لا يُلتَفَتُ إليه، ومما يدل على فساده أنَّ النبي الأعظم عليه السلام حضر جنازته كما ثبت في «الصحيح» ، وسماه النبي عليه السلام سيدًا، حيث قال لأصحابه:«قوموا إلى سيدكم» ، وقال:«إن حكمه وافق حكم الله تعالى» ، وقال:«إن عرش الرحمن اهتز لموته» ، وغير ذلك من مناقبه العظيمة، وقد حضر النبي عليه السلام دفن المقبورين دل عليه حديث أبي أمامة رواه أحمد، ولفظه: أنه عليه السلام قال لهم: «من دفنتم اليوم ههنا؟» ، ولم ينقل عنه
(1)
عليه السلام ما ذكره القرطبي عن البعض، فدل ذلك على بطلانه في هذه القضية) انتهى.
(فقال النبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم: يُعَذَّبان)؛ أي: الإنسانين، وفي حديث أبي بكرة من «تاريخ المؤلف» بسند جيد: مر النبي عليه السلام بقبرين، فقال:«إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أمَّا أحدهما؛ فيُعَذَّبُ في البول، وأمَّا الآخر؛ فيُعَذَّب في الغيبة» ، وفي حديث أبي هريرة من «صحيح ابن حبان» : مر عليه السلام بقبر، فوقف عليه، وقال:«ائتوني بجريدتين، فجعل إحداهما عند رأسه، والأخرى عند رجليه يخفف عنه بعض عذاب القبر» ، وهو عند أبي موسى بلفظ:«قبرين؛ رجل لا يتطهر من البول، وامرأة تمشي بالنميمة» ، وعند ابن أبي شيبة من حديث يعلى بن شبابة: مر عليه السلام بقبر يُعذَّب صاحبه، فقال:«إن هذا القبر يُعَذَّبُ صاحبهُ في غير كبير» ، ولمَّا ذكره البرقي في «تاريخه»؛ فقال:«قبرين؛ أحدهما: يأكل لحوم الناس ويغتابهم، وكان هذا لا يتقي بوله» ، وفي حديث الأعمش عن جابر: دخل النبي عليه السلام حائطًا لأبي مبشر، فإذا بقبرين؛ فدعا بجريدة رطبة فشقها، ثم وضع واحدة على أحد القبرين، والأخرى على الآخر، ثم قال:«لا يرفعان عنهما حتى يجفا» ، وقال:«أمَّا أحدهما؛ فكان يمشي بالنميمة، والآخر كان لا يتنزه من البول» ، وفي حديث أنس: مر عليه السلام بقبرين من بني النجار يعذبان في النميمة والبول، فأخذ سعفة رطبة فشقها، وجعل على ذا نصفًا، وعلى ذا نصفًا، وقال:«لا يزال يخفف عنهما العذاب ما داما رطبتين» ، وورد في عذاب القبر أحاديث كثيرة، كذا في «عمدة القاري» .
(وما يُعَذَّبان في كبير)؛ بالموحدة، و (ما) : نافية على الأظهر؛ أي: بكبير تركه عليهما إلا أنه كبير من حيث المعصية، وقيل: يحمل (كبير) على أكبر؛ تقديره: ليس هو أكبر الذنوب؛ إذ الكبائر متفاوتة، وقال القاضي عياض: إنه غير كبير عندكم؛ لقوله تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللهِ عَظِيمٌ} [النور: 15]، وذلك أن عدم التنزه من البول يلزم منه بطلان الصلاة وتركها كبيرة، وفي «شرح السنة» :(ومعنى: «وما يعذبان في كبير» : أنهما لا يعذبان في أمر كان يكبر ويشق عليهما الاحتراز عنه؛ إذ لا مشقة في الاستتار عند البول، وترك النميمة، ولم يُرِد أنهما غير كبير في أمر الدين)، وقال المازري:(الذنوب تنقسم: إلى ما يشق تركه طبعًا؛ كالملاذ المحرمة، وإلى ما ينفر منه طبعًا؛ كتارك السموم، وإلى ما [لا] يشق تركه طبعًا؛ كالغيبة والبول)، كذا في «عمدة القاري» .
