الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في (منك)، وإن كانا مكانين؛ فلا؛ إذ اسم المكان لا يعمل؛ وتقديره: لا ملجأ منك إلى أحد إلا إليك، ولا منجًى إلا إليك) انتهى.
قلت: والأوجه المشهورة هي فتح الأول والثاني، وفتح الأول ونصب الثاني، وفتح الأول ورفع الثاني، ورفع الأول وفتح الثاني، ورفع الأول والثاني، ومع التنوين تسقط الألف، كما قدمنا وعلى كونهما مكانين؛ فـ (منك) حال من ضمير الخبر أو صفة لهما؛ فافهم.
(اللهم)؛ أي: يا الله، وسيأتي عند المؤلف في الأدعية بحذف (اللهم)؛ (آمنت)؛ أي: صدقت (بكتابك)؛ أي: القرآن، وقوله:(الذي أنزلت) صفته، وضمير المفعول محذوف؛ أي: أنزلته على نبيك محمَّد صلى الله عليه وسلم، وإنما خصص الكتاب بالصفة؛ ليتناول جميع الكتب المنزلة.
فإن قلت: أين العموم ههنا حتى يجيء التخصيص؟
قلت: المفرد المضاف يفيد العموم؛ لأنَّ المعرف بالإضافة كالمعرف باللام يحتمل الجنس، والاستغراق، والعهد، فلفظ الكتاب المضاف هنا محتمل لجميع الكتب ولجنس الكتب، ولبعضها؛ كالقرآن، قالوا: وجميع المعارف كذلك، وقد قال جار الله الزمخشري رحمه الله تعالى في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 6] : يجوز أن تكون للعهد، وأن يراد بهم ناس بأعيانهم؛ كأبي جهل، وأبي لهب، والوليد بن المغيرة، وأحزابهم، وأن تكون للجنس متناولًا منهم كل من صمم على كفره.
قلت: التحقيق أن الجمع المعرَّف تعريف الجنس؛ معناه: جماعة الآحاد، وهي أعم من أن يكون جميع الآحاد أو بعضها، فهو إذا أطلق؛ احتمل العموم والاستغراق، واحتمل الخصوص والحمل على واحد منها يتوقف على القرينة كما في المشترك، هذا ما ذهب إليه الزمخشري، وصاحب «المفتاح» ومن تبعهما، وهو خلاف ما ذهب إليه أئمة الأصول، كذا قاله إمام الشارحين في «عمدة القاري» .
قلت: أي: من أن (اللام) تبطل معنى الجمعية، ويصير مدخولها؛ لاستغراق الأفراد؛ فتأمل.
(وبنبيك)؛ بالموحدة في أكثر النسخ، وفي بعضها بحذفها، ويؤيدها قوله:(ورسولك) بدونها، وكذا قوله:(ونبيك) الآتي، فإنه بدونها، وعند المؤلف في (الأدعية) بالموحدة؛ كأكثر النسخ هنا، والمراد به: محمَّد النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم، والخطاب فيه كسابقه لله عز وجل (الذي أرسلت)؛ أي: أرسلته، ويحتمل أن يراد كل نبي أرسله كما سبق في (بكتابك)، (فإن متَّ)؛ بفتح التاء، الخطاب للبراء، وليس المراد به وحده على التعيين، بل كل من يحصل ذلك؛ كقوله تعالى:{وَلَوْ تَرَى إِذْ وَقِفُوا} [الأنعام: 27]، أو المراد المعيَّن، ويعلم حكم غيره بالقياس عليه، والظاهر: أن يقال الخطاب خاص أريد به عام؛ فافهم (من ليلتك؛ فأنت على الفطرة)؛ أي: على دين الإسلام، وقد تكون (الفطرة) بمعنى الخلقة؛ كقوله تعالى:{فِطْرَةَ اللهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]، وبمعنى السنة؛ كقوله عليه السلام: «خمس من الفطرة
…
»؛ الحديث، وقال الطيبي: أي: مات على الدين القويم ملة إبراهيم عليه السلام أسلم واستسلم، وقال: أسلمت لرب العالمين، وجاء بقلب سليم، كذا في «عمدة القاري» ، (واجعلهنَّ) أي: هذه الكلمات (آخر) وفي رواية الكشميهني: (من آخر)(ما تتكلم به) ولابن عساكر: (ما تكلم)؛ بحذف إحدى التاءين تخفيفًا، ورواية الكشميهني مبينة أنه لا يمتنع أن يقول بعدهن شيئًا من المشروع ذكره عند النوم، وهو كذلك، لكن الأكمل والأحسن جعلها آخرًا حقيقة وتسمية ما ذكر كلامًا بالنظر إلى اللغة والاصطلاح وإن كان لا يسمى في عرف الفقهاء في الإيمان كلامًا، وإنما يسمَّى ذكرًا ودعاء؛ فافهم، (قال)؛ أي: البَرَاء بن عازب: (فردَّدتها)؛ بتشديد الدال المهملة الأولى، وسكون الثالثة؛ لإدغامها في التاء؛ أي: كررت هذه الكلمات (على النبيِّ) الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ أي: لأحفظهن، (فلما بلغت)؛ أي: وصلت في القراءة: (اللهم؛ آمنت بكتابك الذي أنزلت) والمراد: بلغت آخر هذه الجملة، فلا يرد أن السياق يقتضي أن يقول: فلما بلغت (ونبيك)(وقلت: ورسولك) زاد الأصيلي: (الذي أرسلت)(قال) أي: النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم: (لا)؛ أي: لا تقل: ورسولك، بل قل:(ونبيك الذي أرسلت) حتى يجمع بين صفتيه؛ وهما الرسول والنبيُّ صريحًا وإن كان وصف الرسالة يستلزم النبوة، ويحتمل أن ألفاظ الأذكار توقيفية في تعيين اللفظ، وتقدير الثواب، فربما كان في اللفظ زيادة تبيين ليس في الآخر وإن كان يرادفه في الظاهر، ويحتمل أنه أوحى إليه بهذا اللفظ فرأى أن يقف عنده؛ لأنَّه ذكر ودعاء، فيقتصر فيه على اللفظ الوارد بحروفه، وقد يتعلق الجزاء بتلك الحروف، ويحتمل أنه ذكره؛ احترازًا ممن أرسل من غير نبوة؛ كجبريل وغيره من الملائكة عليهم السلام؛ لأنَّهم رسل لا أنبياء، ويحتمل أن يكون رده دفعًا للتكرار؛ لأنَّه قال في الأولى:(وبنبيك الذي أرسلت)، فلو قال:(ورسولك)؛ لزم التكرار، ويحتمل أن النبيَّ (فعيل) بمعنى (مفعول) من النبأ، وهو الخبر؛ لأنَّه إنباء عن الله عز وجل؛ أي: أخبر، وقيل: إنه مشتق من النباوة: وهو الشيء المرتفع، ورد النبيُّ عليه السلام على البَرَاء؛ ليختلف اللفظان، ويجمع الثناء بين معنى الارتفاع والإرسال ويكون تعديدًا للنعمة في الحالين، وتعظيمًا للمنَّة على الوجهين، ويحتمل أن ألفاظه عليه السلام ينابيع الحكمة، وجوامع الكلم، فلو جوز أن يعبر عن كلامه بكلام غيره؛ سقطت فائدة النهاية في البلاغة التي أعطيها عليه السلام، وزعم ابن حجر: ويحتمل أن لفظ النبيِّ أمدح من لفظ الرسول؛ لأنَّه مشترك في الإطلاق على كل من أرسل بخلاف لفظ النبي، فإنه لا اشتراك فيه عرفًا، وعلى هذا؛ فقول من قال: كل رسول نبي من غير عكس؛ لا يصح إطلاقه، انتهى.
ورده في «عمدة القاري» : بأن هذا غير موجه؛ لأنَّ لفظ النبيِّ كيف يكون أمدح وهو لا يستلزم الرسالة؟ بل لفظ الرسول أمدح؛ لأنَّه يسلتزم النبوة؛ فافهم.
وزعم القسطلاني بأن المعنى يختلف، فإنه لا يلزم من الرسالة النبوة ولا عكسه.
قلت: وهو فاسد، بل يلزم من الرسالة النبوة، ألا ترى أن الرسول لا يرسل إليه إلا بعد أن يصير نبيًّا، على أن الاختلاف في التعبير من حيث الإطلاق، فإذا قيد بالبشر؛ يصح الكلام، ويحصل المرام.
قال الخطابي: (وفي الحديث حجة لمن منع رواية الحديث بالمعنى وهو قول ابن سيرين وغيره، فكان يذهب هذا المذهب أبو العباس النحوي ويقول: ما من لفظة من الألفاظ المتناظرة من كلامهم إلا وبينها وبين صاحبتها فرق وإن دق ولطف؛ كقولك: بلى ونعم).
قال في «عمدة القاري» : (هذا الباب فيه خلاف بين المحدثين وقد عرف في موضعه، ولكن لا حجة في هذا للمانعين؛ لأنَّه يحتمل الأوجه التي ذكرناها بخلاف غيره) انتهى.
وقد تبعه ابن حجر فقال: (ولا حجة لمن استدل به على أنه لا يجوز إبدال لفظ: (قال نبي الله) مثلًا في الرواية بلفظ: «قال رسول الله» وبالعكس، ولو جازت الرواية بالمعنى، وكذا لا حجة فيه لمن جوز الأول دون الثاني؛ لكون الأول أخص؛ لأنَّ الذات المخبر عنها في الرواية واحدة، فبأيِّ وصف وصفت به الذات من أوصافها؛ علم القصد بالمخبر عنه ولو تباينت معاني الصفات، بخلاف ما في حديث الباب؛ فإنه يحتمل ما تقدم من الأوجه) انتهى.
وإنما ختم كتاب (الوضوء) بهذا الحديث؛ لأنَّه آخر وضوء أمر به المكلف في اليقظة، ولقوله في الحديث:«واجعلهنَّ آخر ما تتكلم به» ، فأشعر ذلك بختم الكتاب.
اللهم؛ اختم لنا بالوفاة على الإيمان، وارزقنا علمًا نافعًا، ورزقًا واسعًا، وعافية من جميع البلايا، وتمام النعمة، والنصر على الأعداء، اللهم؛ أطل عمري بطاعتك، وكثر أولادي، ووفِّقهم لما تحب وترضى، واجعلنا وإياهم من الآمنين يا أرحم الراحمين.
