الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
آية النساء بدون (منه)، فيجوز تقدير الالتصاق بإطلاق هذه الآية، وقد قال أهلُ التَّفسير في قوله تعالى:{صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف: 40] : أنَّه حجر أملس، فإنَّ التُّراب لا يكون زلقًا، ولهذا لو دُقَّ حجر فتيُممَ بمدقوقه؛ يجوز ولا تفصيل في الآية، فيجرى على إطلاقه، وهذا الشَّرط زيادة على النَّص، فيكون نسخًا، وهو لا يجوز، ويدلُّ لهذا: قوله عليه السلام: «يحشر الناس في صعيد واحد
…
»؛ الحديث، وقوله عليه السلام:«جُعِلتْ لي الأرضُ مسجدًا وطَهورًا» ؛ فالمعنى في الأول: الأرض الواحدة، ففسر الصَّعيد: بالأرض، وهو المراد، والثَّاني: بيان إلى أنَّ وجه الأرض مسجدٌ وطَهور يُتَطهر به، يدلُّ عليه آخر الحديث، وهو:«فأينما أدركتني الصَّلاة؛ تيممت وصليت» ، فإنَّه قد تدركه الصَّلاة في مكان لا تراب فيه أصلًا، فهذا دليل على أنَّ المُراد: هو وجه الأرض كيفما كان.
(وَضوء المسلم)؛ بفتح الواو: ما يتوضأ به، ومصدر، فهو مشترك بينهما قيد بالمُسلم؛ لأنَّ الكافر إذا تيمم للصلاة، ثم أسلم؛ لا يصح تيممه، ولا تجوز الصَّلاة بذلك التَّيمم، نَصَّ عليه شيخ الإسلام في «المبسوط» ؛ لأنَّ الكافر ليس بأهل النِّية؛ لأنَّها عبادة، والتَّيمم لا يصح بدون النِّية، وعن هذا فرق الإمام أبو يوسف بين نية الإسلام، ونية الصَّلاة، فقال:(يكون مُتيممًا في الأولِ دون الثَّاني؛ لأنَّه أهل للإسلام، فيصح منه نية التَّيمم للإسلام، بخلاف نية الصَّلاة؛ لأنَّه ليس من أهل الصَّلاة، فإذا تيمم وهو مُسلم، ثُمَّ ارتدَّ، ثمَّ أسلم؛ فهو على تيممه، فلا ينتقض بالرِّدة، فيصلي بذلك التيمم، بل الرِّدة تُبطل ثواب العمل؛ لا يحكم بإسلامه).
قال في «البحر» : (الأصل: أنَّ الكافر متى فعل عبادة، فإن كانت موجودة في سائر الأديان؛ لا يكون به مسلمًا؛ كالصَّلاة منفردًا، والصوم، والحجِّ الذي ليس بكامل، والصَّدقة، ومتى فعل ما اختص بشرعنا، فإن كان من الوسائل؛ فكذلك، وإن كان من المقاصد أو من الشَّعائر؛ كالصَّلاة بجماعة، ونحوها؛ يكون به مسلمًا) انتهى.
وفي «منهل الطلاب» : (وإنَّما يُحكم على الكافر بإسلامه إذا صلى بأربعة شروط:
أحدها: أن يصلي في الوقت؛ لأنَّها صلاة المؤمنين، فلو صلى في غير الوقت؛ لا يحكم بإسلامه.
الثاني: أن يكون مع الجماعة، فلو صلى منفردًا؛ لا يحكم بإسلامه؛ لأنَّه غير مختص بشرعنا.
الثالث: أن يصلي مؤتمًّا؛ لأنَّ الائتمام يدلُّ على اتباع المؤمنين، بخلاف ما لو كان إمامًا؛ فإنَّه يحتمل نية الانفراد فلا جماعة.
والرابع: أن يكون متممًا، فلو صلى خلف الإمام، وكبَّر، ثمَّ أفسد صلاته؛ لم يكن مُسلمًا، وكذا يصير مُسلمًا بالحجِّ الكامل، والأذان في المسجد)، وتمامه فيه؛ فليحفظ.
(يكفيه من الماء) يعني: يكفي المُسلم أن يجزئه التَّيمم عند عدم الماء؛ بشرط أن تكون الأرض طاهرة؛ لقوله تعالى: {صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43]؛ يعني: طاهرًا، فالصَّعيد: آلة للتطهير، فلا بد من طهارته في نفسه؛ كالماء، كذا في «الهداية» ، فلو تيمم بغبار ثوبٍ نجسٍ؛ لا يجوز إلا إذا وقع ذلك الغبار عليه بعد ما جف، كذا في «فتح القدير» وغيره، ولا بدَّ أن تكون طهارته مقطوعًا بها، فلو تيمم على أرض قد أصابتها نجاسة فجفتوذهب أثرها؛ لم يجز في ظاهر الرِّواية عن الإمام الأعظم، بخلاف الصَّلاة عليها، كذا في «البدائع» ، وظاهر كلامهم: أنَّ الأرض التي جفَّت نجسة في حقِّ التَّيمم منها، طاهرة في حقِّ الصَّلاة عليها، والحقُّ أنَّها طاهرة في حقِّ الكلِّ، وإنَّما منع التَّيمم منها؛ لفقد الطُّهورية؛ كالماء المُستعمل طاهر غير طهور، كذا قاله صاحب «البحر» .