ثم قال: وفيه: أن عذاب القبر حق حتى يجب الإيمان به والتسليم له، وعلى ذلك أهل السنة والجماعة خلافًا للمعتزلة، ولكن ذكر القاضي عبد الجبار رئيس المعتزلة في «الطبقات» :(إن قيل: مذهبكم أدَّاكم إلى إنكار عذاب القبر، وهو قد أطبقت عليه الأمة؛ قلت: إن هذا الأمر إنَّما أنكره أولًا ضرار بن عمرو لما كان من أصحاب واصل ظنوا أن ذلك بما أنكرته المعتزلة، وليس الأمر كذلك، بل المعتزلة رجلان؛ أحدهما: يجوِّز ذلك كما وردت به الأخبار، والثاني: يقطع بذلك، وأكثر شيوخنا يقطعون بذلك، وإنما ينكرون قول جماعة من الجهلة: إنهم يعذبون وهم موتى، ودليل العقل يمنع من ذلك)، ونحوه ذكره أبو عبيد الله المرزباني في «الطبقات» ، وقال القرطبي: إن الملحدة ومن يذهب مذهب الفلاسفة أنكروه أيضًا، والإيمان به واجب لازم حسب ما أخبر به الصَّادق عليه السلام، وإن الله يحيي العبد ويرد إليه الحياة والعقل، وهذا نطقت به الأخبار، وهو مذهب أهل السنة والجماعة، وكذلك يكمل العقل للصغار؛ ليعلموا منزلتهم وسعادتهم، وقد جاء أن القبر ينضمُّ عليه كالكبير، وصار أبو الهذيل وبشر إلى أن من خرج عن سمة الإيمان؛ فإنه يُعَذَّبُ بين النفختين، وإأن المسألة إنَّما تقع في تلك الأوقات، وأثبت البلخي والجبائي وابنه عذاب القبر، ولكنهم نفوه عن المؤمنين، وأثبتوه للكافرين والفاسقين، وقال بعضهم: عذاب القبر جائز، وإنه يجري على الموتى من غير رد روحهم إلى الجسد، وإن الميت يجوز أن يتألم ويحس، وهذا مذهب جماعة من الكرامية، وقال بعض المعتزلة: إن الله تعالى يعذب الموتى في قبورهم، ويحدث الآلام وهم لا يشعرون، فإذا حشروا؛ وجدوا تلك الآلام، وأمَّا باقي المعتزلة مثل: ضرار بن عمرو، وبشر المريسي، ويحيى بن كامل، وغيرهم؛ فإنهم أنكروا عذاب القبر أصلًا، وهذه الأقوال كلها فاسدة تردُّها الأحاديث الثابتة، وإلى الإنكار أيضًا ذهب الخوارج وبعض المرجئة، ثم المُعَذَّبُ عند أهل السنة: الجسد بعينه أو بعضه بعد إعادة الروح إلى جسده أو إلى جزئه، وخالف في ذلك محمد بن جرير وطائفة، وقالوا: لا يشترط إعادة الروح، وهذا أيضًا فاسد، والله أعلم، انتهى.
(ثم قال)؛ أي: النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: (بلى)؛ معناه: أي: إنَّه لكبير، وقد صرح بذلك المؤلف في رواية من طريق عبيدة بن حميد عن منصور، فقال:«وما يُعَذَّبان في كبير، وإنَّه لكبير» ، وهذا من زيادات رواية منصور عن الأعمش، ومسلم لم يذكر الروايتين.
وقال الكرماني: فإن قلت: لفظ: (بلى) يختص بإيجاب النفي؛ فمعناه: بل إنهما ليُعَذَّبان في كبير، فما وجه التلفيق بينه وبين (ما يعذبان في كبير)؟ قلت: قال ابن بطال: (وما يعذبان بكبير)؛ يعني: عندكم، (وهو كبير)؛ يعني: عند الله تعالى، وقد ذكرناه، وقال عبد الملك البوني في قوله:«وإنَّه لكبير» : يحتمل أنه عليه السلام ظن أن ذلك غير كبير، فأوحى الله إليه في الحال بأنه كبير، وفيه نظر، قاله في «عمدة القاري» .
ووجهه أنه يستلزم أن يكون نسخًا، وهو لا يدخل في الخبر.
وأجيب: بأن الخبر بالحكم يجوز نسخه، وهذا منه، وأجيب عن أصل الإيراد: بأن الضمير في (وإنَّه لكبير) الذي في الرواية الثانية يعود على العذاب؛ لما في «صحيح ابن حبان» من حديث أبي هريرة: «يُعَذَّبان عذابًا شديدًا في ذنب هين» ، وقيل: إن الضمير يعود على أحد الذنبين، وهو النميمة؛ لأنَّها من الكبائر بخلاف كشف العورة، ورد: بأنه ضعيف، ومع ضعفه غير مستقيم؛ لأنَّ الاستتار المنفي ليس المراد به كشف العورة فقط، وأجيب: بأن (كبير) المنفي؛ بمعنى: أكبر، والمثبت واحد الكبائر، وقيل: المعنى: ليس بكبير في الصورة؛ لأنَّ تعاطي ذلك يدل على الدناءة والحقارة، وهو كبير في الذنب، وقيل: ليس بكبير في اعتقاد المخاطبين، وقيل: ليس بكبير في مشقة الاحتراز عنه، وجزم بهذا البغوي، ورجحه ابن دقيق العيد وجماعة، وقيل: ليس بكبير بمجرده، وإنما صار كبيرًا بالمواظبة عليه، ويدل له لفظ السياق، فإنه وصف كلًّا منهما بما يدل على تجدده منه، واستمراره عليه؛ حيث إنه أتى بالمضارع بعد (كان)، واستظهر بعضهم أن يقال: إن (ما) مصدرية، وهي وصلتها في محل رفع على الابتداء، و (في كبير) : خبره؛ أي: وتعذيبهما في كبير، وهذا معنى الرواية الصحيحة، ولا يمنع من ذلك ذكر (بل) المختصة بإيجاب النفي؛ لأنَّها تستعمل بعد الإيجاب، كما نقله الرضي؛ كقوله:
وقد بعدت بالوصل بيني وبينها
…
بل إن من زارَ القبورَ ليبعدا
سلمنا أنه لا بد من تقديم النفي،
(1)
زيد في الأصل: (أنه).
لكنهم قد يعطون الشيء حكم ما يشبهه في لفظه، كما فعلوا في (ما) المصدرية؛ عاملوها معاملة (ما) النافية في زيادة (إن) بعدها؛ كقوله:
ورَجِّ الفَتى لِلْخيرِ مَا إِنْ رأَيتَهُ
…
عَلَى السِّنِ خَيرًا لا يزالُ يَزيدُ
انتهى.