وفي يوم الخامس عشر جماد أول سنة سبع وسبعين أمر الحكام أهل البلد أن يتهيؤوا لرفع التراب من حارة النصارى.
اللهم؛ فرج عنا وعن المسلمين يا أرحم الراحمين.
((5))
[كتاب الغُسْل]
(بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب الغسل) كذا في الرواية، ووقع في رواية الأكثر تأخير البسملة عن (كتاب الغسل)، قيل: وجهه أن الترجمة قائمة مقام اسم السورة، والأحاديث المذكورة بعدها كالآيات المفتتحة بها، وأما وجه تقديمها؛ فظاهر؛ لأنَّ كتاب الوضوء قد تم وختم، وهنا قد ابتدأ بحكم آخر؛ وهو غسل الجنابة، ووقع في رواية الأصيلي:(باب الغسل)؛ بإسقاط البسملة، وإبدال (كتاب) بـ (باب)، قال إمام الشارحين في «عمدة القاري» :(وهذا أوجه؛ لأنَّ الكتاب يجمع الأنواع، والغسل نوع واحد من أنواع الطهارة وإن كان في نفسه يتعدد)، و (الغُسل)؛ بضمِّ الغين؛ لأنَّه اسم للاغتسال: وهو إسالة الماء، وإمراره على الجسم، وقيل: الماء، وبفتح الغين مصدرًا، وفي «المحكم» :(غسل الشيء يغسله غسلًا) انتهى.
قال في «عمدة القاري» : (وهذا لم يفرق بين الفتح والضم وجعل كلاهما مصدرًا، وغيره يقول: بالفتح مصدر، وبالضم اسم، وبالكسر: اسم لما يجعل مع الماء؛ كالأشنان) انتهى.
وقال بعض الشراح: (وأما المصدر؛ ففيه الضم والفتح)، قاله الأصمعي وهو يوافق ما في «المحكم» ، لكن الأشهر فيه لغة الفتح، والأشهر عند الفقهاء فيه الضم، انتهى.
وبهذا ظهر فساد ما زعمه القسطلاني من أن الفتح أفصح وأشهر من الضم؛ فليحفظ.
فإذا علمت أن الضم هو المشهور، وأنه اسم من الاغتسال وهو تمام غسل الجسد؛ ظهر لك أنه لا فرق بين المعنى اللغوي والشرعي، وقال أبو زيد: الغسل؛ بالفتح: فعل المغتسل، وبالضم: الماء الذي يغتسل به، وبالكسر: ما يجعل مع الماء؛ كالأشنان، وحقيقة الغسل؛ لغة: هو السيلان مطلقًا، وشرعًا: سيلان الماء على جميع الجسد والشعر، ومنه: المضمضة والاستنشاق، وهما فرضان عملًا لا اعتقادًا، سواء نوى- وهو الأكمل- أو لم ينو، فإن الجمهور من الفقهاء: على أن النية ليست بشرط فيه؛ كالوضوء، وهو قول الإمام الأعظم، وأصحابه، وزعم الشافعية أنها شرط، وسواء تدلك- وهو الأكمل- أو لم يدلك؛ لأنَّ الجمهور ومنهم الإمام الأعظم، وأصحابه، والشافعي على أن الدلك فيه -كالوضوء- ليس بشرط، وقال الإمام أبو يوسف: إنه شرط في الغسل فقط، وقال مالك، والمزني: إن الدلك شرط في الغسل والوضوء، واحتجوا بالقياس على الوضوء، وبالإجماع على إمرار اليد على أعضاء الوضوء عند غسلها، فيجب في الغسل؛ لعدم الفرق بينهما، ورُدَّ: بأنا لا نسلم وجوب الدلك في الوضوء أيضًا؛ لأنَّ جميع من لم يوجب الدلك؛ أجاز، وأغمس اليد في الماء للمتوضئ من غير إمرار اليد؛ فبطل دعوى الإجماع، وانتفت الملازمة، واحتج الإمام أبو يوسف بقوله تعالى:{فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]؛ لما فيها من المبالغة وهي تقتضي افتراض الدلك كما تقتضي افتراض المضمضة والاستنشاق؛ فافهم.
وإنما ذكر الغسل بعد الوضوء؛ اقتداءً بالكتاب العزيز، ولأن الحاجة إلى الوضوء أكثر، والحاجة إلى الغسل أقل، ولأن محل الوضوء جزء من البدن، ومحل الغسل جميع البدن، والجزء مقدَّم على الكل طبعًا، فقدم وضعًا؛ ليوافق الوضع الطبع؛ ولأنَّه يسن تقديم الوضوء على الغسل، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
(وقولُِ الله تعالى)؛ بالرفع أو الجر، وفي بعض النسخ:(وقول الله)، وللأصيلي: عز وجل، وإنما افتتح كتاب بالآيتين الكريمتين؛ للإشعار بأن وجوب الغسل على الجنب بنصِّ القرآن، فقال:({وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا})[المائدة: 6]، هذه الآية الشريفة من سورة المائدة؛ يعني: اغسلوا أبدانكم على وجه المبالغة من الحدث الأكبر، وهذا هو المراد وإن كانت الطهارة تعم الحدث والخبث، ويستفاد منه: أن المغتسل يسن له أن يبدأ فيغسل يديه، وفرجه، ويزيل النجاسة بالماء، وبكل مائع طاهر إن كانت موجودة على بدنه؛ ليطمئن بزوالها قبل أن تشيع على جسده ولو كانت قليلة، والمراد: أن السنة نفس البداءة بغسل النجاسة، وأما نفس غسلها؛ فلا بد منه ولو قليلة؛ لتنجس الماء بها، فلا يرتفع الحدث عما تحتها ما لم تزل.
