الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السلام حرمها؛ لأنَّ المراد أنه بلَّغ تحريم الله وأظهره بعد أن رفع البيت وقت الطوفان واندرست حرمتها، وتمامه في «عمدة القاري» ، (ولم يحرمها الناس) من قبل أنفسهم، فتحريمها ابتدائي من غير سبب يعزى لأحد لا مدخل فيه لا لنبي ولا لغيره، بل بوحي منه تعالى، ثم بيَّن التحريم بقوله:(فلا يحل لامرئ) : الفاء في جواب شرط محذوف؛ أي: إذا كان كذلك؛ فلا يحل لامرِئ؛ بكسر الراء والهمزة؛ لأنَّ عينه دائمًا تابعة للامه في الحركة.
(يؤمن بالله واليوم الآخر) : يوم القيامة؛ لأنَّ من آمن بالله؛ لزمته طاعته، ومن آمن باليوم الآخر؛ لزمه القيام بما وجب عليه واجتناب ما نهي عنه (أن يسفِك)؛ بكسر الفاء وضمها، و (أن) مصدرية، وهو فاعل (لا يحل)؛ والتقدير: فلا يحل سفك دم (بها)؛ أي: بمكة، والباء بمعنى (في)؛ أي: فيها، كما في رواية، وقوله:(دمًا) : مفعول (يسفِك)، والسفك: صب الدم، والمراد به القتل، وهذا دليل واضح لإمامنا رأس المجتهدين الإمام الأعظم على أن الملتجئ إلى الحرم لا يقتل؛ لأنَّه عام يدخل فيه هذه الصورة، ولو أنشأ القتل في الحرم؛ يقتل فيه، ولو قتل في البيت؛ لا يقتل فيه، هذا مذهبنا، وبه قال أحمد، وعطاء، والشعبي، وابن عباس، وغيرهم، فيُضيَّق
(1)
عليه حتى يخرج منه.
وقال مالك والشافعي فيمن جنى خارجه ثم لجأ إليه: أنه يقام عليه فيه، ونقل ابن حزم عن جماعة من الصحابة المنع، ثم قال: ولا مخالف لهم من الصحابة، ثم نقل عن جماعة من التابعين موافقتهم، ثم شنع على مالك والشافعي، فقال: قد خالفا في هذا هؤلاء الصحابة، والكتاب، والسنة.
(و) أن (لا يَعْضِدَ)؛ بفتح التحتية، وإسكان العين المهملة، وكسر الضاد المعجمة، آخره دال مفتوحة؛ وهو القطع، والمِعضد؛ بكسر الميم: الآلة؛ كالسيف والفأس؛ أي: لا يقطع، (بها)؛ أي: فيها، كما في رواية، أي: في مكة، فهو منصوب عطفًا على (أن يسفِك)، و (لا) زيدت لتأكيد معنى النفي؛ فمعناه: لا يحل أن يعضد بها، (شجرةً)؛ بالنصب مفعول (يعضد)؛ أي: من جنس من له ساق من النبات، وفي رواية:(لا يعضد شوكه)، وفي أخرى:(لا يخيط شوكها).
ففيه: دليل على حرمة قطع شجر الحرم، قال أئمتنا الأعلام: ومن قطع حشيش الحرم أو شجره غير مملوك ولا من جنس ما ينبته الناس مملوكًا أو غير مملوك؛ ضمن قيمته، قيد بغير المملوك؛ لأنَّه إذا كان مملوكًا؛ فعليه قيمتان: قيمة للمالك، وقيمة للشرع، وبعض أصلها في الحرم ككلها، نعم؛ يعتبر أغصانها في حق صيد عليها، فلو كان رأسه في الحل وقوائمه في الحرم فضربه في رأسه؛ ضمن، وبعكسه لا يضمن، كذا في «الدر المنتقى» عن «الشرنبلالية» عن «البرهان» ، إلَّا إذا جف وانكسر؛ فلا يضمن؛ لعدم النماء، وكذا يحرم رعي حشيشه عند الإمام الأعظم والإمام محمد.