وفيه: أن (بعدت) في البيت الأول فيه معنى النفي، ولعلَّه لهذا قال: (سلمنا
…
) إلخ، وقد ذكر بعضهم: أن (في كبير) متعلق بـ (يُعَذَّبان) الأول، وجملة:(وما يُعَذَّبان) معترضة؛ أي: بين المتعلِّق والمتعلَّق، و (ما) : استفهامية؛ للتعظيم وتأكيد للتعذيب؛ فتأمل، والله أعلم.
وقوله: (كان أحدهما لا يستَتِر من بوله)؛ استئناف بيانيٌّ وتعليل لما مر؛ بفتح المثناة فوق وكسر الثانية، من السترة؛ ومعناه: لا يستر جسده ولا ثوبه من مماسَّة البول، ووقع في رواية زيادة (كان) ثانيًا، فـ (كان) الثانية تأكيد لـ (كان) الأولى أو زائدة، والظاهر: أن معناه ما في رواية ابن عساكر: (لا يستَبْرئ)؛ بالموحدة الساكنة بعد المثناة الفوقية المفتوحة، من الاستبراء؛ وهو طلب البراءة من البول، وقيل: معناه ما في رواية مسلم وأبي داود من حديث الأعمش: (لا يستَنْزِه)؛ بمثناة فوقية مفتوحة، ونون ساكنة، وزاي مكسورة، بعدها هاء، من التنزه؛ وهو الإبعاد، وقيل: معناه ما في رواية: (لا يستَنْثِر)؛ بمثناة فوقية مفتوحة، ونون ساكنة، ومثلثة مكسورة، من الاستنثار؛ وهو طلب النثر؛ يعني: نثر البول عن المحل، وروي:(لا ينْتتر)؛ بمثناتين فوقيتين بعد النُّون الساكنة، من النتر؛ وهو جذب فيه قوةوجفوة
(1)
، وفي الحديث:«إذا بال أحدكم؛ فليستنثر» ، وروى أبو نعيم في «المستخرج» :(كان يتوقى)؛ بالقاف بعد الواو، لكن الظاهر أن معناه: الاستبراء، كما ذكرنا.
ففي الحديث: وجوب الاستبراء؛ أي: افتراضه، وهو حجة لإمامنا الأعظم رئيس المجتهدين، وحجة على الشافعي بقوله: إنه سنة، وذلك فإن المراد بعدم الاستتار من البول: أنه لم يطلب البراءة منه، بل تركه يجري على أفخاذه، أو يقطر على سراويله، ثم يتوضأ ويصلي، وهو على هذه الحالة كما يفعله الأتراك في زماننا، وما قيل: إن معناه: لا يستر عورته؛ بعيد؛ لأنَّ التعذيب لو وقع على كشف العورة؛ لاستقل الكشف بالسببية، فيترتب العذاب عليه دون البول مع أن الحديث ظاهر في دلالته على اعتبار البول في السببية لعذاب القبر، كالحديث الذي صححه ابن خزيمة عن أبي هريرة مرفوعًا:«أكثر عذاب القبر من البول» ، بل المراد بالاستتار: الاستبراء، كما دلت عليه الرواية، وهو التحقيق، ويكون الاحتراز عن مفسدة تتعلق به كانتقاض الطهارة، كما ذكرنا، وعبر بالاستتار مجازًا عن الاحتراز؛ لأنَّ المستتر عن الشيء بعيد عنه، ومحتجب وهو شبيه بالبعد عن ملابسة البول، وأيضًا فـ (من) لما أضيفت إلى البول وهي لابتداء الغاية حقيقة أو مجازًا؛ اقتضى نسبة الاستتار الذي عدمه سبب العذاب إلى البول؛ بمعنى: أن ابتداء سبب العذاب من البول، وإذا حمل على حقيقته؛ يلزم منه أن يكون سبب العذاب مجرد كشف العورة، وهو غير مراد، فتعين أن يكون المعنى ما ذكرناه، وتعين الحمل على المجاز؛ لتتفق ألفاظ الحديث على معنى واحد ولا تختلف، ويؤيده رواية أبي بكرة عند أحمد وابن ماجه:(أمَّا أحدهما؛ فيُعَذَّبُ في البول)، ومثله عند الطبراني عن أنس، وكلمة (في) : للتعليل؛ أي: يُعَذَّبُ بسبب البول.
ففي الحديث: دليل على نجاسة الأبوال مطلقًا سواء كانت من بني آدم أو غيره، ومذهب الإمام الأعظم وأصحابه: أنه يعفى في النجاسة المائعة عن قدر مقعر الكف، وفي الجامدة يعفى عن قدر الدرهم؛ لما روي عن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: سئل عن قليل النجاسة، فقال:(مثل ظفري هذا لا يمنع)، وظفره كان قدر الدرهم، وبهذا قال إبراهيم النخعي، وقد رخص الكوفيون في مثل رؤوس الإبر من البول؛ لأنَّه لا يمكن الاحتراز عنه، وإنما كان المعفو قدر الدرهم؛ اعتبارًا للمشقة، وقياسًا على المخرجين، وسهل في البول القاسم بن محمد، ومحمد بن علي، والشعبي.