وهل يأخذ التُّراب حكم الاستعمال؟
ففي «الخُلاصة» وغيرها: (لو تيمم جنبٌ أو حائضٌ من مكانٍ، فوضع آخر يده على ذلك المكان، فتيمم؛ أجزأه، والمستعمل هو التُّراب الذي لاقى الوجه والذِّراعين).
وفي «المحيط» : لو تيمم اثنان من مكان واحد؛ جاز؛ لأنَّه لم يصر مُستعملًا؛ لأنَّ التَّيمم إنَّما يتأدَّى بما التزق بيده لا بما فضل؛ كالماء الفاضل في الإناء بعد وضوء الأول، كذا في «منهل الطُّلاب» .
340 -
وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا سُليمان بن حرب) بالحاء المهملة، والراء، والموحدة: هو الأزدي الواشحي؛ بمعجمة، ثم مُهملة، البصري قاضي مكة (قال: حدثنا شُعبة) هو ابن الحجاج، (عن الحَكَم)؛ بفتحتين: هو ابن عُتيبة؛ بضمِّ العين المهملة، (عن ذرٍّ) بالذال والرَّاء: هو ابن عبد الله الهمْداني؛ بسكون الميم، (عن ابن عبد الرحمن بن أَبْزَى)؛ بفتح الهمزة، وسكون الموحدة، وبالزاي، وهو سَعِيْد بن عبد الرَّحمن، (عن أبيه) هو عبد الرحمن بن أبزى المذكور:(أنَّه) أي: عبد الرَّحمن (شَهِد) أي: حَضَر (عُمر) هو ابن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه، (وقال له) أي: لعُمر (عمَّار)؛ بتشديد الميم: هو ابن ياسر، والجملة محلها نصب؛ لأنَّها وقعت حالًا (كنَّا في سرِيَّة)؛ بتخفيف الراء، وتشديد المثناة التحتية: وهي القطعة من الجيش، يبلغ أقصاها أربع مئة يُبعث إلى العدو، وجمعها السَّرايا، سُموا بذلك؛ لأنَّهم يكونون خُلاصة العَسكر وخيارهم، من الشَّيء السِّري؛ وهو النَّفيس، وقيل: سُموا بذلك؛ لأنَّهم يبعثون سِرًّا وخُفْيةً، وليس هذا بالوجه؛ لأنَّ (لام) السِّر (راء)، وهذه ياء، قاله إمام الشَّارحين؛ فليحفظ.
(فأجنبنا)؛ أي: صارَ جُنبًا، والجُنب يستوي فيه الواحد والمثنى والجمع، مذكرًا ومؤنثًا، كما قدمناه، (وقال) أي: عمَّار، أو عبد الرَّحمن الرَّاوي، وهذا هو الظَّاهر؛ فليحفظ:(تفل فيهما)؛ أي: في اليدين، وهو بالمثناة الفوقية، قال الجوهري: التَّفل: شبيه بالبزق، وهو أقلُّ منه، وأوله البزق، ثم التفل، ثم التفث، ثم النفخ، والمقصود منه: أنَّه قال مكان (نفخ فيهما) : (تفل فيهما)؛ يعني: حين ضرب عمَّار بيديه الأرض؛ لأجل التيمم من الجنابة؛ تفل فيهما؛ لئلا يعلق فيهما شيء من الحجر الصغير، والتراب، وغيرهما؛ لئلا يتلوث وجهه، فيصير مثلة، ولا يخفى أنَّ التَّفل لا يبقي من التراب شيئًا على اليدين، بل ولا من الغبار؛ لأنَّه نفخٌ شديدٌ، فيزول ذلك عنهما بالكليَّة؛ فافهم.
وهذه روايته الثَّالثة، وأفادت: أنَّ عُمر رضي الله عنه كان قد أجنب، والدَّليل عليه: أنَّ اجتهاده خالف اجتهاد عمَّار؛ لأنَّ عمارًا
(1)
قد تيمم عن الجَنابة، وعمر لم يتيمم منها؛ لأنَّ عنده أنَّ الجنابة لا يجوز فيها غير الماء، كما قدمناه مفصلًا.
341 -
وبالسَّند إليه قال: (حدثنا ابن كثير)؛ بالمثلثة: هو مُحمَّد (قال: حدثنا شُعبة) هو ابن الحجاج، (عن الحَكَم)؛ بفتحتين: هو ابن عُتيبة؛ بضمِّ أوله، (عن ذرٍّ)؛ بالذَّال، والرَّاء: هو ابن عبد الله الهمْداني، (عن ابن عبد الرَّحمن بن أبْزَى) هو سَعِيْد؛ بكسر العين المُهملة، بن عبد الرَّحمن، (عن أبيه) هو عبد الرَّحمن ابن أبْزَى المذكور (قال: قال عمَّار)؛ بتشديد الميم: هو ابن ياسر (لعمر) هو ابن الخطاب رضي الله عنهما: (تمعَّكت) وفي رواية: (تمرَّغت)؛ ومعناه: تقلَّبت، وفي الرِّواية السَّابقة:(تمرَّغت كما تتمرَّغ الدَّابة)؛ يعني: حين صار جُنبًا، قال عمَّار:(فأتيت النَّبي) الأعظم صلى الله عليه وسلم أي: في المدينة المنورة، فأخبره بما وقع له في سفره مع سيدنا عُمر، وأنَّه فعل بخِلاف ما اجتهده عُمر، (فقال) أي: النَّبيَّ الأعظم صلى الله عليه وسلم له: (يكفيك الوجه) أي: يكفيك مسح الوجه (والكفين) أي: مسحهما في التيمم، و (الكفين)؛ بالنَّصب رواية أبي ذرٍّ، وكريمة، وفي رواية الأصيلي وغيره:(والكفان)؛ بالرَّفع، وهو الظَّاهر؛ لأنَّه معطوف على (الوجه)، وهو مرفوع على الفاعلية، والأحسن في وجه النصب: أن تكون (الواو) بمعنى: مع؛ أي: يكفيك الوجه مع الكفين، كذا قاله إمام الشارحين، وزعم الكرماني: أن (الواو) بمعنى: مع، أو الأصل مسح الوجه والكفين، فحُذِف المُضاف، وبقي المجرور به على ما كان عليه.
