الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كل واحد من أصحابه، ويفعل معه ما هو الغالب عليه من أخلاقه مما هو مشهور فيه، ولما كان الحياء الغالب على عثمان؛ استحى منه، وذكر أن الملائكة تستحي منه، فكانت المجازاة من جنس فعله، كذا في «عمدة القاري» .
وقال الكرماني: فإن قلت: الركبة لا تخلو إما أن تكون عورة أو لا، فإن كانت عورة؛ فلِمَ كشفها قبل دخول عثمان، وإن لم تكن عورة؛ فلِمَ غطاها عنه؟
قلت: الشق الثاني هو المختار، وأما التغطية؛ فكانت للأدب والاستحياء منه، انتهى.
يعني: فكَشْف ركبتيه عليه السلام قبل دخول عثمان رضي الله عنه دليل على أنها ليست بعورة، مع أن ستر العورة خارج الصلاة بحضرة الناس واجب إجماعًا إلا في مواضع؛ كالتغوط، والاستنجاء، وحلق العانة، والجماع، واختلف فيه في الخلوة، والصحيح وجوبه إذا لم يكن لغرض صحيح، كما في «البحر» .
وقال صاحب «القنية» : وفي تجرده للاغتسال منفردًا أقوال؛ أحدها: أنه مكروه، الثاني: إذا أمن دخول الناس عليه؛ يعذر، الثالث: أنه يجوز في المدة اليسيرة، وهو قول الإمام الكرابيسي، الرابع: أنه لا بأس به، الخامس: أنه لا يكره أن يغتسل متجردًا في الماء الجاري أو في غيره في الخلوة، وهو قول الإمام أبي نصر بن سلام، السادس: أنه يجوز في بيت الحمام الصغير، وتمامه في «شرح الوهبانية» .
قلت: ولا يشترط سترها عن نفسه، وقيل: يشترط، قال في «مجمع الأنهر» : والشرط سترها عن غيره اتفاقًا لا عن نفسه، هو المختار، كما في «المنية» ، وبه يفتى كما في «الدر المختار» ، ويكره نظره إلى عورة نفسه؛ لأنَّه يورث النسيان، ومن شمائل سيدنا الصديق الأكبر رضي الله عنه: أنه ما نظر إلى عورته قط، وما مسها بيمينه، فإذا كان هذا في عورة نفسه، فما ظنك بعورة غيره؟ كذا نقله القرماني عن حافظ الدين النسفي رحمه الله تعالى.
ولو نظر المصلي إلى عورة غيره؛ لا تفسد صلاته، ولو نظر المصلي إلى فرج امرأة بشهوة؛ حرمت عليه أمها وابنتها، ولو نظر إلى فرج أم امرأته بشهوة؛ حرمت عليه امرأته، ولو نظر إلى فرج امرأته التي طلقها رجعيًّا؛ يصير مراجعًا، ولا تفسد صلاته في الوجوه كلها عند الإمام الأعظم، كما في «الخانية» ، وقال الصاحبان: تفسد صلاته كما في «النوازل» ، وقال إمام الشَّارحين:(وجه مطابقة هذا للترجمة من حيث إن الركبة إذا كانت عورة؛ فالفخذ بالطريق الأولى؛ لأنَّه أقرب إلى الفرج الذي هو عورة إجماعًا).
وزعم الداودي أن هذه الرواية المعلقة عن أبي موسى وَهم، وإنما هي ليست من هذا الحديث، وقد أدخل بعض الرواة حديثًا في حديث: إنَّما أتى أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته منكشف فخذه، فلما استأذن عثمان؛ غطى فخذه، فقيل له في ذلك، فقال:«إن عثمان رجل حيي، فإن وجدني على تلك الحالة؛ لم تبلغ حاجته» ، ورده إمام الشَّارحين فقال: (قلت: الذي ذكرناه من رواية عاصم يرد عليه بيان ذلك أنا قد ذكرنا أن في حديث عائشة رضي الله عنها: «كاشفًا عن فخذيه أو ساقيه» ، وعند أحمد بلفظ:«كاشفًا عن فخذه» من غير شك، وعنده من حديث حفصة مثله، فقد ظهر من ذلك أن البخاري لم يدخل حديثًا في حديث، بل هما قضيتان متغايرتان في إحداهما
(1)
كشف الركبة، وفي الأخرى كشف الفخذ، ورواية أبي موسى التي علقها البخاري في كشف الركبة، ورواية عائشة في كشف الفخذ، ووافقتهما حفصة، ولم يذكر البخاري روايتهما، وإنما ذكر مسلم رواية عائشة، كما ذكرنا) انتهى.
(وقال زيد بن ثابت) : هو الأنصاري النجاري كاتب وحي النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم، وجامع القرآن العظيم في عهد أبي بكر الصديق الأكبر رضي الله عنه، وأمره عليه السلام بتعلم كتب اليهود والسريانية، فتعلم كتب اليهود في نصف شهر، والسريانية في سبعة عشر يومًا، وكان من علماء الصحابة رضي الله عنهم، وقال النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم في حقه:«أفرضكم زيد» ، رواه أحمد بإسناد صحيح، وتوفي سنة اثنتين أو ثلاث أو خمس وأربعين، ودفن غربي دمشق بباب السريجة بمسجد معلوم على ما قيل، وهو مشهور بذلك في ديارنا الشريفة الشامية.
وقال أبو هريرة حين توفي زيد: مات حبر هذه الأمة، وعسى الله أن يجعل في ابن عباس منه خلفًا رضي الله عنهم أجمعين، وفي «عمدة القاري» : وهذا تعليق، وطرف من حديث وصله البخاري في (تفسير سورة النساء) في نزول قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ
…
}؛ الآية، [النساء: 95] وأخرجه في (الجهاد)، وأخرجه الترمذي في (التفسير)، وقال:(حسن صحيح)، وأخرجه النسائي في (الجهاد)، انتهى.
(أنزل الله) عز وجل (على رسوله صلى الله عليه وسلم؛ أي: قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ
…
}؛ الآية (وفخذه على فخذي) : جملة اسمية حالية بالواو، ولأبي ذر: بدونها، (فثَقُلت)؛ بفتح الثاء المثلثة، وضم القاف؛ أي فخذه عليه السلام (عليَّ)؛ بفتح التحتية؛ أي: من ثقل الوحي النازل على رسوله عليه السلام، (حتى خفِت)؛ بكسر الخاء المعجمة؛ أي: ظننت (أن تُرَض)؛ بضم المثناة الفوقية، وفتح الراء، وتشديد الضاد المعجمة على صيغة المجهول، ويجوز أن يكون على صيغة المعلوم أيضًا، كذا قاله إمام الشَّارحين.