وفي «الجواهر» للمالكية: (أن البول والعذرة من بني آدم نجسان، وطاهران من كل حيوان مباح الأكل، ومكروهان من المكروه أكله)، وقيل: بل نجسان، وعامة الفقهاء لم يخففوا من الدم إلا اليسير.
واختلف أصحاب مالك في مقدار اليسير، والأرجح أنه قدر الدرهم الكبير، وهذا أيضًا مذهب رئيس المجتهدين الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه، وقال الشافعي: قليل النجاسة وكثيرها سواء، لا يُعْفى عن شيء منها إلا ما لا يدركه الطرف، وفي هذا مشقة وعسر وحرج، وهو مدفوع بالنص؛ فافهم، ولا حجة له في هذا الحديث؛ لأنَّه عُذِّبَ على عدم صحة وضوئه مع نزول البول، وهو عدم الاستبراء من البول، أو لأنَّه يفعله عمدًا بغير عذر، فيبقى على بدنه من النجاسة زائدًا على قدر المعفو عنه، ولا شك أن هذا يوجب العذاب مع ما يلزم عليه من أداء الصلاة بغير طهارة، وإن تعمد ذلك؛ يخشى عليه الكفر، ويكفر عند بعض العلماء، وتمامه في شرحنا «منهل الطلاب» .
(وكان الآخر يمشي بالنميمة)؛ أي: يسعى بنقلها وإفشائها بين الناس، ولهذا قال بعضهم: حقيقة النميمة: إفشاء السر وهتك الستر عما يُكْرَهُ كشفه، وفاعلها يقال له: نمام، وفي حديث الشيخين:«لا يدخل الجنة نمام» ، وفي رواية:(قتات)؛ بالقاف ومثناتين، النمام: الذي يكون مع الجمع يتحدثون حديثًا فينم عليهم، والقتات: الذي يستمع عليهم وهم لا يعلمون، ثم ينم، وعرَّفها في «عمدة القاري» بأنها هي نقل كلام الناس، وقال النووي:(هي نقل كلام الغير بقصد الإضرار)، قلت: وتفسير الإمام في «عمدة القاري» تفسير بالأعم.
ثم إن النووي قال: (والمشي بالنميمة من أقبح القبائح)؛ أي: من أكبر الكبائر، واعترضه الكرماني بأنه لا يصح على قاعدة الفقهاء؛ لأنَّهم يقولون: الكبيرة: هي الموجبة للحد، ولا حد على الماشي بالنميمة إلا أن يقال: الاستمرار المستفاد منه يجعله كبيرة؛ لأنَّ الإصرار على الصغيرة حكمه حكم الكبيرة، أو لا يريد بالكبيرة معناها الاصطلاحي.
وزعم ابن حجر: (وما نقله عن الفقهاء ليس قول جميعهم؛ لأنَّ كلام الرافعي يشعر ترجيحه؛ حيث حكى وجهين؛ أحدهما: هذا، والثاني: ما فيه وعيد شديد، قال: وهم إلى الأول أميل، والثاني أوفق)، ورده في «عمدة القاري» :(بأنه لا وجه لتعقيبه على الكرماني؛ لأنَّه لم يميز قول الجميع عن قول البعض حتى يعترض على قوله: (على قاعدة الفقهاء) على أن الذنب المستمر عليه صاحبه وإن كانت صغيرة؛ فهي كبيرة في الحكم، وفيه وعيد؛ لقوله:«لا صغيرة مع الإصرار» ) انتهى، وهو جواب صحيح، وعليه جرى القسطلاني حيث قال:(ويجاب عن استشكال كون النميمة من الصغائر بأن الإصرار عليها المفهوم هنا من التعبير بـ «كان» المقتضية له يصير حكمها حكم الكبيرة) انتهى، وقد ركب العجلوني هنا متن عمياء، وخبط خبط عشواء، والصواب ما علمته؛ فليحفظ.
وإنما خص البول والنميمة بعذاب القبر؛ لأنَّ القبر أول منازل الآخرة، وفيه نموذج ما يقع في القيامة من العقاب والثواب، والمعاصي التي يُعاقَب عليها يوم القيامة نوعان: حق الله تعالى، وحق العباد، وأول ما يقضى فيه من حقوق الله: الصلاة، ومن حقوق العباد: الدماء، وأما البرزخ؛ فيقضى فيه مقدمات هذين الحقين ووسائلهما، فمقدمة الصلاة الطهارة من الحدث والخبث، ومقدمة الدماء النميمة، فيبدأ في البرزخ بالعقاب عليهما.
نسأله سبحانه العفو عن ذنوبنا والستر علينا، وأن يفرج عنا وعن المسلمين، ويكشف عنا هذا الضيق والمقت والقهر إنه على ما يشاء قدير، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(ثم دعا)؛ أي: النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (بجريدة)؛ من جريد النخل، وفي رواية الأعمش:(بعَسِيب رطب)، وهو بفتح العين المهملة، وكسر السين المهملة، على وزن (فَعِيل)؛ نحو:(كَرِيم)؛ وهي الجريدة التي لم
(1)
في الأصل: (وهو حدث فيه قعرة وجفرة)، وهو تحريف.
ينبت فيها خوص، فإن نبت؛ فهي السعفة، وعُلم من هذا أن الجريدة هي الغصن من النخل بدون الورق، كذا في «عمدة القاري» .
