الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هي مخففة مركبة من همزة الاستفهام و (لا) النافية، وليست حرف تنبيه، ولا حرف تحضيض، كذا قاله إمام الشَّارحين، قلت: فهي للعرض، (أجعل لك شيئًا) أي: منبرًا (تقعد عليه) أي: حين الخطبة (فإن لي غلامًا نَجَّارًا)؛ بفتح النون، وتشديد الجيم: صانع النِّجارة، وفي «عمدة القاري» : أن في رواية الكشميهني: (فإن لي غلامٌ نجارٌ) انتهى؛ يعني: برفع (غلام) على أن اسم (أن) ضمير الشأن، وزعم العجلوني أن في بعض نسخ القسطلاني:(فإني لي غلام)، وهي ظاهرة، قلت: جميع نسخ القسطلاني: (فإن لي) بدون تحتية، فمن أين أتى بها شيخ عجلون؟! فافهم، والمراد به: المملوك (قال) أي: النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم لها: (إن شئتِ)؛ بكسر التاء الفوقية؛ خطاب المؤنث؛ يعني: إن شئت؛ فافعلي لي ذلك، وقال إمامنا الشَّارح: الجزاء محذوف؛ تقديره: إن شئت؛ عملت، ويروى:«إن شئت فعلت» ، فلا حذف؛ فافهم، (فعملت) أي: المرأة المذكورة (المنبر)؛ أي: النبوي، وإضافة العمل إلى المرأة مجاز؛ كإضافة الجعل إليها؛ لأنَّ العامل إنَّما هو الغلام، وهي الآمرة بذلك، فالإضافة باعتبار أنَّها آمرة العامل حقيقة، فهو كقولهم: كسا الخليفة الكعبة.
فإن قلت بين هذين الحديثين تخالف؛ لأنَّه عليه السلام في حديث سهل سأل المرأة، وفي حديث جابر: أنَّ المرأة سألته عليه السلام.
قلت: لا تخالف؛ لأنَّه عليه السلام أرسل إلى المرأة وأمرها بأن تأمر غلامها يعمل له أعوادًا يجلس عليهن، فظنت أنَّ المراد به لأجل القعود فقط، فسألته عليه السلام أنَّ الغلام يجعل له أعوادًا لأجل المنبر يخطب
(1)
عليه، فالسؤال منها كان بيانًا لسؤاله عليه السلام، ويحتمل تعدد القصة؛ لأنَّ الغلام اختُلف باسمه، فيحتمل أن كل واحد منهم عمل منبرًا، ويحتمل أنَّهم اشتركوا في عمله، وسأل مولاته أن تسأله عليه السلام عن صفته؛ فافهم.
وأجاب ابن بطال: (بأن تكون المرأة ابتدأت بالسؤال، فلما أبطأ الغلام في عمله؛ أرسل إليها عليه السلام يستنجزها إتمامه؛ لعلمه بطيب نفسها بما بذلته من صنعة غلامها، ويمكن أن يكون إرساله عليه السلام إلى المرأة؛ ليُعرِّفها صفة ما يصنع الغلام في الأعواد) انتهى.
وزعم ابن حجر أنَّ المصنف أخرجه في (علامات النبوة) من هذا الوجه بلفظ: (ألا أجعل لك منبرًا)، فلعل التعريف وقع بصفة مخصوصة للمنبر، ويحتمل أنَّه لما فوَّض إليها بقوله لها:(إن شئت) كان ذلك سبب البطء، لا أنَّ الغلام كان شرع وأبطأ، ولا أنَّه جهل الصفة، وهذا أوجه الأوجه في نظري، انتهى.
قلت: وهذا كلام فاسد الاعتبار، فإن التعريف إنَّما وقع لأجل بيان الشيء الذي يقعد عليه وهو المنبر؛ لأنَّ قولها:(أجعل لك شيئًا تقعد عليه؟) يوهم أن يكون ذلك الشيء كرسي أو تخت، وهذه الرواية عرَّفت أنَّ المراد به: المنبر.
وقوله: (وقع بصفة مخصوصة
…
) إلخ: ممنوع؛ لأنَّ المنبر ليس له أوصاف متعددة حتى يبين الصفة المخصوصة؛ بل هو معلوم بصفة واحدة؛ فافهم.
وقوله: (ويحتمل أنه لمَّا فوَّض
…
) إلخ: ممنوع أيضًا، فإنَّ قوله:(إن شئت) ذكره لأجل تطييب خاطرها تواضعًا منه ورحمة بها، مع علمه
(2)
بها أنها تريد خدمة النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم بذلك، على أنها قالت له:(ألا أجعل؟) فكانت هي السائلة لذلك، وإذا كان الأمر هكذا؛ فلا يحصل منها ولا من غلامها بطء، غاية الأمر أن غلامها قد شرع في عمل المنبر، فاشتبه عليه أنَّ المراد بذلك الشيء هل هو شيء يقعد عليه كالتخت والسرير أو المنبر؟ فأبطأ حتى استفهم عنه؛ لأنَّه كان جاهلًا تلك الصفة؛ لأنَّها لم تكن معهودة عنده، بدلالة قرينة الحال والمقال من الحديثين المذكورين؛ فافهم.
فإن قلت: حديثي الباب لا يدلان على الترجمة بتمامها، بل على الشق الأول منها، وهو الاستعانة بالنَّجار في أعواد المنبر، ولا يدلان على الشق الثاني منها، وهو الاستعانة بالصُّنَّاع في المسجد.
قلت: أجاب الكرماني: (بأنَّه إمَّا اكتفى بالنَّجار والمنبر؛ لأنَّ الباقي يعلم منه، وإمَّا أنَّه أراد أن يُلحِق إليه ما يتعلق بذلك ولم يتفق له، أو لم يثبت عنده بشرطه حديثٌ يدل عليه)، قال إمام الشَّارحين:(الجواب الأول أوجه من الثاني) انتهى.
قلت: ويحتمل أنَّه أراد أنَّ عمل المنبر يحتاج إلى الصُّنَّاع؛ لأنَّه لا بد فيه من عمل الخشب، والرفوف، والمسامير، والنجار، وكل ذلك يعمله الصُّنَّاع المتفاوتون في الصناعة؛ فافهم.
وزعم ابن حجر أنه أشار به إلى حديث طلق بن علي قال: بنيت المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يقول: «قربوا اليمامي من الطين، فإنَّه أحسنكم له مسًّا، وأشدكم له سكبًا» ، رواه أحمد، وفي لفظ له: فأخذت المسحاة، فخلطت الطين، فكأنه أعجبه فقال:«دعوا الحنفي والطين، فإنَّه أضبطكم للطين» ، ورواه ابن حبان في «صحيحه» بلفظ: فقلت: يا رسول الله أنا أنقل كما ينقلون، فقال:«لا، ولكن اخلط لهم الطين فأنت أعلم به» انتهى.
قلت: وهذا بعيد جدًّا، فإن المؤلف لم يتفق له ذكر ترجمة ويشير بها إلى حديث لم يذكره أصلًا وليس على شرطه، وهو كلام غير موجه وبعيد عن الأذهان؛ لأنَّه معيب في الصناعة، والبخاري دقيق النَّظر، وإنَّما هذا من فتور ذهن ابن حجر، فإنَّه من دأبه ذكر كلام لا طائل تحته، ولا معنى عنده، بل هو كلام من لم يشم شيئًا من رائحة العلم؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: قيل: هذا الحديث لا يدل على الاستعانة؛ لأنَّ هذه المرأة قالت ذلك من تلقاء نفسها، وأجيب: بأنَّها استعانت بالغلام في نجارته المنبر، ومن فوائد هذا الحديث: قبول البذل إذا كان بغير سؤال، واستنجاز الوعد ممن يعلم منه الإجابة، والتقرب إلى أهل الفضل بعمل الخير، انتهى، والله أعلم.
(65)
[باب من بنى مسجدًا]
هذا (باب) بيان فضل (من بنى) أي: الذي عمَّر (مسجدًا) لله تعالى؛ أي: تقربًا إليه، وطلبًا لثوابه، وهربًا من عقابه.