قال إمام الشَّارحين: قلتُ: على قوله هذا ينبغي أن يكون (الوجه) أيضًا مجرورًا؛ كـ (الكفين)، وهذا أوجه إن صحت الرِّواية به) انتهى.
قلت: لم تصح الرَّواية بهذا عن أحد من الرُّواة مع ما فيه من التَّكليف الذي هو غير مُحتاج إليه؛ فليحفظ.
لكنْ ذكر القسطلاني: أنَّه قيل: رُوِي (الوجهِ والكفينِ)؛ بالجر فيهما، ووجهه ابن مالك بوجهين؛ أحدهما: أن الأصل: يكفيك مسح الوجه، فحذف المضاف، وبقي المجرور به على ما كان عليه، والثَّاني: أن تكون (الكاف) من (يكفيك) حرفًا زائدًا؛ كما في: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، ورده الدماميني، فقال: يدفعه كتابة (الكاف) متصلة بالفعل؛ أي: بقوله: (يكفي) انتهى.
قال القسطلاني: (والظَّاهر: ثبوت الجر رواية، فإنَّه ثابتٌ مع بقية الأوجه في «الفرع» المقابلة على نسخة اليونيني، وإنَّ ابن مالك حضره عند سماع البُخاري عليه) انتهى.
قلتُ: ولم يُصرِّح ابن مالك بأنَّ الجر ثابت، وتوجيهه هذا من جهة العربية لا يدل على ثُبوته، وثُبوته في الفرع المقابل لا يدلُّ على ثبوته؛ لاحتمال التَّحريف في الفرع، وعدم المقابلة سهوًا؛ فتأمل.
وزَعم ابن حجر في رواية أبي ذرٍّ: (يكفيك الوجه
(1)
في الأصل: (عمار)، والمثبت هو الصواب.
والكفين)؛ بالنَّصب فيهما على المفعولية بإضمار (أعني)، أو التقدير: يكفيك أنْ تمسح الوجه والكفين.
وردَّه إمام الشَّارحين؛ حيث قال: (قلتُ: هذا كلام من ليس له مس من العربية؛ لأنَّ التَّقدير الأول: يبقي الفعل ثلاثًا بلا فاعل، وهو لا يجوز، وفي الثاني: أخذ فاعله؛ فلا يحتاج إلى هذا التقدير؛ لعدم الدَّاعي إلى ذلك، والوجه ما ذكرناه) انتهى كلامه.
ثُمَّ قال: ويُستنبط منه: أنَّ التَّيمم: هو مسح الوجه والكفين لا غير، وإليه ذهب جماعة؛ منهم: أحمد ابن حنبل، وإسحاق، وأبو ثور، وهو قول الشَّافعي في القديم، رواه عنه أبو ثور، كما قاله النَّووي، وأنكره الماوردي وغيره، قال:(وهو إنكار مردود؛ لأنَّ أبا ثور ثِقة) انتهى.
والجُمهور على خلاف هذا كما بيناه فيما سبق.
قال إمام الشَّارحين: والمراد من هذا الحديث: بيان صورة الضَّرب؛ للتَّعليم، لا لبيان جميع ما يحصل به التَّيمم) انتهى.
قلتُ: يدلُّ عليه الأحاديث التي قدمناها من أنَّه عليه السلام قال: «التَّيمم ضربةٌ للوجه، وضربةٌ لليدين إلى المِرفقين» ، وقياسًا على الوضوء، فإنَّه تعالى قال:{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43]، واليد: من رؤوس الأصابع إلى الكتف، والغاية في الوضوء دلت على الغاية في التيمم، و (الكفُّ) لا يقال له: يد عند أهل اللُّغة وغيرهم، فثبت أن المُراد بهذا: بيان التَّعليم، لا بيان الكيفية؛ فليحفظ.
وزَعمَ ابن حجر أنَّ سياق الكلام يدلُّ على أنَّ المُراد: جميع ما يحصل به التَّيمم؛ لأنَّ ذلك هو الظَّاهر من قوله: «إنَّما يكفيك» ، انتهى.