قيل: خص الجريد بذلك؛ لأنَّه بطيء الجفاف، والآتي بالجريدة بلال رضي الله عنه، كما في مشيخة يعقوب الفسوي من حديث أبي رافع بسند ضعيف: أن بلالًا قال: كنا مع النبي عليه السلام في جنازة؛ إذ سمع شيئًا في قبر، فقال لبلال: «ائتني بجريدة خضراء
…
»؛ الحديث، وقيل: الآتي بها أبو بكر الصديق كما عند أحمد والطبراني.
قلت: والظاهر أن هذه القصة غير قصة الباب؛ لأنَّه صرح فيها بقبرين، وصرح في حديث بلال بقبر واحد، وسيأتي تمامه؛ فافهم.
(فكسَرها)؛ بتخفيف المهملة؛ أي: بنفسه أو أمر غيره، والظاهر الأول (كِسْرتين)؛ بكسر الكاف، وسكون المهملة، تثنية كسرة؛ وهي القطعة من الشيء المكسور، وقد تبين من رواية الأعمش أنه منصوب على الحال، وأنها كانت نصفًا، وفي رواية جرير عنه:(باثنتين)، قال النووي: الباء زائدة؛ للتأكيد، وهو منصوب على الحال، كذا في «عمدة القاري» .
ثم قال: (إن في متن الحديث: «ثم دعا بجريدة، فكسرها كِسْرتين» ؛ يعني: أتي بها فكسرها؛ أي: فالفاء عاطفة على مقدر، وفي حديث أبي بكرة وجابر كما رواه مسلم وأحمد والطبراني أنه الذي قطع الغصنين، فهل هذه قضية واحدة أو قضيتان؟
الجواب: أنهما قضيتان، والمغايرة بينهما من أوجه؛ الأول: أن هذه كانت في المدينة، وكان مع النبي عليه السلام جماعة، وقضية جابر كانت في السفر، وكان خرج لحاجته، فتبعه جابر وحده، الثاني: أن في هذه القضية أنه عليه السلام غرس الجريدة بعد أن شقها نصفين، كما في رواية الأعمش الآتية، وفي حديث جابر: أمر عليه السلام جابرًا فقطع غصنين من شجرتين كان عليه السلام استتر بهما عند قضاء حاجته، ثم أمر جابرًا، فألقى الغصنين عن يمينه وعن يساره حيث كان النبي عليه السلام جالسًا، وأن جابرًا سأله عن ذلك، فقال:«مررت بقبرين يعذبان، فأحببت بشفاعتي أن يرفعه عنهما ما دام الغصنان رطبين» ، الثالث: لم يذكر في قصة جابر ما كان السبب في عذابهما، الرابع: لم يذكر فيه كلمة الترجي، فدل ذلك كله على أنهما قضيتان مختلفتان، بل روى ابن حبان في «صحيحه» عن أبي هريرة: أنه عليه السلام مر بقبر، فوقف عليه، فقال:«ائتوني بجريدتين» ، فجعل إحداهما عند رأسه، والأخرى عند رجليه، فهذا بظاهره يدل على أنَّها قضية ثالثة، فسقط بهذا كلام من ادعى أن القضية واحدة، كما مال إليه النووي والقرطبي، انتهى كلامه رحمه الله ورضي عنه، ومثله في «ابن حجر» .
قلت: ويؤيد هذا الظاهر حديث أبي رافع، فإن فيه:(فسمع شيئًا في قبر، فكسرها باثنتين، وترك بعضها عند رأسه، وبعضها عند رجليه)، وفي قصة الواحد: جعل نصفًا عند رأسه ونصفًا عند رجليه، وفي قصة الاثنين: جعل على كل قبر جريدة، ولا ريب أن هذه قضايا مختلفة في أحوال متعددة في أماكن متغايرة، فكل صحابي عبر بما رأى؛ فافهم، والله أعلم.
(فوضع)؛ أي: النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (على كل قبر منهما كِسْرة)؛ بكسر الكاف؛ أي: واحدة؛ يعني: وضع كل كسرة منهما على ظهر القبر من جهة الرأس، وعلى الآخر كذلك، كما اعتيد في زماننا؛ لأنَّ كلمة (على) تفيد الاستعلاء، فالكسرة الموضوعة على كل قبر نصف، قال في «عمدة القاري» :(وفي رواية الأعمش: «فغرز»، والغرز مستلزم الوضع بدون العكس) انتهى.
والغرز بإزاء الرأس ثابت بإسناد صحيح، كما في «المصابيح» ، وقول الزركشي: وفي رواية غندر: (نصفه عند رأسه، ونصفه عند رجليه)، كما ذكره صاحب «الترغيب»؛ محمول على أنَّ القبر واحد؛ لما في «صحيح ابن حبان» من حديث أبي هريرة أنَّه قال: مر عليه السلام بقبر فوقف عليه، وقال:«ائتوني بجريدتين» ، فجعل إحداهما عند رأسه، والأخرى عند رجليه، ثم قال:«لعلَّه يخفف عنه بعض عذاب القبر» ، لا أنه في هذه القصة، فيكون القطع حينئذ أربعًا، كما زعمه العجلوني؛ لأنَّ القضايا مختلفة في القبر والقبرين، ولأن مقصود النبي عليه السلام تخفيف العذاب ما دام الجريد رطبًا، ومع شقه أربع شقق لا يستقيم رطبًا؛ لصغر جرمه، والحر حر الحجاز؛ فافهم.