[حديث: من بنى مسجدًا يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة]
450 -
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا يحيى بن سُلَيْمان)؛ بضمِّ السين المهملة، وفتح اللام، وسكون التحتية: هو ابن يحيى الجعفي المكي، المتوفى بمصر يوسف عليه السلام، سنة ثمان وثلاثين ومائتين (قال: حدثني) بالإفراد، ولابن عساكر:(حدثنا) بالجمع (ابن وهب)؛ مكبَّرًا: هو عبد الله المصري القرشي الثقة (قال: أخبرني) بالإفراد (عَمرو)؛ بفتح العين المهملة: هو ابن الحارث
(1)
في الأصل: (تخطب).
(2)
في الأصل: (عمله)، وهو تحريف.
أبو أمية المؤدب الأنصاري المصري الفقيه، المتوفى بمصر سنة ثمان وأربعين ومئة، المعروف: بدرة الغواص: (أَنَّ) بفتح الهمزة (بُكَيْرًا)؛ بضمِّ الموحدة، وفتح الكاف، وسكون التحتية: هو ابن عبد الله الأشج المدني، خرج قديمًا إلى مصر فنزل بها (حدثه) وللأصيلي:(أخبره)؛ أي: حدَّث عمرًا: (أَنَّ) بفتح الهمزة (عاصم بن عُمر) بضمِّ العين المهملة (بن قَتادة)؛ بفتح القاف، الأوسي الأنصاري، المتوفى بالمدينة سنة عشرين ومئة (حدثه)؛ أي: حدَّث بكيرًا: (أَنَّه) بفتح الهمزة؛ أي: عاصمًا (سمع عُبيد الله)؛ بضمِّ العين المهملة، مصغَّرًا: هو ابن الأسود الخَوْلاني؛ بفتح المعجمة، وسكون الواو، وبالنون؛ نسبة إلى خولان قبيلة، وهو ربيب ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنهما:(أنه سمع عثمان بن عفان)؛ بمنع الأول، وصرف الثاني، وقال في «القاموس» :(«عفان» كشدَّاد، اسم ويصرف) انتهى، ولك أن تأخذه من العفِّ، فتمنعه من الصرف، فتأمل.
قال إمام الشَّارحين: وفي هذا الإسناد ثلاثة من التابعين في نسق واحد، وهم بكير وعاصم وعبيد الله، وفيه ثلاثة من أول الإسناد مصريون، وثلاثة في آخره مدنيون، وفي وسطه مدني سكن مصر؛ وهو بكير، انتهى.
(يقول) : جملة محلها نصب؛ لأنَّها وقعت حالًا من عثمان رضي الله عنه (عند قول الناس فيه)؛ أي: في عثمان رضي الله عنه، وذلك أن بعضهم أنكروا عليه عند تغييره بناء المسجد، وجعله بالحجارة المنقوشة والقصة، وتسقيفه بالساج، ووقع بيان ذلك عند مسلم؛ حيث أخرجه من طريق محمود بن لبيد الأنصاري- وهو من صغار الصحابة- قال:(لمَّا أراد عثمان بناء المسجد؛ كره الناس ذلك، وأحبوا أن يَدَعوه على هيئته)؛ أي: في عهد النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، كذا قاله إمام الشَّارحين.
قلت: وكان ذلك سنة ثلاثين على المشهور، وقيل: في آخر سنة خلافته، ففي كتاب «السر» عن ابن وهب: أخبرني مالك: أنَّ كعب الأحبار كان يقول عند بناء عثمان المسجد: (لوددت أنَّ هذا المسجد لا ينجز، فإنَّه إذا فرغ من بنائه؛ قُتل عثمان)، قال مالك:(فكان كذلك) انتهى.
وجمع ابن حجر بين القولين: بأن الأول كان تاريخ ابتدائه، والثاني كان تاريخ انتهائه. انتهى.
قلت: وفيه نظر؛ لأنَّ المدة بينهما كثيرة، فإن القول الثاني شاذ، وإن أول خلافته كانت سنة ثلاث وعشرين، ووفاته كانت سنة خمس وثلاثين؛ فافهم.