قلتُ: وهذا مردودٌ، فإن سياق الحديث يدلُّ على التَّعليم؛ لأنَّ في مَعْرِض ذلك؛ لأنَّ عمَّارًا قد فعل التَّمعك، وحين جاءه عليه السلام قال له: «إنَّما يكفيك
…
»؛ إلخ، فهو بيان للتَّعليم، لا بيان وجه الكيفية، ولو كان مراده بيان الكيفية؛ لكان ضرب النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم يديه الأرض، وأراه صفة التَّيمم، فعبَّر عليه السلام بالكفين مجازًا عن اليدين؛ لأنَّهما أول اليدين، فعبَّر بالبعض عن الكُلِّ، ولهذا نظائر في لسان العرب وكلامهم.
وقوله: (لأنَّ ذلك هو الظَّاهر) غير ظاهر، بل هو فاسد؛ لأنَّه إذا كان في ذلك أحاديث كثيرة؛ بعضها مرفوع، وبعضها موقوف؛ كيف يعدل عنها إلى هذا مع مخالفته القرآن العظيم، وأفعال الصَّحابة رضي الله عنهم؟!
ومع هذا قال الحافظ أبو جعفر الطَّحاوي وغيره: (إن حديث عمَّار لا يَصلُح حجَّة في كون التَّيمم إلى الكفين، أو إلى الكوعين، أو إلى المرفقين، أو إلى المنكبين، أو إلى الإبطين، كما ذهبت إلى كلِّ واحدة طائفةٌ من أهل العلم، وذلك لاضطرابه كما رأيت؛ ولذلك قال التِّرمذي: (وقد ضعَّف بعض أهل العلم حديث عمَّار في التيمم للوجه والكفين كما روي عنه حديث المناكب والإباط) انتهى.
قلت: ولم يُنقل عن أحد من أهل العلم أنَّه ضعَّف رواية عمَّار في التَّيمم للوجه واليدين إلى المرفقين؛ لأنَّها رُوِيت مرفوعة إلى النَّبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم بأسانيد صحيحة؛ لأنَّها موافقة للقرآن الكريم، وقد رُويت أيضًا موقوفة، ورُويت آثار كثيرة عن الصَّحابة والتَّابعين فيها، وإذا انضمت الطُّرق بعضها إلى بعض؛ تقوَّت غاية التقوِّي، فلا سبيل إلى العُدول عنها، وقد بسطنا الكلام عليه في الباب السَّابق؛ فليحفظ.
342 -
وبالسَّند إليه قال: (حدثنا مُسلم) هو ابن إبراهيم الفراهيدي البَصريُّ (قال: حدثنا شُعبة) هو ابن الحجاج، (عن الحَكَم)؛ بفتحتين: هو ابن عُتيبة؛ بضمِّ العين المهملة، (عن ذرٍّ) هو ابن عبد الله الهمْداني، (عن ابن عبد الرَّحمن بن أبْزَى) هو سَعِيْد؛ بكسر العين المهملة، (عن عبد الرَّحمن) هو ابن أبْزَى، ووالد سَعِيْد المذكور (قال: شهدت) أي: حَضَرت (عُمر رضي الله عنهما هو ابن الخطَّاب أمير المؤمنين رضي الله عنه (قال) وفي رواية: (فقال)(له) أي: لعُمر (عمَّار) هو ابن ياسر، والجملة محلها نصب؛ لأنَّها حالية، (وساق الحديث)؛ الألف واللام لـ (العهد)؛ أي: المذكور آنفًا، وهذه روايته الخامسة.
343 -
وبالسَّند إليه قال: (حدثنا محمَّد بن بشَّار) بالموحدة، وتشديد المعجمة (قال: حدثنا غُنْدَر)؛ بضمِّ الغين المعجمة، وسكون النون، وفتح الدال المهملة، وهو لقب محمَّد بن جعفر البَصري (قال: حدثنا شُعبة) هو ابن الحجاج، (عن الحَكَم)؛ بفتحتين: هو ابن عُتيبة؛ بضمِّ أوله، (عن ذرٍّ) هو ابن عبد الله الهمداني، (عن ابن عبد الرَّحمن بن أبْزَى) هو سَعِيْد؛ بكسر العين المهملة، (عن أبيه) هو عبد الرَّحمن بن أبْزَى المذكور:(قال عمَّار) بتشديد الميم: هو ابن ياسر (فضرب النَّبيُّ) الأعظم صلى الله عليه وسلم حين أخبره بما فعله في السفر (بيده) بالإفراد (الأرض) أي: وجهها (فمسح وجهه وكفيه)؛ يعني: بيد واحدة، ولا ريب أنه يصير مستعملًا وليس له وجه غير أنَّه مُضطرب الرِّواية، فلا يَصْلُح حجَّة أصلًا، ولم يسق المؤلف هذا الحديث تامًّا من رواية أحد من أشياخه الستة المذكورين، ولم يذكر جواب عُمر، وليس ذلك من المؤلف، وأخرجه البيهقي من طريق آدم كذلك، وذكر جوابه مسلم من طريق يحيى بن سَعِيْد، والنَّسائي من طريق حجاج بن محمَّد؛ كلاهما عن شُعبة، ولفظهما فقال:(لا تُصلِّ)، زاد السَّراج:(حتى تجد الماء)، وهذا مذهب عُمر، ووافقه عليه ابن مسعود، ولكن قدمنا أنهما رجعا عن ذلك كله، وقالا بجواز التَّيمم عن الجَنابة، كما قدمناه مفصَّلًا؛ فافهم.