قلت: والأول أظهر، كما لا يخفى؛ ومعناه: الكسر؛ لأنَّه من الرض؛ وهو الدق، وكل شيء كسرته؛ فقد رضضته، وقوله:(فخذي)؛ بالرفع بضمة مقدرة على صيغة المجهول، أو بالنصب بفتحة مقدرة على صيغة المعلوم، لكن الأول أظهر؛ لصحة المعنى والسياق؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: (وإيراد البخاري هذا الحديث هنا ليس له وجه؛ لأنَّه لا يدل على أن الفخذ عورة، ولا يدل على أنه ليس بعورة أيضًا، فأي شيء مال إليه لا يدل عليه على أنه مال إلى أن الفخذ عورة)، قال:(وحديث جرهد أحوط، نعم؛ لو كان فيه التصريح بعدم الحائل؛ لدل على أنه ليس بعورة، إذ لو كان عورة في هذه الحالة؛ لما مكن عليه السلام فخذه على فخذ زيد) انتهى.
وزعم ابن حجر أن الظاهر أن المؤلف تمسك بالأصل، ورده في «عمدة القاري» فقال:(لم يبين ما مراده من الأصل، وعلى كل حال لا يدل الحديث على مراده صريحًا) انتهى.
قلت: ومراده بالأصل إنَّما هو المس؛ يعني: يحمل الحديث على المس بدون حائل؛ لأنَّه الأصل، وهو يفيد أن الفخذ ليس بعورة؛ لأنَّ مس العورة بدون حائل حرام؛ كالنظر إليها، ورد بأنه لو كان فيه تصريح بعدم الحائل؛ لدل على أنه ليس بعورة، ولم يكن في الحديث
(1)
في الأصل: (إحديهما)، ولعل المثبت هو الصواب.
ذكر عدم الحائل لا صريحًا ولا دلالة على أن الغالب أنه عليه السلام كان ساترًا فخذه، وكذلك زيد بن ثابت كان ساترًا الفخذ، وهو بالأولى أدبًا مع النبيِّ الأعظم صلى الله عيه وسلم، واستحياءً منه، وهذا هو الظاهر، فإن المؤلف لم يعلم ما مراده بإيراد هذا الحديث، وقد يقال: إن الحديث يدل على أن الفخذ ليس بعورة؛ لأنَّه لا يخلو من كشف عورته غالبًا؛ بسبب الانتقال من جانب إلى آخر، وتصريح زيد بالفخذ يدل على أن فخذه عليه السلام قد كشف، لكن يبقى النظر في أنه عليه السلام هل أقر على الكشف أم نهى وستر عليه؟ وقد يقال: إن الحديث يدل على أن الفخذ عورة؛ لأنَّ الفخذ على الفخذ لا يكون إلا مستورًا بينهما بساتر، ووجود الساتر على الفخذ يدل عليه القرائن من الأحوال، فإنه عليه السلام من عادته ألَّا يكشف عورته ولا فخذه، فإن القرينة الحالية والمقالية يدلان على أن قوله:(فخذه على فخذي)؛ أي: مع وجود الساتر بينهما لا مكشوف، كما ظهر لنا؛ فتأمل، والله أعلم.
[حديث أنس: أن رسول الله غزا خيبر فصلينا عندها]
371 -
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا يعقوب بن إبراهيم) : هو ابن كثير الدورقي العبدي الكوفي، فإن أصل الدورقي من الكوفة، وليس هو من بلد دورق، وإنما سمي به؛ لأنَّه كان يلبس قلنسوة دورقية، فنسب إليها (قال: حدثنا إسماعيل ابن عُلَيَّة)؛ بضم العين المهملة، وفتح اللام، وتشديد المثناة التحتية، نسبه إلى أمه؛ لشهرته بها، فإن اسم أبيه إبراهيم بن سهم بن مقسم البصري، أبو بشر الأسدي؛ أسد خزيمة، الكوفي الأصل، المتوفى ببغداد سنة ثلاث وتسعين ومئة (قال: حدثنا عبد العزيز بن صُهَيْب)؛ بضم الصاد المهملة، وفتح الهاء، وسكون التحتية، آخره موحدة: هو البُناني؛ بضم الموحدة، وبالنون نسبة إلى بنانة؛ بطن من قريش، التابعي هو وأبوه البصري الأعمى، (عن أنس) زاد الأصيلي:(ابن مالك) : هو الأنصاري: (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا خيبر)؛ يعني: غزا بلدة تسمى خيبر؛ فسميت به، والمراد أهلها من إطلاق المحل وإرادة الحال فيه؛ وهي بلدة عنزة من جهة الشمال أو الشرق من المدينة، على ست مراحل من المدينة، و (خيبر) : غير منصرف؛ للعلمية والتأنيث، ولها نخيل كثير، وكانت في صدر الإسلام دارًا لبني قريظة وبني النضير، وكانت غزوة خيبر سنة سبع من الهجرة في جمادى الأولى، قاله ابن سعد، وقال ابن إسحاق:(أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه من الحديبية ذا الحجة وبعض المحرم، وخرج في بقيته غازيًا إلى خيبر، ولم يبق من السنة السادسة إلا شهر وأيام)، كذا في «عمدة القاري» .
(فصلينا عندها) أي: بفنائها خارجًا عنها (صلاة الغداة) : وهي الصبح (بغَلَس)؛ بفتح الغين المعجمة واللام: وهو ظلمة آخر الليل، إنَّما فعل هكذا مع أن الإسفار في صلاة الصبح أفضل وأعظم للأجر، إما للتوسعة على أمته، وإما لكونه داخلًا على الأعداء الكفرة لقتالهم، فخشي إن أسفر أن يرَوه فيتأهبوا للقتال فيفوت المقصود، فأسرع بالصلاة في الغلس حتى يتفرغ هو وأصحابه للقتال مع المحافظة للطهارة وأداء الصلاة؛ لأنَّه ربما يشتغل بالقتال فتفوت الصلاة عن وقتها كما وقع له عليه السلام في حفر الخندق، فلا دليل فيه على أن الأفضل التغليس، بل الأفضل الإسفار للأحاديث الصحاح الدالة على أن عادته عليه السلام الإسفار بالفجر، بل فيها بلفظ الأمر وهو «أسفروا بالفجر؛ فإنه أعظم للأجر» ، والأمر للوجوب، ولما وجد الصارف عن الوجوب؛ بقي الاستحباب وهو الصواب، وفيه جواز إطلاق صلاة الغداة على صلاة الصبح خلافًا لمن زعم من الشافعية أنه مكروه؛ فليحفظ.