(حين بنى) أي: أمر ببنائه (مسجد الرسول)، كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهني والحموي:(مسجد رسول الله)، وفي رواية:(مسجد النبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ أي: بنى جداره بحجارة منقوشة وبالقصة، وجعل عمده من حجارة منقوشة، وسقفه بالساج، كما بينته رواية ابن عمر في باب (بنيان المسجد)، كما مر، وكذلك رواية مسلم السابقة.
قال إمام الشَّارحين: (ولم يبن عثمان المسجد إنشاء، وإنما وسَّعه)، وقال البغوي:(لعل الذي كره الصحابة من عثمان بناؤه بالحجارة المنقوشة لا مجرد توسعته) انتهى، قلت: وهو كذلك؛ لأنَّه عليه السلام قال: (مسجدي هذا مسجد، ولو مد إلى صنعاء)، كما سيأتي في «الصحيح» ، ولأن زخرفة المساجد غير مطلوبة، وروى ابن خزيمة في «صحيحه» عن أنس مرفوعًا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يأتي على النَّاس زمان يتباهون بالمساجد، ثم لا يعمرونها إلا قليلًا» ، وروى أبو داود عن أنس أنَّه عليه السلام قال:«لا تقوم الساعة حتى يتباهى النَّاس في المساجد» ، وأخرجه النسائي وابن ماجه، وروى أبو داود عن ابن عبَّاس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أُمرت بتشييد المساجد» ، قال ابن عبَّاس:(لتزخرفُنَّها كما زخرفت اليهود والنصارى)، كما قدمناه.
وزعم ابن حجر أنه يؤخذ منه: إطلاق البناء في حق من جدد، كما يطلق في حق من أنشأ، أو المراد بـ (المسجد) هنا: بعض المسجد من إطلاق الكل على البعض، انتهى.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (ذكر هذا القائل شيئين: الأول: مستغنًى عنه فلا حاجة إلى ذكره، والثاني: لا يصح؛ لأنَّه ذكر في «باب بنيان المسجد» حديث عبد الله بن عمر، وفيه: «ثم غيَّره عثمان، فزاد فيه زيادة كثيرة، وبنى جداره بحجارة منقوشة والقصة، وجعل عمده من حجارة منقوشة، وسقفه بالساج» انتهى، فهذا يدلُّ على أنَّه غيَّر الكل وزاد فيه؛ يعني: في الطول والعرض، وكان المسجد مبنيًّا باللَّبِن، وسقفه الجريد، وعمده خشب النَّخل، وبناه عثمان بالحجارة، وجعل عمده من الحجارة، وسقفه بالساج، فكيف يقول هذا القائل: «أو المراد بالمسجد هنا: بعضه»، فهذا كلام من لم يتأمل ويتصرف من غير وجه) انتهى كلام إمامنا الشَّارح.
وقوله: (إنكم أكثرتم) : مقول لقوله: (يقول) ومفعوله محذوف؛ للعلم به، والتقدير: إنكم أكثرتم الكلام في الإنكار على ما فعلته، (وإني سمعت النبي) الأعظم، ولأبوي ذر والوقت:(رسول الله) صلى الله عليه وسلم، وقوله:(يقول) جملة محلها نصب على الحال أو مفعول ثانٍلـ (سمعت) على القولين المشهورين: (من بنى مسجدًا) التنوين فيه للشيوع، فيتناول من بنى مسجدًا صغيرًا أو كبيرًا، يدل عليه حديث أنس بن مالك أخرجه الترمذي مرفوعًا:«من بنى لله مسجدًا صغيرًا كان أو كبيرًا؛ بنى الله له بيتًا في الجنة» ، وروى ابن أبي شيبة حديث الباب عن عثمان من وجه آخر، وزاد فيه:(ولو كمفحص قطاة)، وروى مسلم عن ابن عبَّاس مثله، وزاد فيه:(ولو كمفحص قطاة)، وروى ابن خزيمة عن جابر مرفوعًا:«من حفر ماء لم يشرب منه كبد حي من جن ولا أنسولا طائر إلا آجره الله يوم القيامة، ومن بنى مسجدًا كمفحص قطاة أو أصغر؛ بنى الله له بيتًا في الجنة» .
وللعلماء في توجيه هذا قولان؛ فقال أكثرهم: هذا محمول