والظاهر: أن المؤلف أراد بتعدد الرِّواية: بيان تعدد أشياخه في هذا الحديث كما هو عادته في جملة من الأبواب، وليس مُراده: التَّقوية؛ لما علمت من نصِّ الحافظ الطحاوي وما قاله الترمذي، وقد مضى الكلام في ذلك مستوفًى، والله تعالى أعلم، وأستغفر الله العظيم.
(6)
[باب الصَّعيد الطَّيِّب وضوء المسلم يكفيه من الماء]
هذا (بابٌ)؛ بالتنوين (الصَّعيد)؛ مبتدأ فعيل بمعنى: مفعول؛ أي: يُصعد عليه، أو فعيل بمعنى: فاعل؛ أي: صَاعدًا، وهذه الأشياء صاعدة فيعم جميع وجه الأرض لا خلاف
(1)
فيه بين أهلِ اللُّغة، كما قاله الأصمعي، والزجاج، (الطَّيِّب) صفة للمبتدأ: وهو الطَّاهر؛ لقوله تعالى: {حَلالًا طَيِّبًا} [البقرة: 168]؛ يعني: طاهرًا، ولقوله عليه السلام:«إن الله طيِّب يحب الطَّيِّب» ، وهذا أليق المعاني به؛ لأنَّه قال تعالى في آخر الآية:{وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ}
(2)
[المائدة: 6]، (وَضوء المسلم)؛ بفتح الواو: ما يُتَوضأ به؛ يعني: ما يُطهره، بخلاف الكافر، فإنه إذا تيمم؛ لا يكون به مُسلِمًا؛ يعني: لم يُطهره، فلو أسلمَ، وهو مُتيمِّم، وأراد الصَّلاة بذلك التَّيمم؛ لا تصح به الصَّلاة إلا أن يجدِّده كما قدمناه، (يكفيه) أي: يُجزئه، ويُغنيه، (عن الماء) عند عدمه حقيقة أو حكمًا؛ كمن وجده في بئر وليس عِنده آلة أو عِنده حيَّة، أو عدوٌّ، أو غيرها.
قال إمام الشَّارحين: (ومثل هذه التَّرجمة روى البزار من طريق هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة مرفوعًا إلى النَّبيِّ الأعظم صلى الله عليه وسلم، وصححه ابن القطان).
وقال الدَّارقطني: الصواب: إرساله، وروى أبو داود من حديث أبي قِلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذرٍّ قال: (اجتمعت
(1)
في الأصل: (خلافًا)، وهو تحريف.
(2)
في الأصل: (ولكنْ لِيُطهِّركم به)، ربما اشتبه عليه الآية التي في سورة الأنفال:{لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ} [الأنفال: 11].
غنيمة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
)؛ الحديث، وفيه: فقال: «الصَّعيد الطَّيِّب وَضوء المسلم، ولو إلى عشر سنين» ، ورواه التِّرمذي أيضًا، وقال:(حديثٌ حسنٌ صحيحٌ)، ورواه النَّسائي، وابن حِبَّان في «صحيحه» ، والحاكم في «مُستدركه» ، وقال:(حديثٌ صحيحٌ)، ولم يخرجاه ولا يُلتفت إلى تضعيف ابن القطان لهذا الحديث بعمرو بن بجدان؛ لكون حاله لا يعرف، ويكفي تصحيح التِّرمذي إياه في معرفة حال عمرو بن بجدان، وكذا تصحيح الحاكم، و (بُجْدان)؛ بضمِّ الموحدة، وسكون الجيم، بعدها دال مهملة، وفي آخره نون، وقوله في الحديث:(ولو إلى عشر سنين) المُراد بها: الكثرةُ، لا العشرة بعينها، وتخصيص العشرة؛ لأجل الكثرة؛ لأنَّها مُنتهى عدد الكثرة؛ والمعنى: أنَّ له أن يفعل التَّيمم مرةً بعد أخرى وإن بلغت مدةُ عدم الماء إلى عشر سنين، وليس معناه: أنَّ التَّيمم دفعة واحدة يكفيه عشر سنين، كما قد يتوهم، قاله إمام الشَّارحين في «عُمدة القَاري» رحمه الكريم الباري.
(وقال الحسن) هو البصري (يُجزئه)؛ بضمِّ المثناة التحتية أوله، وبالهمزة، وفي آخره هاء، من الإجزاء، وهو لغةً: الكِفاية، وفي الاصطلاح: الأداء الكافي لسقوط التعبد به، وفي رِواية:(يجزيه)؛ بفتح المثناة التحتية الأولى، وسكون الثانية، وقال الجوهري:(جزأت بالشيء: اكتفيت به، وجزى عني هذا؛ أي: قضى، فهو على التَّقديرين لازم، فلعلَّ التَّقدير يقضي عن الماء)(التَّيمم) فحذف الجار، وأوصل الفعل، وعلى التقدير الأول: يكفيه التَّيمم الواحد، (ما لم يحدث)؛ أي: مدة عدم وجود الحدث، والقصد من هذا: أنَّ التَّيمم حُكمه حُكم الوضوء في جواز أداء الفرائض المتعددة به، والنَّوافل ما لم يحدث بأحد الحدثين، وهو قول الإمام الأعظم رئيس المجتهدين، وبه قال الإمام أبو يوسف، والإمام محمَّد بن الحسن، وسُفيان الثَّوري، وعَطاء، وإبراهيم، وسَعِيْد بن المُسيِّب، والزُّهْرِي، والحسن بن حيٍّ، وداود بن عليٍّ، وهو المنقول عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، وهذا التَّعليق وصَله ابن أبي شيبة: حدثنا هشيم، عن يونس، عن الحسن قال:(لا ينقض التيمم إلا الحدث)، وحكاه أيضًا عن إبراهيم، وعطاء.