(فركب نبي الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: ركب مركوبه، وعن أنس بن مالك قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قريظة والنضير على حمار، ويوم خيبر على حمار مخطوم برسن ليف، وتحته إكاف من ليف)، رواه البيهقي والترمذي، وقال: وهو ضعيف.
وقال ابن كثير: والذي ثبت في «الصحيح» عند البخاري عن أنس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجرى في زقاق خيبر حتى انحسر الإزار عن فخذه)، فالظاهر أنه كان يومئذٍ على فرس لا على حمار، ولعل هذا الحديث إن كان صحيحًا؛ فهو محمول على أنه ركبه في بعض الأيام وهو محاصرها، كذا في «عمدة القاري» .
قلت: ويدل على أنه عليه السلام ركب يوم خيبر فرسًا قوله: (وركب أبو طلحة) : هو زيد بن سهل الأنصاري، شهد العقبة والمشاهد كلها، وهو أحد النقباء، وكان أنس ربيبه، مات سنة اثنتين
(1)
أو أربع وثلاثين بالمدينة أو بالشام أو في البحر، والظاهر أنه ركب على فرس يدل عليه.
قوله: (وأنا رديف أبي طلحة)؛ أي: قال أنس: وأنا رديف أبي طلحة، والجملة اسمية وقعت حالًا، فإن الذي يردف عليه في الغالب الفرس لا الحمار؛ لأنَّه لا قوة له على حمل اثنين، بخلاف الفرس؛ فإنه يحمل اثنين أو ثلاثًا، لا سيما والوقت وقت غزاة فلا يركب في الغزاة إلا الفرس، فهذا يدل على أنه عليه السلام وكذا أبو طلحة كانا راكبين في غزوة خيبر كل منهما على فرس، وما رواه البيهقي إن صح؛ فهو محمول على أنه ركبه في بعض الأيام وهو محاصرها، كما سبق قريبًا؛ فليحفظ.
(فأجرى) : على وزن (أفعل) من الإجراء وفاعله (نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم والمفعول محذوف؛ تقديره: أجرى مركوبه (في زُقاق خيبر)؛ بضم الزاي، وبالقافين: وهي السكة، يذكر ويؤنث، والجمع: أزقة وزُقَّان؛ بضم الزاي، وتشديد القاف، وبالنون.
وقال الأخفش: أهل الحجاز يؤنثون الطريق، والصراط، والسبيل، والسوق، والزقاق، وبنو تميم يذكرون هذا كله، والجمع: الزقان والأزقة؛ مثل: حُوَار، وحوران، وأحورة، كذا في «عمدة القاري» .
(وإن ركبتي) بالإفراد؛ أي: قال أنس: وإن ركبتي (لتمس) بفتح اللام (فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم : حيث كان كل من النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم ومن أبي طلحة راكبًا
(2)
على فرس؛ لأنَّه لو كان النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم راكبًا على حمار؛ لما مس فخذه ركبة أنس؛ للفرق بين العلو والسفل، لا يقال: إنَّهما كانا على حمار؛ لأنَّا نقول: هذا ممنوع؛ لقوله: (وأنا رديف أبي طلحة)، والإرداف لا يكون إلا على الفرس، ولا تخالف في تعبيره بالركبة والفخذ؛ لأنَّ مراده المشاكلة والأدب؛ حيث إن الفخذ أعلى من الركبة، فقصد الأدب في التشريف بفخذه عليه السلام على أن مس
(1)
في الأصل: (اثنين)، والمثبت هو الصواب.
(2)
في الأصل: (راكب)، والمثبت هو الصواب.
الفخذ منه لفخذه عليه السلام لا يمكن كما يشاهد في حال الراكبين، ولو كان النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم على حمار؛ لما أمكن مس ركبة أنس فخذه عليه السلام؛ لأنَّ الفرس أعلى من الحمار، فتعين أنه عليه السلام كان يوم خيبر راكبًا
(1)
على فرس، وأن أبا طلحة كذلك؛ فليحفظ.
(ثم حُسِر)؛ بضم الحاء، وكسر السين المهملتين على صيغة المجهول؛ أي: كشف (الإزار) بالرفع نائب فاعل (عن فخذه) متعلق بقوله: (حسر)، وذلك بسبب قوة جريه عليه السلام، أو بسبب كثرة الزحام، أو بسبب الريح، أو غير ذلك.
وزعم الكرماني أن في بعض الروايات: (على فخذه)؛ أي: الإزار الكائن على فخذه، فلا يتعلق بـ (حسر)، إلا أن يقال: حروف الجر يقام بعضها مقام الآخر، قال إمام الشَّارحين: إن صحت الرواية هذه؛ يكون متعلق (على) محذوفًا كما قاله؛ لأنَّه حينئذ لا يجوز أن يتعلق (على) بقوله: (حسر)؛ لفساد المعنى، ويجوز أن تكون (على) بمعنى (من)، كما في قوله تعالى:{إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ} [المطففين: 2]؛ أي: من الناس؛ لأنَّ (على) تأتي لتسعة معان
(2)
؛ منها: أن تكون بمعنى (من)، انتهى.
(حتى إني أنظر) : وفي رواية الكشميهني: (حتى إني لأنظر)؛ بزيادة لام التأكيد (إلى بياض فخذ نبيِّ الله صلى الله عليه وسلم : وقد علمت أن لفظة (حُسِر) بالبناء للمجهول، وهو ثابت في أكثر الروايات، واعتمده إمام الشَّارحين قال: والدليل على صحة هذا ما وقع في رواية أحمد في «مسنده» من رواية إسماعيل ابن علية: (فانحسر)، وكذا وقع في رواية مسلم، وكذا رواه الطبري عن يعقوب بن إبراهيم شيخ البخاري في هذا الموضع، وروى الإسماعيلي هذا الحديث عن القاسم بن زكريا، عن يعقوب بن إبراهيم، ولفظه:(وأجرى نبي الله صلى الله عليه وسلم في زقاق خيبر؛ إذ خر الإزار)، قال: ولا شك أن الخرور هنا بمعنى: الوقوع، فيكون لازمًا، وكذلك الانحسار في رواية مسلم، وهذا هو الأصوب؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم لم يكشف إزاره عن فخذه قصدًا، وإنما انكشف عن فخذه؛ لأجل الزحام، أو كان ذلك من قوة إجرائه صلى الله عليه وسلم، انتهى.