ويستفاد منه أيضًا: أن المسلم إذا مات ينجس نجاسة خبثٍ، على ما عليه عامة العلماء؛ لأنَّه حيوان دموي فينجس بالموت؛ كغيره من الحيوانات وهو الصحيح كما في «الكافي» ، و «المحيط» ، وغيرهما، فإذا وقع في الماء القليل؛ يفسده، وإذا حمله وصلى؛ لا تصح صلاته، فإذا غسل؛ فإنه يطهر، وأما الكافر إذا مات؛ فإنه لا يطهر بالغسل، ولا تصح صلاة حامله بعده بالاتفاق، كذا في «منهل الطلاب» ، وأما قوله عليه السلام:«سبحان الله! إن المؤمن لا ينجس» ؛ فمعناه: ما دام حيًّا أو ما بعد تغسيله من حيث صحة الصَّلاة عليه، أو معناه: لا تنجسه الذنوب حتى لا يطهر بعد الغسل، على أن الحديث قد تكلم فيه الحفاظ النقاد؛ فافهم.
قال في «عمدة القاري» : والجنب يستوي فيه الواحد والاثنان، والجمع، والمذكر والمؤنث؛ لأنَّه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب، يقال: أجنب يجنب إجنابًا، والجنابة الاسم، وهو في اللغة: البعد، وسمي الإنسان جنبًا؛ لأنَّه ينهى أن يقرب من مواضع الصَّلاة ما لم يتطهر، ويجمع على أجناب، وجنبين، وقوله:{فَاطَّهَّرُوا} القاعدة تقتضي أن يكون أصله: تطهَّروا، فلما قصد الإدغام؛ قلبت التاء طاء، وأدغمت
(1)
التاء في الطاء، واجتلبت همزة الوصل؛ ومعناه: طهِّروا أبدانكم.
قلت: أصله من باب (التفعُّل)؛ ليدل على التكلُّف والاعتماد، وكذلك باب (الافتعال) يدل عليه نحو:(اطَّهروا)، أصله من طهر يطهر، فنقل (طهر) إلى باب (الافتعال)، فصار اتطهر على وزن (افتعل)، فقلبت طاء، وأدغمت الطاء في الطاء، وفيه من التكلُّف ما ليس في (طهر)، انتهى.
ومثل الجنب الحائض، والنفساء؛ إذا طهرتا، كما لا يخفى، ({وَإِن كُنتُم مَّرْضَى})؛ أي: مرضًا يخاف معه إن اغتسل بالماء أن يقتله البرد، أو يمرضه، أو يتلف بعض أعضائه، أو يزداد مرضه، أو يبطئه بغلبة الظن بتجربة، أو إخبار طبيب مسلم؛ فإنه يتيمَّم عند الإمام الأعظم رضي الله عنه ولو كان بالمصر، وقال الصاحبان: إذا كان بالمصر؛ لا يتيمم؛ لأنَّ تحقق عدم الماء في المصر نادر، والمعتمد الأول، ولهذا جزم به الإمام قاضيخان، فقال في «الخانية» :(الجنب الصحيح في المصر إذا خاف الهلاك من الاغتسال؛ يباح له التيمم، في قول الإمام الأعظم) انتهى.
وهذا مشروط بأن لا يجد قدرة على تسخين الماء، ولا على أجرة الحمام في المصر، ولا يجد ثوبًا يتدفأ به، ولا مكانًا يأويه، كما في «البدائع» ، وشرح «الجامع الصغير» ، قال في «البحر» :(فصار الأصل فيه أنه متى قدر على الاغتسال بوجه من الوجوه لا يباح له التيمُّم اتفاقًا) انتهى.
وروى ابن أبي حاتم عن مُجَاهِد: أنها نزلت في مريض من الأنصار لم يكن له خادم ولم يستطع أن يقوم ويتوضأ.
قلت: فإن وجد خادمًا؛ كعبده وولده وأجيره؛ لا يجزئه التيمم اتفاقًا، كما في «البحر» عن «المحيط» ، وإن وجد غير خادمه ممن لو استعان به؛ أعانه ولو زوجته؛ فظاهر المذهب أنه لا يتيمم أيضًا بلا خلاف، كما يفيده كلام صاحبي «المبسوط» و «البدائع» ، وغيرهما.