وقال أبو يوسف: لا يحرم؛ لضرورة الزائرين، ويحرم قطعه إلا الإذخر معروف، ولا بأس بكمأة الحرم؛ لأنَّها ليست بنبات، بل هي شيء مودوع في الأرض، فهي كحجره، كذا في «الدر» عن «المحيط» ، هذا مذهب الإمام الأعظم.
وقال مالك: يجوز قطع شجره، ولا يأثم، ولا فدية عليه، وقال الشافعي: الواجب في الكبيرة بقرة، وفي الصغيرة شاة، ويجوز عند الشافعي رعي البهائم في كلاء الحرم، وبه قال أحمد.
(فإن) ترخص (أحدٌ)؛ بالرفع بفعل محذوف مقدر يفسره قوله: (ترخص) : وإنما حذف؛ لئلا يجمع بين المفسر والمفسر (لقتال) : اللام للتعليل؛ أي: لأجل قتال (رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها)؛ أي: في مكة؛ والمعنى: إن قال أحد بأن ترك القتال عزيمة والقتال رخصة؛ تتعاطى عند الحاجة، مستدلًا بقتاله عليه السلام فيها.
(فقولوا) له: ليس الأمر كذلك، وفي هذا دليل لإمامنا الإمام الأعظم: على أن مكة فتحت عنوة، وهو مذهب الجمهور، وبه قال مالك والأوزاعي، وأنه عليه السلام منَّ على أهلها وسوغهم أموالهم ودورهم، ولم يقسمها ولا جعلها فيئًا، وقال الشافعي وأحمد: فتحت صلحًا
(2)
، والحديث حجة عليهما (إنَّ الله) تعالى (قد أذن) : خبر (إنَّ)(لرسوله) عليه السلام؛ خصوصية له (ولم يأذن لكم) : عطف على ما قبله، (وإنما أذن) : روي بصيغة المجهول والمعلوم؛ أي: أذن الله (لي) في القتال فقط (فيها)؛ أي: في مكة (ساعةً)؛ بالنصب على الظرفية؛ أي: في ساعة (من نهار) : وهي من طلوع الشمس إلى العصر، كما في حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عند أحمد، فأحلت له عليه السلام في تلك الساعة إراقة الدم دون الصيد، وقطع الشجر، وسائر ما حَرَّم الناس، كذا في «عمدة القاري» .
(ثم عادت حرمتُها)؛ بالرفع فاعله (اليومَ)؛ بالنصب على الظرفية؛ أي: الحكم الذي في مقابلة الإباحة، وهو الحرمة المستفاد من لفظ الإذن في اليوم المعهود وهو يوم الفتح، فإنَّ عود حرمتها كان في يوم صدور هذا القول لا في غيره (كحرمتها بالأمس) : اليوم الذي قبل يوم الفتح، (وليبلِغ)؛ بكسر اللام وتسكينها (الشاهدُ)؛ بالرفع فاعله؛ أي: الحاضر (الغائبَ)؛ بالنصب مفعوله، فالتبليغ عن النبي الأعظم عليه السلام فرض كفاية، إذا قام به البعض؛ سقط عن الكل، والإصغاء فرض عين، والوعي والحفظ يتركبان على ما يستمع، فإن كان ما يخصه؛ تعين عليه، وإن كان يتعلق به أو بغيره؛ كان العمل فرض عين.