وفي رواية «الفرع» : (حَسر)؛ بفتح الحاء والسين المهملتين مبنيًّا للفاعل؛ أي: كشف الإزار، وزعم ابن حجر أنَّ هذا المعنى هو الصواب
(3)
؛ لقول أنس في أول الباب: (حسر النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن فخذه)، ولا يلزم من وقوعه، كذلك في رواية مسلم ألَّا يقع عند البخاري على خلافه، انتهى.
ورده إمام الشَّارحين فقال: اللائق بحاله الكريمة صلى الله عليه وسلم ألَّا يثبت إليه كشف فخذه قصدًا مع ثبوت قوله صلى الله عليه وسلم: «الفخذ عورة» على ما تقدم.
وقوله: (لا يلزم من وقوعه
…
) إلى آخره: منع هذه الملازمة ممنوعة، ولئن سلمنا؛ فيحتمل أن أنسًا رضي الله عنه لما رأى فخذه عليه السلام مكشوفًا؛ ظن أنه عليه السلام كشفه، فأسند الفعل إليه، وفي نفس الأمر لم يكن ذلك إلا من أجل الزحام أو من قوة الجري على ما ذكرنا، انتهى.
قلت: على أن (حَسر) بالبناء للفاعل غير ظاهر الثبوت في الرواية، وإنما هو ظن وتخمين من ابن حجر أنه الصواب وليس بصواب كما ظن، فإن استدلاله بقول أنس أول الباب فاسد؛ لأنَّ البخاري علقه بذكر هذه القطعة من هذا الحديث، وذكره بالمعنى لا باللفظ، وأراد به الإشارة إلى أن الفخذ عورة أم لا؟ على أنه يحتمل معناه: حسر النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن فخذه؛ أي: الإزار بسبب أنه تعلق مع غيره من الركاب، فأراد تخليصه من فرس الراكب، فانحسر عن فخذه بغير قصد منه، ويحتمل غير ذلك، فلا دلالة في ذلك على ما ادعاه.
وقوله: (لا يلزم من وقوعه، كذلك في رواية مسلم
…
) إلى آخره: ممنوع، فإن الأحاديث تفسر بعضها بعضًا، لا سيما في حديث واحد وقصة واحدة، فإنه قد روي أيضًا هكذا عند أحمد في «مسنده» ، وكذا رواه الطبري والإسماعيلي هكذا في هذا الحديث، فمنع الملازمة ممنوع، كما لا يخفى، وعليه؛ فيتعين أن يكون أنس رأى فخذه عليه السلام مكشوفًا، فظن أنه عليه السلام كشفه، فأسند الفعل إليه، والحال أنه لم يكن كذلك؛ بل من أجل الزحام، أو تعلقه بالغير من الركاب، أو غير ذلك، وهذا هو الصواب، كما لا يخفى على أولي الألباب.
(فلما دخل) أي: النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم وأصحابه (القرية)؛ أي: خيبر، وهذا مشعر بأن ذلك الزقاق كان خارج القرية، كذا في «عمدة القاري» (قال) عليه السلام:(الله أكبر خربت خيبر)؛ أي: صارت خرابًا، وهل كان ذلك على سبيل الخبرية؟ فيكون من باب الإخبار بالغيب، أو يكون ذلك على جهة الدعاء عليهم، أو على جهة التفاؤل بخرابها لما رآهم خرجوا بمساحيهم ومكاتلهم، وذلك من آلات الحراث، ويجوز أن يكون أخذ من اسمها، وقيل: إن الله تعالى أعلمه بذلك، قاله إمام الشَّارحين.
(إنَّا) أصله: (إننا)، فحذفت نون الضمير تخفيفًا (إذا نزلنا بساحة قوم) : ساحة الدار: باحتها؛ بالحاء المهملة، والجمع: ساح وساحات، وسوح أيضًا؛ مثل: بدنة وبدن، وخشبة وخشب، كذا في «الصحاح» ، قال إمام الشَّارحين:(وعلى هذا؛ فأصل «ساحة» : سوحة، قلبت الواو ألفًا؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها، وأصل الساحة: الفضاء بين المنازل، وتطلق على الناحية، والجهة، والفناء) انتهى.
قلت: ويدل عليه قول القرطبي: ومعنى بساحتهم؛ أي: بدارهم، كذا عن السدي وغيره، والساحة والسحسة في اللغة: فناء الدار، وقال الفراء:(نزل بساحتهم، ونزل بهم سواء) انتهى.
({فَسَاءَ صَبَاحُ المُنذَرِينَ})[الصافات: 177]؛ بفتح الذال المعجمة، (فساء) : فعل ذم بمعنى: بئس، وإن المخصوص بالذم محذوف، وهو صباحهم؛ يعني: فبئس صباح المنذرين صباحهم، واللام في (المنذرين) للجنس لا للعهد؛ ليحصل به التفسير بعد الإبهام، فلو حملت على العهد؛ لا يحصل ذلك، فإن أفعال المدح والذم موضوعة للمدح العام والذم العام؛ أي: لمدح المخصوص وذمه بجميع محاسن جنس الفاعل وقبائحه، وذلك إنَّما يكون بكون الفاعل معرفًا بلام الجنس أو مضافًا إلى المعرف بها؛ نحو: نعم صباح القوم زيد، والصباح مستعار من صباح الجيش الذين ساروا ليلًا نحو العدو، فوصلوا ديارهم ومنازلهم وقت الصباح، فأوقعوا بهم ما شاؤوا من النهب والغارة، فصباح الجيش المذكور وقت غارتهم، فإن عادة المغيرين أن يغيروا صباحًا، فسمى الغارة صباحًا وإن وقعت في وقت آخر تسمية للشيء باسم زمانه ومحله، وهذا يدل على أن معنى قوله تعالى:{فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ} [الصافات: 177]؛ يريد: النبيَّ الأعظم صلى الله عليه وسلم، وقيل: إن معناه: نزول العذاب، فيكون استعارة تمثيلية؛ حيث شبه حال العذاب النازل بهم بعد ما أنذروا به فأنكروه
(1)
في الأصل: (راكب)، والمثبت هو الصواب.