ووصَله أيضًا عبد الرزاق، ولفظه:(يجزئ تيمم واحد ما لم يُحْدِث).
ووصَله أبو منصور أيضًا، ولفظه:(التَّيمم بمنزلة الوضوء إذا توضأت؛ فأنت على وضوء حتى تُحْدث).
وقال ابن حزم: روينا عن حمَّاد بن سَلَمَة -يعني: من «مُصنفه» -عن يونس بن عُبيد، عن الحسن قال:(يصلي الصلوات كلها بتيمم واحد؛ مثل الوضوء ما لم يُحْدِث).
قلتُ: وهذا أوضح وأصرح مما قاله المؤلف عنه؛ لأنَّه صريح في أنَّ التَّيمم مثل الوضوء في جواز أداء الفرائض المتعددة به والنَّوافل ما لم يحدث بحدث ما، وهذا مذهب الجُمهور، وخالفهم الشَّافعية فزعموا أنَّه يتيمم لكل صلاة فرض، وهو قول مالك، وأحمد، وإسحاق، وقَتادة، وربيعة، ويحيى بن سَعِيْد الأنصاري، وشريك، والليث بن سعد، وأبي ثور؛ لما رواه البيهقي عن ابن عُمر قال:(تيمَّم لكل صلاة ما لم تحدث)، وقول علي الصدِّيق الأصغر:(تيمَّم لكل صلاة)، رواه البيهقي أيضًا.
وروى الدَّارقطني عن ابن عباس أنَّه قال: (من السُّنة ألَّايُصلي بالتيمُّم أكثر من صلاةٍ واحدة)، وروي مثله عن عمرو بن العاص؛ ولأنَّ التَّيمم طهارة ضرورية، فإنَّ التُّراب ملوث في نفسه، ولهذا يعود حكم الحدث السابق عند رؤية الماء، فلم يرتفع الحَدث؛ لأنَّه لو ارتفع الحَدث؛ لم يعد إلا بحَدث جديد، ولكنْ أُبِيحت الصَّلاة للضرورة، فإذا صلى الفرض؛ فقد انتفت الضَّرورة، ولا تعود إلا بمجيء وقت آخر، وهي في حق النوافل دائمة؛ لدوام مشروعيتها، فتبقى بالنسبة إليها.
وأجيب: بأنَّ هذه الآثار كلها ضعيفة لا يُحتج بها، فإنَّ في:
سند الأوَّل: عمَّار
(1)
، فقد ضعفه ابن عُيينة، وأحمد ابن حنبل، وقال ابن خزيمة:(الرِّواية فيه عن ابن عُمر لا تَصُح).
وفي سند الثَّاني: الحارث الأعور، وهو ضعيف.
وفي سند الثَّالث: الحسن بن عمارة، فقال جماعة: هو مَتروك، وقد تكلَّموا فيه، وذكره مسلم في مقدمة كتابه في جملة من تكلم فيه، رواه عنه أبو يحيى الهمداني
(2)
، وهو متروك.
وفي سند الرَّابع: الحجاج بن أرطأة، وهو ضعيف، ومع هذا فإن ظاهرها متروك؛ لأنَّهم يجوزون أكثر من صلاة واحدة من النوافل مع الفرض تبعًا له بشرط أنْ يُتيمَّم له، فلو تيمَّم لصلاة النفل؛ لا يجوز أن يؤدي الفرض به، وعلى عكسه؛ يجوز، وما هذا إلا تناقض على أنَّ قول ابن عباسٍ، وعَمرو بن العاص: (من السُّنة ألَّا يُصلي
…
) إلخ يدلُّ على النَّدب، والاستحباب لا الافتراض؛ لأنَّه جعل هذا من السُّنة، فإذا كان ذلك سُنة؛ جاز أن يؤدي به أكثر من فرض، ويكون تاركًا للسُّنة، وأيضًا صَريح هذه الآثار يدلُّ على تعميم النَّوافل أيضًا، فإنَّهم قالوا: لكلٍّ صلاة، وصلاة النَّفل صلاة شرعًا وعُرفًا، فكيف يفرقون؟!، وما هذا إلا قول بالرَّأي الغير السَّديد، ولأن اعتبار الحدث مانعية عن الصَّلاة شرعية لا يشكل معه أنَّ التَّيمم رافع؛ لارتفاع ذلك المنع به، وهو الحقُّ إذ لم يقم على أكثر من ذلك دليل، وتغير الماء برفع الحدث إنَّما يستلزم اعتباره نازلًا عن وصفه الأوَّل بواسطة إسقاط الفرض لا بواسطة إزالة وصف حقيقي مُدنَس.
والدَّليل لما قاله الجُمهور: إنَّ الصَّعيد طَهور بشرط عدم الماء بالنَّص وهو قوله تعالى: {فَلَمْ
(3)
تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43]، وقوله عليه السلام:«الصَّعيد الطَّيِّب وُضوء المُسلم ولو إلى عشر سنين» ، كما قدمناه قريبًا، وقوله عليه السلام:«التُّراب طُهور المُسلم ولو إلى عشر حِجج ما لم يجدِ الماء» ، رواه الشَّيخان، وقوله عليه السلام:«وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا» ، رواه الشَّيخان أيضًا.