({أَوْ عَلَى سَفَرٍ}) : والمعتبر هنا هو السفر العرفي والشرعي؛ لما في «الخانية» : (قليل السفر وكثيره سواء في التيمم والصَّلاة على الدابة خارج المصر، وإنما الفرق بين القليل والكثير في ثلاثة؛ قصر الصَّلاة، والإفطار، والمسح على الخفَّين) انتهى، وفي «المحيط» : أو كان في مكان خارج المصر سواء كان خروجه لتجارة، أو لمزارعة، أو احتطاب، أو احتشاش، أو غير ذلك، وكان بينه وبين المصر نحو الميل على المعتمد، ويكفي في تقديره غلبة الظن هو المشهور، كما في أكثر الكتب، وروى البغوي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلًا منا حجر، فشجه في رأسه فاحتلم، فسأل أصحابه: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ قالوا: لم نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أخبر بذلك، فقال: «قتلوه قتلهم الله تعالى، ألا تسألوا إذ لم تعلموا؛ فإنما شفاء العي السؤال، إنَّما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه خرقة،
(1)
في الأصل: (أدغم)، ولعل المثبت هو الصواب.
ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده»، انتهى، وفي «الفتاوى الظهيرية» : مقطوع اليدين والرجلين إذا كان بوجهه جراحة يصلي بغير طهارة، ولا يتيمم ولا يعيد في الأصح، قاله في «البحر» ، ({أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ})؛ أي: فأحدث بخروج الخارج من أحد السبيلين، وأصل الغائط: المكان المطمئن من الأرض، فالمجيء من الغائط كناية عن الحدث؛ لأنَّ نفس المجيء من المطمئن من الأرض لا يوجب الطهارة، وسُمِّيَ الحدث غائطًا تسمية للشيء باسم مكانه؛ لأنَّهم كانوا قبل اتخاذ الكنف في البيوت يأتون الغائط؛ أي: المطمئن من الأرض احتجابًا عن أعين الناس، ({أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ})؛ أي: جامعتم النساء؛ لأنَّ المس بإجماع أهل اللغة: الجماع، فإن جميع العرب كانت تُكَنِّي عن الجماع بالمسِّ، وقرئ:{أو لمستم} ، فهي محمولة على (لامستم) على أن المراد منهما المس؛ وهو الجماع، وهو مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور، وهو مذهب ترجمان القرآن ابن عباس، وعليٍّ، والجمهور من الصحابة والتابعين، وزعم الشافعية أن {لامَسْتُمُ}؛ أي: لمستم المشتَهَيات منهن من غير المحارم؛ أي: مسستم بشرتهن ببشرتكم، واستدلوا بقراءة حمزة والكسائي:{أو لمستم} وإن كان خلاف الظاهر، وخلاف ما عليه أئمة اللغة ومن عادة العرب؛ فافهم، ({فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً})؛ أي: لم تقدرا على استعماله؛ لعدمه أو بعده، أو لفقد آلة الوصول إليه من الدلو، والرشاء، أو لمانع عنده من حية أو سبع، أو عدو، أو مشغول بحاجته للعطش سواء كان لنفسه، أو لكلبه، أو لرفيقه، أو دابته حالًا أو مآلًا أو للعجين، أو الطبيخ، أو لإزالة النجاسة، فإن ذلك كله كالمعدوم، فالمراد من عدم الوجدان عدم القدرة على استعمال الماء المطلق الكافي لطهارته لصلاة تفوت إلى خلف؛ كالصلوات الخمس، فإن خلفها قضاؤها، وكالجمعة فإن خلفها الظهر، واحترز به عمَّا لا يفوت إلى خلف؛ كصلاة الجنازة والعيدين، والكسوف، والسنن الرواتب، فلا يشترط لها عدم الوجدان، وظاهر النظم الشريف يدل على أن يكون المرض والسفر من الأسباب الموجبة للطهارة؛ كالحدث الواقع بخروج ما خرج من أحد السبيلين، وبملامسة النساء، وليس كذلك؛ بل المرض والسفر من الأسباب المرخصة لا من الأسباب الموجبة للطهارة إلا أن ما يوجب الطهارة لما كان منحصرًا في الحدث الأصغر والجنابة، وكان أغلب الأحوال المقتضية لترخص من اتصف بها بالتيمم منحصرًا في المرض والسفر كان الظاهر أن يقال: وإن كنتم جنبًا مرضى أو مسافرين، أو كنتم محدثين مرضى أو مسافرين إلا أن الجنب -لما سبق ذكره- اقتصر على بيان حاله المقتضية لترخصه بالتيمم والمحدث لما لم يَجْرِ ذكره؛ علم أن التفصيل لحال الجنب، فإن عدم وجدان الماء بمعنى عدم التمكن من استعماله عذر يرخص التيمم، وعدم التمكن من استعمال الماء مجمل حيث لم يبين أن سببه هو المرض أو السفر هكذا يجب أن يفهم هذا المحل؛ فافهم، والفاء في قوله:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} عطفت ما بعدها على الشرط، وقوله:({فَتَيَمَّمُوا}) : جواب الشرط، وضمير (تيمموا) لكل من تقدم من مريض، ومسافر، ومتغوط، وملامس، وفيه تغليب الخطاب على الغيبة؛ لأنَّ قوله:{كُنتُمْ} {أَوْ لامَسْتُمُ} خطاب، وقوله:{أَوْ جَاءَ أَحَدٌ} غيبة غلب الخطاب في {كُنتُمْ} وما بعده على الغيبة في قوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ} وما أحسن الإتيان هنا بالغيبة! لأنَّه كناية عما يستحي منه، فلم يخاطبهم به وهو من محاسن الكلام، ({صَعِيدًا طَيِّبًا})؛ يعني: أن التيمم بمعنى: القصد والتعمد، وأن الصعيد: هو وجه الأرض ترابًا كان أو غيره، سمِّي صعيدًا؛ لكونه صاعدًا ظاهرًا، وأن الطيب بمعنى: الطاهر سواء كان منبتًا أو غير منبت حتى لو فرضنا صخرًا لا تراب عليه فضرب المتيمم يده عليه ومسح؛ كان ذلك كافيًا؛ لظاهر الآية الشريفة، هذا مذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه، وقال الإمام أبو يوسف، وتبعه الشافعي: لا بدَّ من تراب يلتصق بيده؛ لأنَّ هذه الآية مقيدة، وهي قوله تعالى:({فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ}) : وكلمة (من) للتبعيض، ومسح بعض الصعيد لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه، ورُدَّ: بأنَّا لا نسلم أن (من) للتبعيض؛ بل هي لابتداء الغاية؛ لأنَّه لا يصح فيها ضابط التبعيض والبيان، وهو وضع بعض موضعها في الأول، ولفظ الذي في الثاني و (الباء) في الأول بحاله، ويزاد في الثاني جزء؛ ليتم صلة الموصول؛ كما في {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [الحج: 30]؛ أي: الذي هو الأوثان، ولو قيل: فامسحوا بوجوهكم وأيديكم بعضه؛ أفاد أن المطلوب جعل الصعيد ممسوحًا والعضوين آلته، وهو منتف إجماعًا، وزعم في «الكشاف» أن قولهم:(من) لابتداء الغاية قول متعسف، ولا يفهم أخذه من العرب من قول القائل: مسحت برأسي من الدهن، ومن الماء، ومن التراب إلا معنى التبعيض، والإذعان للحق أحق.
قلنا: إن هذا مردود، والجواب: أن عدم الفهم إنَّما نشأ من اقتران (من) بالزمن ونحوه مما هو أسهل من التبعيض، ولو قرنت بما ليس كذلك؛ لانعكس الحكم، فيقال: لا يفهم أحد من العرب من قول القائل: مسحت يدي من الحجر والحائط معنى التبعيض أصلًا، بل معنى الابتداء، ومدخولها ههنا هو الصعيد، وهو مشتمل على ما يتبعض بشموله له ولغيره، ومعناها الحقيقي المجمع عليه هو الابتداء، على أنه قد أنكر معنى التبعيض جماعةٌ من أهل العربية؛ كأبي العباس المبرد، والأخفش، وابن السراج، والسهيلي، وغيرهم، وقالوا: إنها لا تدل على غير الابتداء، وسائر المعاني راجعة إليه، وقلنا أيضًا: إن الصعيد اسم لوجه الأرض ترابًا وغيره، قال الزجاج: لا أعلم اختلافًا بين أهل اللغة فيه، وإذا كان هذا مفهومه؛ وجب تعميمه، ويدل له قوله عليه السلام في «الصحيحين» :«وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا» ، فإن (اللام) فيه للجنس، فلا يخرج شيء منها؛ لأنَّ الأرض كلها جعلت مسجدًا، وما جعل مسجدًا هو الذي جعل طهورًا، ويدل للعموم أيضًا قوله تعالى:{صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف: 40]؛ أي: حجرًا أملس، فإن التراب لا يكون زلقًا، وأما الطيب؛ فلفظ مشترك يستعمل بمعنى المنبت، وبمعنى الحلال، وبمعنى الطاهر، وقد أريد به الطاهر إجماعًا، فلا يُراد غيره؛ لأنَّ المشترك لا عموم له، ولأن التيمم إنَّما شرع لدفع الحرج، كما يفيده سياق الآية الكريمة، وهو فيما قلنا، فيتعين أن يجوز التيمم بكل ما كان من جنس الأرض؛ كالتراب، والرمل، والحجر، والجص، والتورة، والكحل، والزرنيخ، وأما الذهب، والفضة، والحديد، والنحاس، وما أشبهها، فما دامت على الأرض ولم يُصْنَع منها شيء؛ يجوز، وبعد السبك لا يجوز، وهذا ما عليه الجمهور من أهل التفسير، وأهل اللغة، وغيرهم، والإذعان للحق أحق من المراء؛ فافهم.
وإنما كان التيمم في الوجه واليدين خاصة؛ لأنَّه بدل عن الغسل، وهو الأصل، والرأس ممسوح، والرجلان فرض متردد بين المسح والغسل، كذا في «الجوهرة»؛ يعني: إذا لبس الخفين؛ كان فرضهما المسح على الخفين، وإلا؛ ففرضهما الغسل، كذا في «منهل الطلاب» ، فيمسح من وجهه ظاهر البشرة والشعر على الصحيح، كما في «فتح القدير» ، والاستيعاب شرط على المختار، فيخلل لحيته وأصابعه ويحرك الخاتم، كما في «النهر» عن الفيض، ويجب مسح ما تحت الحاجبين ومؤق العينين، كما في «المحيط» ، ولا يشترط الترتيب في التيمم كأصله، كما في «البحر» ؛ بل هو سنة، كما في «منهل الطلاب» ، والقصد شرط؛ لأنَّه النية، كما في «البحر» ، وقال الإمام زفر: النية في التيمم ليست بشرط؛ كالوضوء، كما في «المجتبى» ، وقال أبو بكر الرازي: لا بد من التمييز بين الحدث والجنابة، وعند أئمتنا الأعلام:
ينوي الطهارة أو إباحة الصَّلاة، فيجوز به كل فعل لا صحة له بدون الطهارة، كما في «الأشباه والنظائر» ، واليد لغة: اسم من رؤوس الأصابع إلى الإبط، وبه قال الزُّهري في (التيمم) بخلاف (الوضوء)، وقال الأوزاعي: إلى الرسغ، ومذهب الإمام الأعظم والجمهور: إلى المرافق، والغاية داخلة، وقال الإمام زفر: غير داخلة، وما روي: أنه عليه السلام تيمم ومسح على يديه إلى المرفقين، والقياس على الوضوء دليل على أن المراد ههنا: وأيديكم إلى المرافق، وعند مالك وأحمد: الفرض أن يمسح يديه إلى كوعيه فقط، ولكن يسن إلى مرفقيه.
({مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ})؛ أي: ضيق أو مشقة؛ أي: لا يريد تكليف الوضوء، والاغتسال، والتيمم تضييق الأمر عليكم، وإلحاق المشقة بكم، ({وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ})؛ أي: ولكن يريد تطهيركم من الحدث والجنابة، أو من الذنوب، فإن الوضوء مكفر لها، أو تطهيركم بالتراب إذا فقدتم الماء، فمفعول {يُرِيدُ} في الموضعين محذوف، و (اللام) للجحود وهي للتعليل متعلقة به، وقيل: زائدة، فالمفعول المحذوف إما الأمر بمطلق الطهارة سواء كان بالتوضؤ، أو الاغتسال، أو التيمم، وإما الأمر بالتيمم بخصوصه بشهادة ذكر الإرادة متصلًا بذكر الأمر بالتيمم؛ أي: ما يريد بالأمر المذكور تضييقًا عليكم، ولكن يريده؛ لينظفكم وينقيكم عن النجاسة الحكمية الحاصلة بخروج النجس من مخرجه، فإن الحدث والجنابة لا يوجبان نجاسة حقيقية إذا غسل موضع إصابة النجس، فالطهارة إنَّما تنظف من النجاسة الحكمية، ({وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ})؛ أي: ويريد إتمام النعمة عليكم بإباحة التيمم لكم، والتخفيف في حالة السفر والمرض، أو يدخلكم الجنة، فإنه لا تتم نعمته إلا به ({لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ})؛ أي: نعمته، فيزيدها عليكم، وهذه الآية مشتملة على سبعة أمور؛ كلها مثنى طهارتان أصل وبدل، فالأصل ما يكون بالماء، والبدل ما يكون بالصعيد، وما يكون بالماء اثنان مستوعب؛ وهو الغسل، وغير مستوعب؛ وهو الوضوء، ثم الوضوء باعتبار الفعل غسل ومسح، وباعتبار المحل محدود؛ وهو غسل اليدين والرجلين؛ حيث ذكر كل واحد منهما بكلمة الغاية وهي تفيد التحديد، وغير محدود؛ وهو غسل الوجه ومسح الرأس، فإن شيئًا منهما لم يذكر بكلمة الغاية، وآلة كل واحدة من الطهارتين مائع؛ وهو الماء، وجامد؛ وهو الصعيد، وموجب تلك الطهارتين حدث أصغر أو أكبر، وأن المبيح للعدول إلى البدل مرض أو سفر، وأن الموعود عليهما تطهير الذنوب، أو الأحداث، وإتمام النعمة؛ فليحفظ.
ولمَّا بين آية المائدة شرع في آية النساء، فقال:(وقوله جل ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ})؛ أي: لا تدنوا إلى مواضع الصَّلاة وهي المساجد ({وَأَنْتُمْ سُكَارَى}) الواو للحال؛ أي: حالة السكر، فذكر الصَّلاة، وأراد بها مواضعها؛ كما في قوله تعالى:{لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} [الحج: 40]، وهو قول عمر وابن مسعود رضي الله عنهما، ويدل لهذا الإضمار أنه عطف عليه {ولا جنبًا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} [النساء: 43]، وهي نهي الجنب عن قربان المساجد، فإنه استثنى عابر سبيل، وذلك في حق المساجد؛ لحرمة الصَّلاة، فكان النهي عن هذا نهي عن ذلك، ثم النهي ليس عن غير الصَّلاة؛ فإنها عبادة فلا ينهى عنها، بل هو نهي عن اكتساب السكر الذي يعجزه عن الصَّلاة، ويدل له أيضًا أن الحذف اعتمادًا على دلالة القرينة على المحذوف صحيحٌ شائع، والقرينة ههنا قوله تعالى:{لَا تَقْرَبُوا} ؛ فإن قرب نفس الصَّلاة حقيقة لا يتصور؛ فلا بد من حمله على المعنى المجازي بخلاف قرب المسجد حقيقة؛ فإنه يصح ويتصور، فيتعين الحمل على مواضع الصَّلاة؛ وهي المساجد، وذهب الجمهور من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم: إلى أن المراد من لفظ: {سُكَارَى} في الآية: السكر من الخمر وهو نقيض الصحو، وقال الضحاك: ليس المراد منه سكر الخمر، وإنما المراد منه سكر النوم، فإن لفظ السكر يستعمل في سكر النوم أيضًا؛ بناءً على أن السكر بالضم مأخوذ من سكر الماء؛ وهو سد مجراه، يقال: سكِر يسكَر سكرًا؛ مثل: بطِر يبطَر بطرًا، والاسم السُّكر؛ بالضم، والسَّكر؛ بالفتح مصدر سكرت النهر أسكره سكرًا؛ إذا سددته، والسِّكر؛ بالكسر: العزم، فلما كان السكر في أصل اللغة عبارة عن سد الطريق سُمِّي السكر من الشراب سكرًا؛ لما فيه من انسداد طريق المعرفة بغلبة السرور، وانسداد مجاري الروح المنبسط إلى الحواس الظاهرة بغلبة بخار الشراب عليها؛ ومنه قوله تعالى:{إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} [الحجر: 15]؛ أي: سدت ومنعت النظر، وسكرات الموت أُخِذَت منه، وقوله تعالى:{وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى} [الحج: 2] : هو تشبيه بحال سكر الشراب، وأكثر المفسرين: على أن المراد من لفظ {سُكَارَى} : السكر من الشراب، وهو الأظهر الأشهر عندهم، لا سيما وعليه الجمهور من الصحابة والتابعين؛ فليحفظ.
وفي الآية: دلالة على أن السكران مخاطب؛ لأنَّه قال تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} ، وإذا كان مخاطبًا؛ عمل طلاقه، ونفذت عقوده، وسبب نزولها:(أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه صنع طعامًا فدعا أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعليًّا، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم، فأكلوا وسقاهم خمرًا - وذلك قبل تحريمها - فحضرت صلاة المغرب، فأمَّهم عبد الرحمن بن عوف)، وفي رواية:(فأمهم رجل من خيارهم)، وفي رواية:(فأمهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] فطرح اللاءات)، فنزلت هذه الآية، وقيل: إن المراد بالصَّلاة في هذه الآية نفس الصَّلاة، وإن المعنى: لا تصلوا إذا كنتم سكارى ({حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ})؛ أي: حتى تفهموا معنى الذي تقولونه، فبيَّن سبحانه أن السكر هو أن يصير بحال لا يعلم ما يقول، وحدُّ السكر عند الإمام الأعظم رضي الله عنه: هو ألَّا يعرف الأرض من السماء، ولا الرجل من المرأة، وعند الإمامين أبي يوسف ومحمَّد، وتبعهما الشافعي: هو أن يخلط في كلامه، وفي الآية: دلالة على أن في الصَّلاة قولًا فرضًا نهي عن قربانها في حالة السكر؛ مخافة تركه، أو خوفًا من أن يدخل فيها قولًا ليس منها، وفيه: دليل على فساد الصَّلاة بالكلام عمدًا أو خطأً؛ لأنَّ السكران غير عامد، وفيه: دليل على أن الخطأ الفاحش في القراءة مفسد للصلاة، وعلى أن ردة السكران ليست بردة، فإن حديث قراءة بعضهم سورة الكافرون بطرح اللاءات مع أن اعتقادها كفر، ولم يكن كفرًا من ذلك القارئ حيث كان سكران دليل على ما قلنا، وفيه: دليل على أنه إذا جرى الكفر على لسانه خطأ من غير تعمد؛ لم يكفر به؛ لأنَّ ما يجري على لسان السكران خطأ، فعلى ذلك غير السكران وهذا؛ لأنَّ الكفر بالقلب، واللسان معبر عنه، وفي هذه الحالة لا يكون دليلًا على اعتقاد القلب فلم يجعل كفرًا؛ فليحفظ، وقرئ:(سَكارى)؛ بالفتح، و (سَكرى) على أنه جمع؛ كـ (هَلكى)، أو مفرد؛ بمعنى: وأنتم قوم سكرى، و (سُكرى) كـ (حُبلى) على أنها صفة الجماعة، ({وَلَا جُنُبًا})؛ أي: لا تقربوا المساجد وأنتم مجنبون، والجنب للجمع هنا، وهو مشتق من الجنابة؛ وهي البعد، وسمي الرجل الذي يجب عليه الغسل جنبًا؛ لبعده عن الصَّلاة، والمساجد، والقرآن، والجملة في موضع نصب على الحال؛ أي: لا تقربوها حال كونكم جنبًا ({إِلَاّ عَابِرِي سَبِيلٍ})؛ أي: إلا مسافرين عاجزين عن الماء، فلكم حينئذٍ أن تصلوا بالتيمم، فيكون هذا الاستثناء دليلًا على أنه يجوز للجنب الإقدام على الصَّلاة عند العجز عن الماء، قيل: إن نفرًا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد فتصيبهم الجنابة فيريدون الماء ولا يجدون ممرًّا إلا في المسجد، فرخص لهم، وروي: أنه عليه السلام لم يأذن لأحد أن يجلس في المسجد أو يمر فيه وهو جنب إلا لعليٍّ رضي الله عنه؛ لأنَّ بيته كان في المسجد، وقال عليه السلام: «وجِّهوا هذه البيوت عن المسجد، فإني لا أحل المسجد لحائض