(فقيل له) : وفي رواية: إسقاط لفظة: (له)؛ أي: للنبي الأعظم عليه السلام: (يا رسول الله) : وفي رواية الأعمش: (قالوا)؛ أي: الصحابة: (لم فعلت هذا؟) : الإشارة إلى وضع الجريدتين على القبرين، قال في «عمدة القاري» :(ولم يُعْلَم القائل من هو) انتهى ومثله في «ابن حجر» ، قلت: وقد يقال: إن القائل له ذلك إما جابر كما في حديثه، أو بلال كما في حديثه، أو أبو بكر الصديق كما في حديثه، وكل قضية على حسبها، وهو الظاهر؛ فافهم.
(قال)؛ أي: النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: (لعلَّه أنْ يخفف عنهما)؛ بضمير التثنية يعود إلى الإنسانين، و (يخفف) : مبني للمفعول، شبه (لعلَّ) بـ (عسى)، فأتى بـ (أنْ) في خبره، وهو جائز، وإن كان الأكثر حذفها، كما في قوله تعالى:{لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} [طه: 44]، وقال في «عمدة القاري» : (الرواية: «أن يخفف عنها» على التوحيد والتأنيث، وهو ضمير النفس، فيجوز إعادة الضميرين في «لعلَّه» و «عنها» إلى الميت باعتبار كونه إنسانًا وكونه نفسًا، ويجوز أن يكون الضمير في «لعلَّه» ضمير الشأن، وفي «عنها» للنفس، وجاز تفسير الشأن بـ «أن» وصلتها مع أنها في تقدير مصدر؛ لأنَّها في حكم جملة؛ لاشتمالها على مسند ومسند إليه، ولذلك سدت مسد مفعولي «حسب» و «عسى» في نحو:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ} [آل عمران: 142]، وفي:{عَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا} [البقرة: 216]، ويجوز على قول الأخفش أن تكون «أن» زائدة مع كونها ناصبة؛ كزيادة الباء و «من» مع كونهما جارَّتين، ومن تفسير ضمير الشأن بـ «أن» وصلتها قول عمر رضي الله عنه:«فما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فعقرت حتى ما يقلني رجلاي» ، وقال الطيبي: لعلَّ الظاهر أن يكون الضمير مبهمًا يفسره ما بعده، كما في قوله تعالى:{إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [المؤمنون: 37]، وقال العلَّامة جار الله الزمخشري: هذا ضمير لا يعلم ما يعني به إلا ما يتلوه من بيانه، وأصله: إن الحياة إلا الحياة الدنيا، ثم وضع «هي» موضع الحياة؛ لأنَّ الخبر يدل عليها ويبينها
(1)
، ومنه: هي النفس تحمل ما حملت، والرواية بتثنية الضمير في «عنهما» لا يستدعي إلا هذا التأويل) انتهى كلامه رحمه الله ورضي عنه.
ثم قال: (وهل للجريد معنى يخصه في الغرز على القبر ليخفف العذاب؟
والجواب: أنه لا لمعنى يخصه، بل المقصود أن يكون ما فيه رطوبة من أي شجر كان، ولهذا أنكر الخطابي ومن تبعه وضع الجريد اليابس، وكذلك ما يفعله أكثر الناس من وضع ما فيه الرطوبة من الرياحين والبقول ونحوهما على القبور ليس بشيء، وإنما السنة الغرز.
فإن قلت: في الحديث: «فوضع على كل قبر منهما كِسرة» .
قلت: في رواية الأعمش: «فغرز» ، فينبغي الغرز؛ لأنَّ الوضع يوجد في الغرز بخلاف الوضع، كما قدمناه.
فإن قيل: إنه عليه السلام قد علل غرزهما على القبر بأمر معين من العذاب، ونحن لا نعلم ذلك مطلقًا.
والجواب: أنه لا يلزم من كوننا لا نعلم أيعذب أم لا أن نترك ذلك، ألا ترى أنَّا ندعو للميت بالرحمة، ولا نعلم أنه يرحم أم لا؟
فإن قلت: وهل لأحد أن يأمر بذلك لأحد أم الشرط أن يباشره بيده؟
والجواب: ظانه لا يلزم ذلك، والدليل عليه أن بريدة [بن] الحصيب
(2)
رضي الله عنه أوصى أن يوضع على قبره جريدتان، كما يأتي في هذا الكتاب).
وزعم ابن حجر أنه ليس في السياق ما يقطع أنه باشر الوضع بيده الكريمة عليه السلام، بل يحتمل أن يكون أمر به، وردَّه في «عمدة القاري» : بأن هذا كلام واهٍ جدًّا، وكيف يقول ذلك وقد صرح في الحديث:(ثم دعا بجريدتين، فكسرهما، فوضع على كل قبر منهما كسرة)؟! وهذا تصريح في أنه عليه السلام وضعه بيده الكريمة، ودعوى احتمال الأمر لغيره به بعيدة، وهذه كدعوى احتمال مجيء غلام زيد في قولك: جاء زيد، ومثل هذا الاحتمال لا يعتد به؛ فافهم، انتهى كلامه رحمه الله ورضي عنه.
(ما لم ييبَسا)؛ بمثناتين تحتيتين،
(1)
في الأصل: (وبينها).
(2)
في الأصل: (الخطيب)، وهو تحريف.