فلو قلنا: بأنَّه غيرَ طهور حالَ عدم الماء؛ لما تحقَّقت الخصوصيَّة؛ لأنَّ طهارةَ الأرض بالنَّسبة إلى سائر الأنبياء ثابتة، وإذا كان مطهرًا، فتبقى طهارته إلى وجود غايتها؛ وهو وجود الماء، والمعنى فيما قبله: أن للمحدث أن يصلي بالتَّيمم مرة بعد أخرى ولو إلى عشر سنين ما لم يُحدث أو يَجدِ الماء، ولأن هذه الآية والأحاديث مطلقة، فلا يجوز تقيدهابخبر الواحد، فكيف بالأثر؟ ومع هذا، فالآثار المذكورة أوهى من بيتِ العنكبوتِ، فكل ما هو طهورٌ بشرطِ؛ يعملُ عمله ما دامَ على شرطه؛ كالماءِ فإنه طهور بشرط كونه طاهرًا، ويعمل عمله ما دام شرطه موجودًا.
فإن قلتَ: هذه العبارة تقتضي أن يكون وجود الشرط مستلزمًا؛ لوجود المشروط، وليس كذلك؟
قلتُ: الشَّرط إذا كان مساويًا للمشروط؛ استلزمه وهنا كذلك، فإن كلَّ واحد من عدم الماء وجواز التَّيمم مساوٍللآخر لا محالة، فجاز أن يسلتزمه، وتمامه في «البحر الرائق» شرح «كنز الدقائق» للعلامة المحقق زين الدين
(1)
في الأصل: (عامر)، وليس بصحيح.
(2)
في الأصل: (الهماني)، ولعله تحريف.
(3)
في الأصل: (فإن لم)، وليس بصحيح.
بن نجيم رضي الله عنه، وقد طوَّل الكرماني في الاحتجاج للشَّافعيِّ، ومن تبعه في هذا من طريق العقل، والنقل يبطله؛ فافهم.
(وأَمَّ ابن عباس)؛ بفتح الهمزة، من الإمامة؛ أي: صلى إمامًا بأصحابه (وهو متيمم) كما وصله ابن أبي شيبة، والبيهقيُّ أيضًا بإسنادٍ صحيحٍ، ووجه مناسبة هذا للترجمة من حيث إن التَّيمم وضوء المسلم، فإذا كان كذلك؛ يجوز إمامة المتيمم للمتوضئ؛ كإمامة المتوضئ، فدلَّ ذلك: على أن التَّيمم طهارة مطلقة غير ضروريَّة؛ إذ لو كان ضروريًّا؛ لكان ضعيفًا، ولو كان ضعيفًا؛ لما أَمَّ ابن عباس وهو متيمم بمن كان متوضئًا، وهذا مذهب الإمام الأعظم، والإمام أبي يوسف، وبه قال الثَّوري، وإسحاق، والشَّافعي، وأحمد، وأبو ثور، وكَرِه مالك، وعبد الله بن الحسن ذلك، فإن فعل؛ أجزأه، وقال الإمام محمَّد بن الحسن: لا يجوز اقتداءُ متوضئٍ بمتيمم، وبه قال يحيى بن الحسن، والحسن بن يحيى، والأوزاعي، وربيعة، ويحيى بن سَعِيْد الأنصاري، واستدلَّ الإمام الأعظم، والجمهور بحديث عمرو بن العاص رواه ابن شاهين بإسناد صحيح: أنَّه عليه السلام جعله أميرًا على سَرِية، فلمَّا انصرفوا؛ سألهم عن سيرته، فقالوا: كان حسن السيرة، ولكنه صلى بنا يومًا وهو جنب، فسأله النَّبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم، فقال: احتلمت في ليلة باردة خشيتُ الهلاكَ إن اغتسلت، فتلوت قوله تعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، فتيممت، وصلَّيت بهم، فتبسَّم النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم، وقال:«يا لك من فقه عمرو بن العاص!» ، ولم يأمرهم بالإعادة، وقال أبو طالبٍ: سألت أبا عبد الله عن الجنب يؤمُّ المتوضئين، قال: نعم، قد أَمَّ ابن عباس أصحابه وفيهم عمَّار بن ياسر وهو جنب فتيمم، ولأنَّه طاهر اقتدى بطاهر، فإن التَّيمم عندَ عدمِ الماءِ مُطهر، والعدم ثابت في حق الكل؛ فتكون طهارته ثابتة في حقهم، ولأنَّ الصعيد خلف عن الماء في حصول الطهارة، فبعد حصولِ الطهارةِ كان شرط الصَّلاة موجودًا في حق كل واحد منهم بكماله، فصار بمنزلة الماسح يؤمُّ الغاسلين، واستدلَّ الإمام محمَّد بن الحسن، ومن تبعه بما رُوِي عن جابر مرفوعًا:«لا يؤمُّ المتيمم المتوضئين» ، وبما روي عن علي الصدِّيق الأصغر موقوفًا:«لا يؤمُّ المتوضئين المتيممون» ، ولا المقيد المطلقين، وبما ذكره ابن شاهين من حديث الزُهْرِي عن ابن المسيِّب عن عمر بن الخطاب مرفوعًا:«لا يؤمُّ المتيمم المتوضئين» ، ولأن التَّيمم طهارةٌ ضروريةٌ، وهو خلف عن الوضوء، فيكون المتيمم صاحب الخلف، والمتوضئ صاحب الأصل، فلا يؤمُّه؛ لأنَّه أضعف منه.