(2)
في الأصل: (معاني)، والمثبت هو الصواب.
(3)
تكرر في الأصل: (الصواب).
بحال جيش أنذر بهجومه قومه بعض نصائحهم، فلم يلتفتوا إلى إنذاره حتى أناخ بفنائهم بغتة، فأغارهم وقطع دابرهم، فإن ذلك التعبير حقيقة في هذه الهيئة المشبه بها، فأطلق على الهيئة الأولى مجازًا على طريق التمثيل، انتهى.
(قالها)؛ أي: هذه الجملة عليه السلام (ثلاثًا)؛ أي: ثلاث مرات، وإنما كررها إخبارًا منه لأصحابه أن النصرة لله ولرسوله عليه السلام عليهم حقيقة، (قال)؛ أي: أنس بن مالك: (وخرج القوم إلى أعمالهم) أي: لأعمالهم التي كانوا يعملونها، فكلمة (إلى) بمعنى اللام، فإنها تأتي بمعنى اللام كثيرًا، قاله إمام الشَّارحين، وزعم الكرماني أن معناه: خرج القوم إلى مواضع أعمالهم، وتبعه البرماوي تعصبًا، وهذا المعنى قد رده إمام الشَّارحين ولم يرض به، ولا ريب أنه غير ظاهر؛ للفرق بين خروجهم إلى مواضع أعمالهم وبين خروجهم لأعمالهم، فإنَّهم قد يخرجون لمواضع أعمالهم ولا يعملون، ويخرجون لأعمالهم؛ أي: لأجل العمل، فالظاهر هو ما قاله إمام الشَّارحين يدل عليه قوله عليه السلام:«خربت خيبر» ، وذلك بسبب أنه رآهم خرجوا بمساحيهم ومكاتلهم وغير ذلك من آلات الحراث، ولا ريب أنه إذا كان هذا حالهم؛ فالغلبة عليهم، وهو ظاهر في أنَّهم خرجوا لأجل أعمالهم التي يعملونها؛ فليحفظ.
(فقالوا)؛ أي: أهل خيبر: (محمدٌ)؛ أي: جاء محمد، وارتفاعه على أنه فاعل لفعل محذوف، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هذا محمد عليه السلام، كذا في «عمدة القاري» .
(قال عبد العزيز) : هو ابن صهيب أحد رواة الحديث عن أنس: (وقال بعض أصحابنا) : أشار بهذا إلى أنه لم يسمع هذه اللفظة من أنس، وإنما سمعها من بعض أصحابه عنه، وهذه رواية عن المجهول، إذ لم يعين هذا البعض منه، وزعم ابن حجر أنه يحتمل أن يكون هذا البعض هو محمد بن سيرين؛ لأنَّ المؤلف أخرج من طريقه أيضًا، ويحتمل أن يكون هذا البعض هو ثابت البناني؛ لأنَّ مسلمًا أخرجه من طريقه أيضًا، ورده إمام الشَّارحين فقال:(ويحتمل أن يكون هذا البعض غيرهما، وعلى كل حال؛ لا يخرج عن الجهالة) انتهى.
قلت: والاحتمالان اللذان
(1)
ذكرهما ابن حجر ظن وتخمين، فإنه لا يلزم من كون المؤلف أخرج من طريق ابن سيرين أن يكون هو ذلك البعض؛ لأنَّ عادة المؤلف التعدد في الروايات والاختلاف في الطرق، ولا يلزم أيضًا من كون مسلم أخرج من طريق ثابت أن يكون هو ذلك البعض؛ لاحتمال أنَّ هذا الطريق غير طريق المؤلف، فالصواب أنَّ هذا البعض مجهول لم يعلم اسمه؛ فافهم.
(والخَميسُ)؛ بفتح الخاء المعجمة بالرفع عطفًا على قوله (محمد)، وبالنصب على أن تكون الواو بمعنى (مع)، فيكون المعنى: جاء محمد مع الجيش؛ (يعني)؛ أي: يريد ويقصد بقوله: (الخميس)(الجيش) : وهذا المعنى يحتمل أن يكون تفسيرًا من عبد العزيز، ويحتمل أن يكون ممن دونه، وأشار عبد العزيز إلى أنه لم يسمع قوله:(والخميس) من أنس، وإنما سمعها من بعض أصحابه، كما سبق.
قال إمام الشَّارحين: (وسمي الجيش خميسًا؛ لأنَّه خمسة أقسام: مقدمة، وساقة، وقلب، وجناحان، ويقال: ميمنة، وميسرة، وقلب، وجناحان، وقال ابن سيده: (سمي به؛ لأنَّه يخمس ما وجده)، وقال الأزهري: الخمس إنَّما ثبت في الشرع، وكانت الجاهلية يسمونه بذلك ولم يكونوا يعرفون الخمس) انتهى.
ثم قال الشَّارح: (والحاصل: أن عبد العزيز قال: سمعت من أنس قالوا: محمد فقط، وقال بعض أصحابه: قالوا: محمد والخميس، ثم فسر عبد العزيز (الخميس) بقوله: (الجيش)، ويجوز أن يكون التفسير ممن دونه، وعلى كل حال؛ فهو مدرج) انتهى.
(قال)؛ أي: أنس: (فأصبناها) أي: خيبر؛ أي: أخذناها (عَنْوة)؛ بفتح العين المهملة، وسكون النون؛ أي: قهرًا، يقال: أخذته عنوة؛ أي: قهرًا، وقيل: أخذ عنوة؛ أي: عن غير طاعة، وقال ثعلب:(أخذت الشيء عنوة؛ أي: قهرًا في عنف واحد، وأخذته عنوة؛ أي: صلحًا في رفق)، وزعم ابن التين أنه يجوز أن يكون عن تسليم من أهلها وطاعة بلا قتال، ونقله عن القزاز في «جامعه» ، قال إمام الشَّارحين:(وحينئذ يكون هذا اللفظ من الأضداد) انتهى.
قلت: وظاهر أنَّهم أصابوها قهرًا من غير إطاعة، بل بالقتال، يدل عليه قوله:(عنوة)؛ وهو القهر، وهو ضد الطاعة، ولهذا قال أبو عمرو:(الصحيح: في أرض خيبر كلها عنوة).
وقال المنذري: واختلف في فتح خيبر هل كانت عنوة، أو صلحًا، أو أجلى أهلها عنها بغير قتال، أو بعضها صلحًا وبعضها عنوة، وبعضها أجلى عنها أهلها؛ قال: والصحيح الثاني، قال إمام الشَّارحين:(وبهذا يندفع التضاد بين الآثار) انتهى.
(فجُمع) بضم الجيم مبنيًّا للمفعول (السبي)؛ أي: بأمر النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ وهو ما يؤخذ من الكفار، وسمي سبيًا؛ لأخذه قهرًا مجانًا، (فجاء دِحية)؛ بفتح الدال المهملة وكسرها، زاد ابن عساكر الكلبي:(هو دحية بن خليفة بن فروة الكلبي)، وكان أجمل الناس وجهًا، وكان جبريل عليه السلام يأتي النبيَّ الأعظم صلى الله عليه وسلم في صورته، وهو مدفون بقرية المزة غربي دمشق رضي الله عنه، (فقال: يا نبيَّ الله؛ أعطني جارية من السبي)؛ أي: من الغنيمة التي غنمتها المسلمون، فإن ولاية الإعطاء لك، (فقال) عليه السلام له، وفي رواية: بدون الفاء: (اذهب)؛ أي: إلى المكان الذي جمع فيه السبي (فخذ جارية)؛ أي: منه، وإنما جاز للنبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم أن يأذن لدحية بأخذ جارية قبل القسمة.
وأجاب إمام الشَّارحين بثلاثة أجوبة:
الأول: يجوز أن يكون أذن له في أخذها على سبيل التفضيل له، إما من أصل الغنيمة أو من خمس الخمس، سواء كان قبل التمييز أو بعده.
الثاني: يجوز أن يكون أذن له من الخمس إذا ميز.
الثالث: يجوز أن يكون أذن له ليقوم عليه بعد ذلك، ويحسب من سهمه) انتهى.
وأجاب الكرماني: بأنه صفي المغنم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فله أن يعطيه لمن شاء، ورده إمام الشَّارحين:(بأنَّ هذا الجواب غير مقنع؛ لأنَّه عليه السلام قال له ذلك قبل أن يعين الصفي) انتهى.
قلت: ووجه فساد هذا الجواب ظاهر، كما لا يخفى؛ لأنَّه حين أذن له لم يكن علم عليه السلام بما جمع كثيرًا أو قليلًا، وكم يخرج السهم وغير ذلك، وإنما الجواب ما
(1)
في الأصل: (الذين)، وليس بصحيح.
قاله الشَّارح قدس سره، فذهب دحية (فأخذ صَفية)؛ بفتح الصاد المهملة، قيل: وكان اسمها زينب (بنت حُيَيٍّ)؛ بضم الحاء المهملة وكسرها، وفتح التحتية الأولى المخففة، وتشديد الثانية: ابن أخطب بن سَعْيَه -بفتح السين المهملة، وسكون العين المهملة، وفتح التحتية- ابن ثعلبة، وهي من بنات هارون أخ موسى عليهما السلام، وأمها اسمها برة -بفتح الموحدة، وتشديد الراء- بنت سموءل، وكانت تحت كنانة بن الربيع بن أبي الحُقَيق -بضم الحاء المهملة، وفتح القاف الأولى- قتل يوم خيبر، توفت في خلافة سيدنا معاوية سنة خمسين، كما قاله الواقدي، وقال غيره: ماتت في خلافة علي الصديق الأصغر رضي الله عنه، سنة ست وثلاثين، ودفنت بالبقيع، كذا في «عمدة القاري» .
(فجاء رجل) : مجهول لم يعرف، قاله إمام الشَّارحين (إلى النبيِّ) الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ أي: إلى المكان الذي قاعد فيه، (فقال: يا نبيَّ الله؛ أعطيت دحية صفية بنت
(1)
حيي سيدة قُرَيْظة)؛ بضم القاف، وفتح الراء، وسكون التحتية، وبالظاء المهملة (والنَضِير)؛ بفتح النون، وكسر الضاد المعجمة؛ وهما قبيلتان عظيمتان من يهود خيبر، وقد دخلوا في العرب على نسبهم إلى هارون عليه السلام، كذا في «عمدة القاري» ، فإنها (لا تصلح إلا لك) : من حيث إنها من بيت النبوة، فإنها من ولد هارون أخي موسى عليهما السلام، ومن بيت الرئاسة، فإنها من بيت سيد
(2)
قريظة والنضير مع ما كانت عليه من الجمال الباعث على كثرة النكاح المؤدية إلى كثرة النسل، وإلى جمال الولد لا للشهوة النفسانية، فإنه عليه السلام معصوم منها، قاله إمام الشَّارحين.
(قال) عليه السلام: (ادعوه) أي: دحية (بها) أي: بصفية، فدعوه، (فجاء بها) إلى المكان الذي فيه النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم، (فلما نظر إليها النبيُّ) الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ أي: أعجبته من جمالها، وشرفها، وحسنها، ونسبها؛ (قال)؛ أي: لدحية: اترك صفية لي و (خذ جارية من السبي غيرها)؛ أي: غير صفية، فارتجعها منه، وهذا يحتمل وجهين؛ أحدهما: أن يكون رد الجارية برضاه وأذن له في أخذ غيرها، والثاني: أنه إنَّما أذن له في جارية من حشو السبي لا في أخذ أفضلهن، ولما رأى أنه أخذ أنفسهن وأجودهن نسبًا، وشرفًا، وجمالًا؛ استرجعها؛ لئلا يتميز دحية بها على باقي الجيش مع أن فيهم من هو أفضل منه، فقطع هذه المفاسد وعوضه عنها، كذا في «عمدة القاري» .
وفيه عن «سيرة الواقدي» : (أنه عليه السلام أعطاه أخت كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وكان كنانة زوج صفية، فكأنه عليه السلام طيب خاطره لما استرجع منه صفية بأن أعطاه أخت زوجها) انتهى.
وفي «سيرة ابن سيد الناس» : (أنه أعطاه ابنتي عم صفية) انتهى.
وزعم الكرماني فإن قلت: لما وهبها من دحية؛ فكيف رجع عنها؟
قلت: إما لأنَّه لم يتم عقد الهبة بعد، وإما لأنَّه أبو المؤمنين وللوالد أن يرجع عن هبة الولد، وإما لأنَّه اشتراها منه، انتهى.
ورده إمام الشَّارحين فقال: أجاب بثلاثة أجوبة: الأول: فيه نظر؛ لأنَّه لم يجر عقد هبة حتى يقال: إنه رجع عنها، وإنما كان إعطاؤها إياه بوجه من الوجوه التي ذكرناها.
والثاني: فيه نظر أيضًا؛ لأنَّه لا يمشي ما ذكره في مذهب غيره؛ يعني: أنه ذكره ترويجًا لما ذهب إليه إمامه، والحال أن الجمهور على خلافه، فلا يتمشى ما ذكره على مذهب الجمهور، والأوجه هي الثلاثة التي ذكرت عند قوله:(فخذ جارية).
والثالث: فيه نظر أيضًا؛ لأنَّه ذكر أنه اشتراها منه؛ أي: من دحية، والحال أنه لم يجر بينهما عقد بيع أولًا، فكيف اشتراها منه بعد ذلك؟
فإن قلت: وقع في رواية مسلم: (أن النبيَّ الأعظم صلى الله عليه وسلم اشترى صفية منه بسبعة أرؤس).
قلت: إطلاق الشراء على ذلك على سبيل المجاز؛ لأنَّه لما أخذها منه على الوجه الذي ذكرناه؛ عوضه عنها بسبعة أرؤس على سبيل التكرُّم والفضل، فأطلق الراوي الشراء عليه؛ لوجود معنى المبادلة فيه، انتهى.
وقال القاضي عياض: (الأولى عندي: أن صفية كانت فيئًا؛ لأنَّها كانت زوجة كنانة بن الربيع وهو وأهله من بني الحقيق كانوا صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشرط عليهم ألَّا يكتموا كنزًا، فإن كتموه؛ فلا ذمة لهم، فانتقض عهدهم فسباهم، وصفية من سبيهم، فهي فيء لا يخمَّس، بل يفعل فيه الإمام ما رأى) انتهى.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (هذا تفريع على مذهبه: أن الفيء لا يخمس، ومذهب غيره: أن الفيء يخمس) انتهى.
قلت: يعني: إنَّما ذكر هذا الوجه؛ لأجل ترويج مذهبه من أن الفيء لا يخمس، وهو خلاف ما عليه الجمهور من أن الفيء يخمس، على أن ما ذكره ممنوع؛ لأنَّ أنسًا رضي الله عنه لم يذكر في هذه القصة أنه عليه السلام صالحهم، ولا أنه شرط عليهم، ولا أنَّهم نقضوا العهد، وغاية ما فيه أنه عليه السلام دعاهم إلى الإسلام فأبوا، فقاتلهم، ويدل عليه قول أنس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا خيبر
…
) إلى آخره، وهذا لا يدل على ما ذكره؛ فليحفظ، فالحق هو ما قاله إمام الشَّارحين، وهو الصواب.
(قال) أي: أنس: (فأعتقها) أي: صفية (النبيُّ) الأعظم صلى الله عليه وسلم وتزوجها) بعد ذلك، (فقال له) أي: لأنس (ثابت) : هو البناني التابعي: (يابا حمزة)؛ بالحاء المهملة والزاي، أصله: ياأبا حمزة، فحذفت الألف تخفيفًا، وهي كنية أنس رضي الله عنه، (ما أصدقها) عليه السلام؟ (قال)؛ أي: أنس: أصدقها (نفسها أعتقها)؛ أي: بغير عوض، (وتزوجها)؛ أي: بدون مهر، ففيه استحباب عتق السيد أمته وتزوجها، وقد صح أن له أجرين، كما جاء في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، واتفق ثابت البناني، وقتادة، وعبد العزيز بن صهيب عن أنس:(أنه صلى الله عليه وسلم أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها)، وبه قال قتادة في رواية، وأخذ بظاهره أحمد ابن حنبل، والحسن، وابن المسيب، ولا يجب لها مهر غيره، وتبعهم ابن حزم فقال:(هو سنة فاصلة، ونكاح صحيح، وصداق صحيح، فإن طلقها قبل الدخول؛ فهي حرة، ولا يرجع عليها بشيء، ولو أبت أن تتزوجه؛ بطل عتقها، وفي هذا خلاف متأخر ومتقدم).
وروى الحافظ الطحاوي عن أنس بن مالك: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها)، وأخرجه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، ثم قال: (فذهب
(1)
في الأصل: (بن)، وليس بصحيح.
(2)
في الأصل: (سيدة)، وليس بصحيح.
قوم: إلى أن الرجل إذا أعتق أمته على أن عتقها صداقها؛ جاز ذلك، فإن تزوجت؛ فلا مهر لها غير العتاق)، قال إمام الشَّارحين في «عمدة القاري» : قلت: أراد بهؤلاء القوم: سعيد بن المسيِّب، والحسن البصري، وإبراهيم النخعي، وعامر الشعبي، والأوزاعي، والزهري، وعطاء بن أبي رباح، وطاووسًا، والحسن بن حي، وأحمد، وإسحاق، فإنَّهم قالوا: إذا أعتق الرجل أمته على أن يكون عتقها صداقها؛ جاز ذلك، فإذا عقد عليها؛ لا تستحق عليه مهرًا غير ذلك العتاق.
وممن قال بذلك: سفيان الثوري، وأبو يوسف يعقوب بن إبراهيم، وذكر الترمذي أنه قول الشافعي أيضًا، ونقل القاضي عياض عن الشافعي: أنها بالخيار إذا أعتقها، فإن امتنعت من تزويجه؛ فله عليها قيمتها؛ إذ لم يمكن الرجوع فيها، وإن تزوجت بالقيمة الواجبة له عليها؛ صح ذلك عنده.
وقال ابن بزيزة في «الأحكام» : هذه المسألة اختلف سلف الصحابة فيها، وكان ابن عمر رضي الله عنهما لا يراه، وقد روينا جوازه عن علي، وأنس، وابن مسعود، وروينا عن ابن سيرين: أنه استحب أن يجعل مع عتقها شيئًا ما كان، وصح مع كراهة ذلك أيضًا عن الحسن البصري، وجابر بن زيد، والنخعي، وغيرهم.
وقال النخعي: كانوا يكرهون أن يعتق الرجل جاريته لله، ثم يتزوجها، وجعلوه كالراكب بدنته، وذهب الإمام الأعظم رئيس المجتهدين، والإمام محمد بن الحسن، والإمام زفر بن الهذيل، والليث بن سعد، ومالك بن أنس، وابن شبرمة، وجابر بن زيد: أنه ليس لأحد غير النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم أن يفعل فيتم النكاح بغير صداق، وإنما كان ذلك للنبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم خاصة؛ لأنَّ الله تعالى جعل له أن يتزوج بغير صداق، وكان له أن يتزوج على العتاق الذي ليس بصداق، فإن فعل هذا؛ وقع العتاق، ولها عليه مهر المثل، فإن أبت أن تتزوجه؛ تسعى له في قيمتها عند الإمام الأعظم ومحمد بن الحسن، وقال زفر ومالك: لا شيء له عليها، وفي «الأحكام» قال الإمام الأعظم، ومحمد بن الحسن، والشافعي: إن كرهت نكاحه؛ غرمت له قيمتها، ومضى النكاح، فإن كانت معسرة؛ استسعت في ذلك، وقال زفر ومالك: إن كرهت؛ فهي حرة، ولا شيء له عليها، إلا أن يقول: لا أعتق إلا على هذا الشرط، فإن كرهت؛ لم تعتق، فإنه من باب الشرط والمشروط.
قال إمام الشَّارحين: واستدل الحافظ أبو جعفر الطحاوي على الخصوصية بقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ
…
}؛ الآية [الأحزاب: 50]، ووجه الاستدلال أن الله تعالى لما أباح للنبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم أن يتزوج بغير صداق؛ كان له أن يتزوج على العتاق الذي ليس بصداق.
ومما يؤيد ذلك أن النبيَّ الأعظم صلى الله عليه وسلم أخذ جويرية
(1)
بنت الحارث في غزوة بني المصطلق فأعتقها، وتزوجها، وجعل عتقها صداقها، رواه الحافظ الطحاوي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
ثم روي عن عائشة رضي الله عنها كيف كان عتاقه عليه السلام جويرية التي تزوجها عليه وجعله صداقها، قالت: لما أصاب النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم سبايا بني المصطلق؛ وقعت جويرية بنت الحارث في سهم ثابت بن قيس بن شماس أو لابن عم له، فكاتبت على نفسها، قالت:(وكانت امرأة حلوة ملاحة لا يكاد يراها أحد إلا أخذت نفسه، فأتت النبيَّ الأعظم صلى الله عليه وسلم لتستعينه في كتابتها، فوالله ما هي إلا أن رأيتها على باب الحجرة وعرفت أنه سيرى منها مثل ما رأيت)، فقالت: يا رسول الله؛ أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه، وقد أصابني من الأمر ما لم يخف عليك، فوقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس أو لابن عم له فكاتبته فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أستعينه على كتابتي، فقال: فهل لك في خير من ذلك؟ قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: «أقضي عنك كتابتك وأتزوجك» ، قلت: نعم، قال:«فقد فعلت» ، وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج جويرية بنت الحارث، فقالوا: صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسلوا ما في أيديهم، قالت:(فلقد أعتق بتزويجه إياها مئة أهل بيت من بني المصطلق، فلا نعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها)، ورواه أبو داود أيضًا.
وفيه حكم يختص بالنبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم دون غيره، وهو أن يؤدي كتابة مكاتبة غيره لتعتق بذلك ويكون عتقه مهرها؛ لتكون زوجته، فهذا لا يجوز لأحد غير النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم، وهذا إذا كان جائزًا للنبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم فجعل عتق الذي تولى عتقه هو مهر المرأة؛ أعتقه أولى وأحرى أن يجوز.
وقال البيهقي: قال القاضي عياض البرني: قال لي يحيى بن أكتم: هذا كان للنبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم خاصة، وكذا روي عن الإمام الأعظم رضي الله عنه ومحمد بن إدريس أنه حمله على التخصيص، وموضع التخصيص أنه أعتقها مطلقًا، ثم تزوجها على غير مهر.
وقوله في الحديث (حُلوة)؛ بالضم من الحلاوة، وقوله:(مُلَّاحة)؛ بضم الميم، وتشديد اللام؛ معناه: شديدة الملاحة، وهو من أبنية المبالغة، وقال الزمخشري:(وكانت امرأة ملاحة بتخفيف اللام؛ أي: ذات ملاحة، وفعال مبالغة في فعيل نحو: كريم وكرام وكبير وكبار، وفعال بالتشديد أبلغ منه)، وقد ناقش ابن حزم في هذا الموضع، وملخصه أنه قال:(دعوى الخصوصية به عليه السلام في هذا الموضع غير صحيحة والأحاديث التي ذكرت ههنا غير صحيحة).
قال الشَّارح: وقد ردينا عليه في جميع ذلك في «شرحنا لمعاني الآثار» ، فمن أراد الوقوف عليه؛ فعليه بالمراجعة، انتهى.
قلت: وكلام ابن حزم غير معتبر أصلًا؛ لما أنه مشهور بالتعصب والتعنت فلا يلتفت إليه، لا سيما وقد دلت الآية الكريمة على الخصوصية قطعًا، وما ذكر هنا مطلق محمول على المقيد هناك، والأحاديث تفسر بعضها بعضًا؛ فافهم، انتهى.
قلت: وما استدل به الحافظ الطحاوي من قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً} ؛ الآية للخصوصية ظاهر، وصدر الآية {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَاّتِي آتَيْتَ أَجُورَهُنَّ}؛ أي: مهورهنَّ، {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} ، ثم قال:{وَامْرَأَةً} ؛ أي: أحللنا لك امرأة مؤمنة وهبت نفسها بغير صداق، فكان النكاح ينعقد في حقه بدون مهر، وكان ذلك من خصائصه عليه السلام في النكاح؛ لقوله لك بالخطاب، ولقوله:{خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]، وهو كالزيادة على الأربع، ووجوب تخيير النساء كان من خصائصه أيضًا لا مشاركة لأحد معه فيه.
واختلف العلماء في أنه عليه السلام هل كانت عنده امرأة من التي وهبت نفسها له؟ فقال عبد الله بن مسعود ومجاهد وغيرهما: (لم يكن عنده عليه السلام امرأة وهبت نفسها له، ولم يكن عنده
(1)
في الأصل: (جويرة)، وكذا في المواضع اللاحقة، ولعله تحريف.