ثم موحدة، وهذه في أكثر الروايات، وفي رواية:(ما لم تيبَسا)؛ بمثناة فوقية بعدها تحتية، ثم موحدة؛ أي: الكسرتان، وفي رواية:(إلا أن تيبَسا)؛ بحرف الاستثناء، وفي رواية:(إلى أن ييبَسا)؛ بكلمة (إلى) التي للغاية، ويجوز فيه التذكير والتأنيث، أمَّا التأنيث؛ فباعتبار رجوع الضمير فيه إلى الكسرتين، وأمَّا التذكير؛ فباعتبار رجوع الضمير إلى العُود؛ لأنَّ الكسرتين عودان، والباء الموحدة مفتوحة في جميع الروايات؛ لأنَّه من باب (علم يعلم)، وفيه لغة شاذة، وهي الكسر، وكلمة (ما) : مصدرية زمانية، وأصله: لعلَّه يخفف عنهما مدة دوامهما إلى زمن اليبس، أو مدة عدم يبسهما، وذلك بسبب التبرك بأثره عليه السلام، ودعائه بالتخفيف عنهما، فكأنه عليه السلام جعل مدة بقاء النداوة فيهما حدًّا لما وقعت له المسألة من تخفيف العذاب عنهما، وليس ذلك من أجل أن في الرطب معنى ليس في اليابس، وقال النووي:(قال العلماء: هو محمول على أنه عليه السلام سأل الشفاعة لهما، فأجيبت شفاعته بالتخفيف عنهما إلى أن ييبسا)، وقال ابن الملقن: وقد حصل ما ترجَّاه في الحال، فأورقا في ساعتهما، ففرح بذلك، وقال:«رُفِعَ العذابُ عنهما بشفاعتي» ، وقيل: يحتمل أنه عليه السلام يدعو لهما تلك المدة، وقيل: لأنَّهما يسبحان ما داما رطبين، وليس لليابس تسبيح، قالوا في قوله تعالى:{وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]؛ معناه: وإن من شيء حي، ثم حياة كل شيء بحسبه، فحياة الخشبة ما لم تيبس، وحياة الحجر ما لم يقطع، وذهب المحققون إلى أنه على عمومه، ثم اختلفوا هل يسبح حقيقة أم فيه دلالة على الصانع، فيكون مسبحًا منزهًا بصورة حاله؟ وأهل التحقيق على أنه يسبح حقيقة، وإذا كان العقل لا يحيل جعل التمييز فيها، وجاء النص به؛ وجب المصير إليه، واستحب العلماء قراءة القرآن والأذكار عند القبر؛ لهذا الحديث؛ لأنَّه إذا كان يرجى التخفيف لتسبيح الجريدة؛ فتلاوة القرآن والذكر أولى.
فإن قلت: ما الحكمة في كونهما ما داما رطبين يمنعان العذاب بعد دعوى العموم في تسبيح كل شيء؟
قلت: يمكن أن يكون معرفة هذا كمعرفة [عدد] الزبانية في أنه تعالى هو المختص بها، كذا في «عمدة القاري» .
وقال المازري: (يحتمل أن يكون أوحي إليه أن العذاب يُخَفَّفُ عنهما هذه المدة)، واعترضه القرطبي بأنه لو علم بالوحي؛ لما أتى بحرف الترجي، قال ابن حجر:(وإذا حملناها على التعليل؛ لا يرد هذا)، قلت: وهذا الحمل فاسد، فإن النحاة أجمعوا على أن معنى (لعلَّ) : الترجي، وهو مراد النبي عليه السلام؛ بدليل أن هذه الكيفية من أخذ الجريدة وغرزها ونحوه شفاعة، وهي ترجى بلا ريب، وأما التعليل؛ فإنه معنى شاذ، على أنه إنَّما يأتي بالتعليل في مقام الجزم واليقين، وهنا المقام مقام تردد بين التخفيف وعدمه؛ فافهم.
قال في «عمدة القاري» : واختلفوا في المقبورَيْن هل كانا مسلمين أو كافرين؟
فقيل: كانا كافرين، وبه جزم أبو موسى المديني في كتاب «الترغيب» ، واحتج على ذلك بما رواه من حديث ابن لهيعة، عن أسامة بن زيد، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال:«مر نبي الله عليه السلام على قبرين من بني النجار هلكا في الجاهلية، فسمعهما يعذبان في البول والنميمة» ، قال: هذا حديث حسن، وإن كان إسناده ليس بالقوي؛ لأنَّهما لو كانا مسلمين؛ لما كان لشفاعته عليه السلام لهما إلى أن ييبسا معنًى، ولكنه لما رآهما يعذبان؛ لم يستجز من عطفه ولطفه عليه السلام حرمانهما من ذلك، فشفع لهما إلى المدة المذكورة، ولما رواه الطبراني في «الأوسط» :«مر النبي عليه السلام على قبور نساء من بني النجار هلكن في الجاهلية، فسُمِعْنَ يُعَذَّبْنَ في النميمة» ، قال: لم يروه عن أسامة إلا ابن لهيعة.
وقيل: كانا مسلمين، وجزم به بعضهم؛ لأنَّهما لو كانا كافرين؛ لم يَدْعُ عليه السلام لهما بتخفيف العذاب، ولا ترجاه لهما، ويقوي هذا ما في بعض طرق حديث ابن عباس رضي الله عنهما:«مرَّ بقبرَيْن من قبور الأنصار جديدَيْن» ، فإن تعددت الطرق وهو الأقرب لاختلاف الألفاظ؛ فلا بأس، وإن لم يتعدد؛ فهو بالمعنى المذكور؛ لأنَّ بني النجار من الأنصار، وهو لقب إسلامي لقبوا به؛ لنصرهم النبي عليه السلام، ولم يعرف بهما سَمِيٌّ في الجاهلية، ويقويه أيضًا ما في رواية مسلم:«فأجيبت بشفاعتي» ، والشفاعة لا تكون إلا للمؤمن، وما في رواية أحمد المذكورة، فقال:«من دفنتم اليوم ههنا؟» ، فهذا أيضًا يدل على أنهما كانا مسلمَيْن؛ لأنَّ البقيع مقبرة المسلمين، والخطاب لهم.
فإن قلت: لمَ لا يجوز أن يكونا كافرين، كما ذهب إليه أبو موسى، وكان دعاء النبي عليه السلام لهما من خصائصه كما في قصة أبي طالب؟
قلت: لو كان ذلك من خصائصه عليه السلام؛ لبينه، على أنا نقول: إن هذه القضية متعددة كما ذكرنا، فيجوز تعدد حال المقبورَيْن.
فإن قلت: ذكر البول والنميمة ينافي ذلك؛ لأنَّ الكافر وإن عُذِّبَ على أحكام الإسلام؛ فإنه يُعَذَّبُ مع ذلك على الكفر بلا خلاف.
قلت: لم يبين في حديث جابر المذكور سبب العذاب ما هو، ولا ذكر فيه الترجي لرفع العذاب، كما في حديث غيره، فظهر من ذلك صحة ما ذكرنا من تعدد الحال.
ورد بعضهم احتجاج أبي موسى بالحديث المذكور بأنه ضعيف كما اعترف به، وقد رواه أحمد بإسناد صحيح على شرط مسلم، وليس فيه ذكر سبب التعذيب، فهو من تخليط ابن لهيعة.
قلت: هذا من تخليط هذا القائل؛ لأنَّ أبا موسى لم يصرح بأنه ضعيف، بل قال:(هذا حديث حسن وإن كان إسناده ليس بقوي)، ولم يعلم هذا القائل الفرق بين الحسن والضعيف؛ لأنَّ بعضهم عد الحسن من الصحيح لا قسيمه، ولذلك يقال للحديث الواحد: إنه حسن صحيح، وقال الترمذي: الحسن: ما ليس في إسناده من اتُّهم بالكذب، وعبد الله بن لهيعة المصري لا يتهم بالكذب، على أن طائفة منهم قد صححوا حديثه ووثقوه؛ منهم: الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله تعالى انتهى كلامه رحمه الله ورضي الله.
والمراد بهذا القائل: ابن حجر العسقلاني، وهذا داء به يذكر الكلام مخبطًا من غير تحرير، وقد بين ذلك في «كشف الحجاب عن العوام» وفي «منهل العليل المطل» ؛ فليحفظ.
قال الخطابي: فيه دليل على استحباب تلاوة الكتاب العزيز على القبور؛ لأنَّه إذا يرجى عن الميت التخفيف بتسبيح الشجر؛ فتلاوة القرآن العظيم أعظم رجاء وبركة.
قال في «عمدة القاري» : (قلت: اختلف الناس في هذه المسألة؛ فذهب الإمام الأعظم رأس المجتهدين وأصحابه والإمام أحمد ابن حنبل رضي الله تعالى عنهم أجمعين إلى وصول ثواب القرآن إلى الميت؛ لما روى أبو بكر النجار في كتاب «السنن» عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من مر بين المقابر، فقرأ: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} أحد عشر مرة، ثم وهب أجرها للأموات؛ أعطي من الأجر بعدد الأموات»، وفي «سننه» أيضًا عن أنس يرفعه: «من دخل المقابر، فقرأ سورة (يس)؛ خفف الله عنهم يومئذ»، وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: قال رسول الله عليه السلام: «من زار قبر والديه أو أحدهما، فقرأ عنده أو عندهما (يس)؛ غفر له» ، وروى أبو حفص بن شاهين عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه السلام: «من قال: الحمد لله رب العالمين رب السماوات ورب الأرض رب العالمين، وله الكبرياء في السماوات والأرض، وهو العزيز الحكيم، لله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين، وله العظمة في السماوات والأرض، وهو العزيز الحكيم، هو الملك رب السماوات ورب الأرض رب العالمين، وله النور في السماوات والأرض، وهو العزيز الحكيم، مرة واحدة، ثم قال: اللهم اجعل ثوابها لوالدي؛ لم يبق لوالديه حق إلا أداه إليهما» ، وقال الثوري: المشهور عند الشافعي وجماعة أن قراءة القرآن لا تصل إلى الميت، والأخبار المذكورة حجة عليهم، ولكن أجمع العلماء على أن الدعاء ينفعهم ويصلهم ثوابه؛ لقوله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: 10]، وغير ذلك من الآيات والأحاديث المشهورة؛ منها: قوله عليه السلام: «اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد» ، ومنها: قوله عليه السلام: «اللهم اغفر لحيِّنا وميتنا» ، وغير ذلك.
فإن قلت: هل يَبْلُغُه ثواب الصوم أو الصدقة أو العتق؟
قلت: روى أبو بكر النجار في كتاب «السنن» من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أنه سأل النبي عليه السلام، فقال: يا رسول الله؛