(فقيل لأبي شُريح) المذكور: (ما قال عمرو؟)؛ أي: ابن سعيد المذكور في جوابك، فقال:(قال) عمرو: (أنا أعلم منك يا أبا شُريح إنَّ مكة)؛ يعني: صح سماعك وحفظك، لكن لم تفهم المعنى، فإن مكة (لا تُعيذ)؛ بضم الفوقية من الإعاذة؛ أي: لا تعصم (عاصيًا) من إقامة الحدود عليه، وفي رواية:(إنَّ الحرم لا يُعيذ)؛ بالتحتية المضمومة، عاصيًا (ولا فارًّا)؛ بالفاء و تشديد الراء (بدم) : الباء للمصاحبة؛ أي: مصاحبًا ومتلبسًا به؛ أي: ملتجئًا إلى الحرم بسبب خوفه من إقامة الحد عليه، والفرار: الهروب، (ولا فارًّا)؛ بالفاء والراء المشددة أيضًا (بخَرْبة)؛ بفتح الخاء المعجمة وسكون الراء بعدها موحدة؛ وهي السرقة، كما في رواية المستملي، حيث قال:(ولا فارًا بخربة)؛ يعني: السرقة، وفي رواية:(بخُربة)؛ بضم المعجمة؛ أي: الفساد، وأصل الخربة: سرقة الإبل، وتطلق على كل خيانة، والباء للسببية؛ أي: بسبب الخربة، وما قاله عمرو ليس بجواب؛ لأنَّه لم يختلف معه في أن من أصاب حدًا في غير الحرم ثم لجأ إلى الحرم هل يقام عليه.
وإنما أنكر عليه أبو شُريح بعثه الخيل إلى مكة واستباحته حرمتها بنصب الحرب عليهما، فحاد عمرو عن الجواب، واحتج أبو شريح بعموم الحديث، وذهب إلى أن مثله لا يجوز أن يستباح نفسه، ولا ينصب الحرب عليهما بقتال بعدما حرمها النبي الأعظم عليه السلام.
واختلف العلماء في الصحابي إذا روى الحديث، هل يكون أولى بتأويله مما يأتي بعده أم لا؛ فقيل: تأويل الصحابي أولى؛ لأنَّه الراوي، وقيل: لا يلزم تأويله إذا لم يصب التأويل، ومذهب إمامنا الإمام الأعظم اتباع عمله لا روايته، فإن كان الحديث عامًا فعمل بخصوصه، أو مشتركًا فعمل بأحد معنييه؛ لا يمنع العمل به؛ لأنَّه تأويل؛ كحديث ابن عمر:«المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا» ، يحتمل التفريق بالأقوال والأبدان، فحمله ابن عمر على الأبدان ولم يأخذ به، والامتناع عن العمل به كالعمل بخلافه؛ كحديث ابن عمر في رفع اليدين عند الركوع والرفع منه، قال مجاهد: صحبت ابن عمر عشر سنين فلم أره فعله، فدل على نسخه، وحديث أبي هريرة في ولوغ الكلب سبعًا، فحمله أبو هريرة على الثلاث؛ لثبوت نسخه عنده، فالحمل عليه تحسين الظن في حق الصحابي، ومذهب الشافعي اتباع رواية الصحابي لا عمله؛ كحديث ابن عمر وأبي هريرة، فإنه أخذ بالرواية وترك عملهم، ولا ريب أن الصحابي الراوي للحديث أولى بتأويله، وأعلم بمخرجه وسببه وناسخه وغير ذلك، والله تعالى أعلم.
وفي الحديث: جواز القياس، وخص
(3)
النبي الأعظم عليه السلام بخصائص، وجواز النسخ وغير ذلك، كما في «عمدة القاري» .
[حديث: فإن دماءكم وأموالكم عليكم]
105 -
وبه قال: (حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب) : أبو محمد الحَجَبي -بفتح الحاء المهملة والجيم المعجمة آخره باء موحدة- البصري، المتوفى سنة ثمان وعشرين ومئتين، قال:(حدثنا حَمَّاد)؛ بفتح الحاء وتشديد الميم: ابن زيد البصري، (عن أيوب) : السختياني، (عن محمد) : بن سيرين، (عن ابن أبي بَكرة)؛ بفتح الموحدة: عبد الرحمن، (عن) أبيه (أبي بَكرة) : نُفيع؛ بضم النون، قال أبو بَكرة حال كونه (ذُكر النبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ بضم الذال المعجمة مبنيًا للمفعول، وروي: للفاعل، وليس هذا من الذكر بعد النسيان.
(قال) : وللأصيلي: (فقال)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام في حجة الوداع؛ أي: يوم الحديث السابق في باب (رُبَّ
(1)
في الأصل (فيضق).
(2)
في الأصل: (صحلها).
(3)
في الأصل: (وخصائص).
مبلغ أوعى من سامع)، واقتصر منه هنا على التبليغ؛ لأنَّه المقصود، فقال:(فإنَّ) : الفاء عاطفة على محذوف من الحديث السابق (دماءكم وأموالكم، قال محمد)؛ أي: ابن سيرين أحد الرواة: (وأحسبه)؛ أي: وأظن ابن أبي بكرة (قال: وأعراضَكم)؛ بالنصب عطفًا على (أموالكم)، وهو جمع عِرْض؛ بكسر العين وسكون الراء، محل المدح والذم (عليكم حرام)؛ أي: فإن سفك دمائكم بغير حق، وأخذ أموالكم بغير حق، وثلب أعراضكم بغير حق عليكم حرام، وفي رواية:(بينكم حرام).
(كحرمة يومكم هذا) : وهو يوم النحر، (في شهركم هذا) : وهو ذو الحجة، (أَلا)؛ بالتخفيف (ليبلِغِ)؛ بكسر الغين، أمر (الشاهدُ)؛ أي: الحاضر منكم (الغائبَ)؛ بالنصب على المفعولية، وكسر لام لـ (يبلغ) الثانية؛ للساكنين، (وكان محمد)؛ يعني: ابن سيرين (يقول: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ذلك)؛ أي: وقع ذلك التبليغ المأمور به من الشاهد إلى الغائب، (أَلا)؛ بتخفيف اللام؛ أي: يا قوم (هل بلَّغت، مرتين)؛ أي: قال هل بلغت مرتين، لا أنه قال الجميع مرتين؛ لأنَّه لم يثبت.
(38)
[باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم]
هذا (باب إثم من كَذب)؛ بفتح الكاف وتخفيف الذال المعجمة (على النبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم : والكذب: الإخبار عن الأمر على خلاف ما هو عليه عمدًا أو سهوًا، هذا مذهب الأشعرية، وقالت المعتزلة: يشترط تعمده، فإذا أخبر ساهيًا؛ فليس بكذب عندهم.
[حديث: لا تكذبوا علي فإنه من كذب علي فليلج النار]
106 -
وبه قال: (حدثنا علي بن الجَعْد)؛ بفتح الجيم، وإسكان العين، آخره دال مهملتين: الجوهري البغدادي (قال: أخبرنا شعبة) : ابن الحجاج (قال: أخبرني)؛ بالإفراد (منصور) : ابن المعتمر (قال: سمعت رِبْعِيَّ)؛ بكسر الراء، وإسكان الموحدة، وكسر المهملة، وتشديد التحتية (ابن حِراش)؛ بكسر الحاء المهملة وتخفيف الراء وبالشين المعجمة: ابن جحش -بفتح الجيم، وإسكان المهملة، آخره معجمة- ابن عمرو الغطفاني العبسي -بالموحدة- الكوفي، الذي لم يكذب قط، الحالف أنه لا يضحك حتى يعلم أين مصيره إلى الجنة أو النار، فما ضحك إلا بعد موته، المتوفى في خلافة عمر بن عبد العزيز أو سنة أربع ومئة.
(يقول: سمعت عليًّا) : ابن أبي طالب الصديق الأصغر، أحد الخلفاء الراشدين، تولى الخلافة خمس سنين، وتوفي بالكوفة ليلة الأحد تاسع عشر رمضان سنة أربعين عن ثلاث وستين سنة، وكان ضربه عبد الرحمن بن ملجم بسيف مسموم على دماغه ليلة الجمعة، وأخفي قبره؛ خوفًا من الخوارج، الهاشمي المكي ابن عم رسول الله عليه السلام وختنه على بنته فاطمة الزهراء، واسم أبي طالب: عبد مناف على المشهور، وأم علي: فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، وكنيته: أبو الحسن، وكناه عليه السلام: أبا تراب.
وفي سفح جبل قاسيون في ديارنا الشريفة الشامية مدفن منور فيه قبور، عليها مهابة وجلالة، وبينهم قبر محجر، وعليه شاهدة مكتوب عليها أسطر، وفيها اسم علي، والله أعلم هل هو أم من أولاده؟ لكن قد أتى سيدنا العارف الكبير الشيخ عبد الغني النابلسي ذلك الموضع، واعتمد أنه قبره وصور على حجرته صورة الكأس المعلوم، وقال: إنِّي شممت رائحة النبوة من هنا، وهذا المدفن تجاه مدفن أبي بكر بن قوام الولي الكبير.
وأخبرني رجل ثقة: أن قبره في أعالي سفح الجبل فوق المدفن بخطوات، فذهبت إلى هناك ورأيت قبرًا واحدًا عليه حجر واحد، وإني رأيت عليه مهابة وجلالة، وأظنه أنه هو، والله أعلم.
أي: سمعت عليًّا حال كونه (يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تكذبوا عليَّ) : نهي بصيغة الجمع، وهو عام في كل كذب مطلق في كل نوع منه في أحكام الدين وغيرها، سواء كان عليه أو له.
والكذب على الله تعالى داخل تحت الكذب على رسوله.
فإن قلت: الكذب من حيث هو معصية، فما فائدة لفظة:(عليَّ)، فإن الحكم عام في كل من كذب على أحد؟
أجيب: بأنه لا شك أن الكذب عليه عليه السلام أشد من الكذب على غيره؛ لكونه مقتضيًا شرعًا عامًا باقيًا إلى يوم القيامة، فخصص بالذكر لذلك، أو الكذب عليه كبيرة، وعلى غيره صغيرة، والصغائر مكفرة عند الاجتناب عن الكبائر، وما قيل إنه لا يتصور أن يكذب له؛ لأنَّه عليه السلام نهى عن مطلق الكذب، ففيه نظر؛ لأنَّ الكذب عليه: هو ما يذكر من أحواله وصفاته؛ من نومه، ومأكله، وملبسه، وغير ذلك على خلافها فيه، والكذب له: هو ما يقال: إنه قال في حق كذا وكذا، وأمر لكذا كذا، وغير ذلك مما لم يعهد له فافترقا؛ فافهم.
(فإنَّه)؛ أي: الشأن (من كذب)؛ بالتخفيف (عليَّ) أو لي؛ (فليلج النار) : جواب النهي، ولذا دخلته الفاء، والضمير في (إنَّه) للشأن، وهو اسم (إنَّ)، وقوله:(من كذب عليَّ) : محله رفع خبر (إنَّ)، و (من) : موصولة تتضمن معنى الشرط، وقوله:(فليلج النار) : جواب الشرط، فلذا دخلته الفاء؛ أي: ليدخل النار، و (النار) : منصوب؛ بتقدير: (في)؛ لأنَّ أصله لازم؛ أي: ليدخل في النار، هذا جزاؤه وقد يجازى به.
وقد يعفو الله عنه، ولا يقطع عليه بدخول النار، وكذا كلما جاء من الوعيد بالنار لأصحاب الكبائر غير الكفر، فإن جوزي وأدخل النار؛ فلا يخلد فيها، بل يخرج بفضله تعالى ولو بعد مدة طويلة، وأتى بلفظ الأمر ومعناه الخبر، ويؤيده رواية مسلم:«من يكذب عليَّ؛ يلج النار» ، ولابن ماجه:«فإنَّ الكذب عليَّ يولج النار» ، وقيل: دعاء عليه، ثم أخرج مخرج الذم، كذا قيل.
وفي الحديث: دليل على تعظيم حرمة الكذب على النبي الأعظم عليه السلام وأنه كبيرة، والمشهور أن فاعله لا يكفر إلا إذا استحله، ولا فرق في تحريم الكذب على النبي الأعظم بين ما كان في الأحكام وغيره كالترهيب والترغيب؛ فكله حرام بإجماع المسلمين، خلافًا للكرامية في زعمهم أنه يجوز الوضع عليه في الترغيب والترهيب، وتابعه كثير من الجهلة الذين ينسبون أنفسهم إلى الزهد، ومنهم من زعم أنه جاء في رواية:(من كذب عليَّ متعمدًا؛ ليضل به)، وتمسكوا بهذه الزيادة أنَّه كذب له لا عليه، وهذا فاسد.
وإنَّ من روى حديثًا وعلم أو ظن أنه موضوع؛ فهو داخل في هذا الوعيد، وإن من روى حديثًا ضعيفًا لا يذكره بصيغة الجزم، بل يقول: روي، وجاء، ونقل، وإن مما يظن دخوله في النهي اللَّحنُ وشبهه، ولهذا قالوا: ينبغي للراوي أن يعرف من النحو، واللغة، والأسماء ما يسلم من قول ما لم يقل، فإذا صح في الرواية ما هو خطأ ما حكمه؟، والجمهور على روايته على الصواب ولا يغيِّره في الكتاب، بل يكتب في الهامش: كذا وقع، وصوابه: كذا، وهو الصواب، وقيل: يغيِّره ويصلحه.
والواضعون قسمان: أحدهما: قوم زنادقة؛ كالمغيرة بن سعيد الكوفي وغيره، وضعوا: أنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي إن شاء الله، والثاني: قوم تعصبوا لعلي، فوضعوا فيه أحاديث، وقوم تعصبوا لمعاوية، وقوم تعصبوا لإمامنا الأعظم.
قال ابن الصلاح قال: رويت عن أبي عصمة نوح بن أبي مريم أنه قيل له: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة؟ فقال: رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة الإمام الأعظم، فوضعت هذا الحديث، قال يحيى: نوح هذا ليس بشيء، لا يكتب حديثه، وتمامه في «عمدة القاري» .
[حديث: من كذب علي فليتبوَّأ مقعده من النار]
107 -
وبه قال: (حدثنا أبو الوليد) : هشام بن عبد الملك الطيالسي البصري (قال: حدثنا شعبة) : بن الحجاج، (عن جامع بن شداد) : المحاربي أبو صخر الكوفي، المتوفى سنة ثماني عشرة ومئة، (عن عامر بن عبد الله بن الزبير) : بن العوَّام الأسدي القرشي أبو الحارث المدني، المتوفى سنة أربع وعشرين ومئة، (عن أبيه) : عبد الله بن الزبير بن العوَّام أبو بكر، الصحابي بن الصحابي، أول مولود ولد في الإسلام للمهاجرين بالمدينة، ولدته أمه أسماء بنت الصديق الأكبر بقباء، وأتت به النبي الأعظم عليه السلام فوضعه في حجره، ودعا بثمرة فمضغها ثم تفل في فيه وحنَّكه، فكان أول شيء دخل في جوفه ريق النبي الأعظم عليه السلام، ثم دعا
(1)
له، وكان أطلس لا لحية له، بويع بالخلافة بعد موت يزيد بن معاوية سنة أربع وستين، واجتمع على طاعته أهل الحجاز، واليمن، والعراق، وخراسان
(2)
ما عدا الشام، وجدد عمارة الكعبة، وجعل لها بابين وحج بالناس ثماني حجج، وبقي في الخلافة إلى [أن] حصره الحجاج بمكة أول ليلة من ذي الحجة سنة اثنين وسبعين، ولم يزل يحاصره
(3)
إلى أن أصابته رمية الحجر، فمات وصلبَ جثته وحمل رأسه إلى خراسان
(4)
رضي الله عنه.
أنَّه (قال: قلت للزُّبير)؛ بضم الزاي: بن العوَّام -بتشديد الواو-، القرشي أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى وحواري النبي الأعظم عليه السلام، وكان يوم الجمل قد ترك القتال وانصرف عنه فلحقه جماعة من الغزاة فقتلوه بوادي السباع بناحية البصرة، ودفن سنة ست وثلاثين، ثم حول إلى البصرة، وقبره
(1)
في الأصل: (دعى).
(2)
في الأصل: (وخرسان).
(3)
في الأصل: (يحاصله).
(4)
في الأصل: (خرسان).