وأجاب الجمهور: بأنَّ ما رُوي عن جابر وعليٍّ ضعيف، فقد ضعفهما الدَّارقطنيُّ، وابن حزم، وغيرهما، وما ذكره ابن شاهين عن الزُهْرِي ضعيفٌ أيضًا، (ولئن صح هذا عنهم؛ فيحملُ أن يكونَ حديثُ عمرو بن العاص ناسخًا للثلاثة؛ لأنَّه صحيح الإسناد، ويحتمل أن يكون النهي في ذلك لضرورة وقعت مع وجود الماء)، قاله ابن شاهين.
قلت: ويحتمل أن يكون النهي لنفي الفضيلة والكمال، بدليلِ عطف المقيد عليه، وهناك المراد: نفي الفضيلة إجماعًا، واعترض: بأن حديث عمرو بن العاص رخصة له؛ لأنَّه لم ينهه ولم يأمره بالإعادة.
وأجيب: بأنه ليس من الرخصة في شيءٍ؛ لأنَّه لو كان رخصةً له دون غيره؛ لم يقل له النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم: أحسنتَ، وتبسَّم في وجهه، وقال له:«يا لك من فقه عمرو بن العاص!» ، فقد جعل هذا من الفقه وهو عامٌّ له ولغيره، ولأنَّ التَّيمم طهارةٌ مطلقة فيما شرع طهارةفي حقه؛ وهو أداء الصَّلاة، وما يتوقف صحته على الطهارة، وإلى هذا الإطلاق أشير في قوله عليه السلام: «جُعِلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا
…
»؛ الحديث، فتيمم الإمام بعد تحقق شرطه طهارة مطلقة في حقه وحق المقتدي؛ لأنَّه كالوضوء في حقِّ أداء الصَّلاةِ، فلا يمنعُ صحة اقتدائهِ به، كما لو كان متوضئًا حقيقةً، واستعمال المقتدي الماء لا يصير الماء موجودًا في زعمه، فكان الإمام طاهرًا في زعمه بخلاف ما لو كان معه ما لا يشعر به إمامه، فإن الشَّرط لم يوجد في زعمه، انتهى.
وقد أوضح المقام في «معراج الدراية» ؛ فليحفظ.
وزَعم ابن حجر أنَّ هذه المسألة وافق فيها الكوفيون، والجمهور على خلاف ذلك، واحتجَّ المصنف لعدم الوجوب بعموم قوله في حديث الباب، فإنه يكفيك ما لم تحدث أو تجد الماء، وحمله الجمهور: على أعمَّ من ذلك؛ أي: لفريضةٍ واحدة، وما شئتَ من النَّوافلِ، انتهى.
وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (وقوله: «إن هذه المسألة
…
» إلى آخره: هذا عكس القضية، بل الجمهور على الموافقة، يقف عليه من يمعن النظر في الكتب).
وقوله: (واحتج المصنف
…
إلى آخره) ليس كذلك، بل معنى قوله:«فإنَّه يكفيك» ؛ أي: في كل الصلوات فرضها ونفلها، وهذا هو معنى الأعمِّية، وليس في قوله:(لفريضةٍ واحدةٍ وما شئتَ من النَّوافل) معنى الأعمِّية، فإن معنى الأعمِّية: أن يكون شاملًا لجميعِ أفرادِ ذلك الشيء، وليس لقوله:(لفريضة واحدة) إفراد، وأما (النوافل)؛ فإنه تبع للفرض، والتَّابع ليس له حكمٌ مستقلٌ، بل حكمه حكم المتبوع؛ فافهم) انتهى كلامه رحمه الباري.
وهذا ابن حجرٍ لا بدَّ أن يجعلَ له في الطنبور نغمةً حتى يُظهرَ علمه، وفهمه، وبلاغته، ألا والعلم عند الله، وما علي إذا لم تفهم البقر؟! وفوق كل ذي علمٍ عليم.
(وقال يحيى بن سَعِيْد)؛ بكسر العين المهملة: هو الأنصاري: (لا بأس بالصَّلاة)؛ أي: المفروضة، والواجبة، والنافلة (على السَبَخَة)؛ بفتح حروفها كلها، واحدة السِبِاخ، فإذا قلت: أرض سَبِخة؛ كسرت الموحدة، وقال ابن سيده:(هي أرض ذات ملحٍ وَتَرٍ، وجَمعُها سِبَاخ، وقد سبَخَت سبخًا، فهي سبخة، وأسبخت)، وقال غيره:(هي أرض تعلوها ملوحة لا تَكادُ تنبت إلا بعضَ الشَّجر)، وفي «الباهر» لابن عديس:(سبخت؛ بكسر الموحدة، وفتحها)، في «شرح الموطأ» لعبد الملك بن حبيب:(السبِخة: الأرض المالحة التي لا تنبت شيئًا، وليست الردعة، ولا الرداع، كما يقول من لا يعرف)، كذا في «عمدة القاري» ، (والتيمم بها) أي: بتلك الأرض، والتعبير بلا بأس يفيد أنَّ: